فيلم «I Care a lot» والتنميط الممنهج لروزاموند بايك
بملامح ملائكية رقيقة، شعر أشقر ذهبي لامع ولغة جسد لا تضاهى خفتها، تتحرك جين الأخت الأكثر رومانسية وجمالاً بين أخوات عائلة بينيت في غرف المنزل تنتظر الحب وتحقق رؤية والديها وحلمهما في الزواج المثالي، بينما تتمرد أخواتها على تقاليد العصر، بعد مرور تسعة أعوام تقتل الشقراء نفسها حبيبها في الثانوية بدماء باردة وتجعل من زوجها مجرماً شعبياً مطلوباً للعدالة انتقاماً من نزعه عنها فردانيتها وتدميره لحياتهما الزوجية السعيدة، تتعامل مع أبشع الجرائم بخفة ودقة حسابية وملامح باردة، ترسم على وجهها ابتسامة بقدر محسوب عند الحاجة قبيل ادعائها البكاء كممثلة محترفة لتنفيذ جزء من خطتها، تمر سبعة أعوام أخرى وتعود مجدداً بالابتسامة المزيفة نفسها والقدرة الهائلة على التلاعب لكي تنفذ مخططاتها الإجرامية وتعيش حياة مزدوجة كسيدة مجتمع ظاهرياً و مجرمة سراً، تستغل ثغرات مؤسسات الدولة وهشاشة ضحاياها لكي تحصل على ثروة لطالما حلمت بها.
لفتت الممثلة البريطانية روزاموند بايك الأنظار عندما لعبت دور إحدى فتيات جيمس بوند عام 2002، ثم مجدداً عندما لعبت دور جين في اقتباس جو رايت لرواية كبرياء وإجحاف pride and prejudice عام 2005، تنوعت أدوار بايك وظلت في خانة الممثلة المساعدة حتى أعطاها ديفيد فينشر الدور الذي سيشكل صورتها ويصنع اسمها كممثلة رئيسية استثنائية في فيلم اختفاء فتاة gone girl عام 2014، لعبت بايك شخصية نسائية معقدة يندر وجودها على الشاشة، تجمع بين الشر المطلق والجاذبية، زوجة تقدم على الانتقام من زوجها بأكثر الوسائل تطرفاً وعنفاً، ترشحت للأوسكار والجولدن جلوب ولمعظم الجوائز المتاحة عن أدائها، حصلت بايك على عدة أدوار رئيسية بعد ذلك، بعضها لم يعش طويلاً في الذاكرة والبعض الآخر لاقى نجاحاً محدوداً رغم جودته، لكنها برزت للسطح مرة أخرى في هذا العام 2021 في فيلم أهتم كثيراً I care alot للمخرج جوناثان بليكسون، تعود فيه لأداء شخصية ذات نزعات عنيفة وذكاء حاد، فازت بايك بالجولدن جلوب عن دورها، ولفت الفيلم الأنظار بسبب طبيعته الساخرة، إضافة إلى عودة بايك لأداء شخصية مشابهة في عنفها ومظهرها لشخصية إيمي في اختفاء فتاة.
ضد البطل
تتولى مارلا جريسون (روزاموند بايك) دور الوصاية القانونية لرعاية كبار السن، يخبرنا صوتها الذي يروي الفيلم منذ البداية أنها شخص بلا ضمير، فهي تختار الثروة على أي خيار أخلاقي آخر، تملك مارلا قدرة كبيرة على التلاعب ويساعدها في تمرير ألاعيبها هشاشة القضاء الأمريكي وثغراته المتعددة، تستدرج كبار السن الأثرياء وتنزع عنهم أهليتهم في التصرف في أجسادهم وأموالهم، بينما تتغذى هي على ممتلكاتهم وأرباحهم، لا تملك أي تقدير للحياة الإنسانية الفردية ولا للضعف البشري، تقدر فقط الربح المادي والانتصار كقيمة، تدور أحداث الفيلم في قالب نوعي وتتغير طبيعته من كوميديا سياسية إلى فيلم إثارة مليء بالمطاردات والمفاجآت، منذ البداية يرسخ الفيلم لنفسه كنقد للرأسمالية الحديثة وطبيعتها الجافة التي لا تعطي حجماً لحياة الفرد وتتغذى على شقائه، لكنه ينجرف في ثنائيات عشوائية تدفع أحداث الفيلم وتزيد إثارته بينما يتوسطه ما يشبه دراسة شخصية لمارلا، ضد البطلة التي يصعب التعاطف معها لكن يتبنى الفيلم وجهة نظرها حتى تلقى عقابها في النهاية.
يزخر تاريخ السينما بنماذج شخصيات رجالية يمكن وصفها بضد البطل Anti hero، شخصية رئيسية جذابة لكنها لا تتبنى المبادئ والأخلاقيات التقليدية التي يتبناها الأبطال عادة، وعلى الرغم من ذلك تأسر قلوب المشاهدين بل تتحول إلى أيقونات في الثقافة الشعبية مثل ترافيس بيكل في سائق التاكسي أو الجوكر في فارس الظلام، لكي يحدث ذلك عادة ما تملك تلك الشخصية جانباً يمكن التماهي معه، فيمثل نسخة خيالية عنيفة من أنفسنا لا نتمنى أن نلقى مصيرها، لكننا نتفهم دوافعها.
قليلاً ما تعطى الفرصة النساء لتقمص تلك الشخصيات، في الأفلام التجارية والإنتاجات الناجحة هناك خياران للنساء، إما مثاليات وإما سيئات، يندر وجود شخصية نسائية ذات مبادئ غامضة وأخلاقيات ملتبسة وفي الوقت نفسه تكسب تعاطف المشاهدين، لعبت بايك ذلك النوع من الشخصيات في اختفاء فتاة، وقسمت المشاهدين بين متعاطف مع تصرفاتها وكاره لها، لكنها إحدى الشخصيات النسائية القليلة التي امتلكت تلك القيمة والتأثير وتحولت إلى أيقونة رغم تصرفاتها المرفوضة أخلاقياً.
حاول جوناثن بليكسون تكرار ذلك في فيلم أهتم كثيراً، وبطلته مارلا هي امرأة ناجحة وجميلة لكنها فاسدة كلياً، وعلى عكس اختفاء فتاة يصعب التعاطف معها أو تفهم دوافعها، تملك كراهية كبيرة للرجال وللفشل وتؤسس لنفسها كامراة ناجحة باستخدام أساليب الرجال الذين تحتقرهم، لكن الفيلم لا يعطينا أي لمحة عن الأسباب، يلمح لماضٍ غامض عانت فيه مارلا من الفقر، لكنه لا يتعمق فيما جعلها ما هي عليه، ما المصاعب التي مرت بها حتى أصبحت منزوعة الضمير كلياً، ما الصدمات التي تعرضت لها وغذت تلك الكراهية للرجال بل للبشر عموماً.
ليس شرطاً أساسياً أن يملك ضد البطل جانباً أخلاقياً أو مثيراً للتعاطف، لكن ما يجعل الشخصية تنجح هو كون تصرفاتها ذات منطق داخلي متسق مع منظومة من السمات الشخصية والتاريخية، في حالة مارلا فإنه يمكن تصنيف الشخصية كشرير villain وليس ضد بطل، رغم أن الفيلم يسعى جاهداً أن يجعلها كذلك، فهي تملك قصة حب رقيقة مع شريكتها في العمل (إليزا جونزاليز)، لكن تبدو العلاقة موجودة فقط بهدف التأكيد على كراهية مارلا للرجال دون تواصل حقيقي بين الشخصيتين، فيصعب في كثير من الأحيان التواصل معهما أو اعتبار قدرتها على الحب تمثيلاً للجانب الإنساني في شخصية غير إنسانية، تلعب روزاموند بايك شخصية مارلا ببراعة تجعل التغاضي عن مشكلات الفيلم أسهل، لكن ما يصعب التغاضي عنه هو استغلال الفيلم لنجاح بايك السابق في لعب أدوار النساء الجامحات.
تنميط الممثل
أصبحت شخصية إيمي التي لعبتها روزاموند بايك في اختفاء فتاة أيقونة شعبية، اقترن وجهها بجمل تم ابتذالها ومزحات على الإنترنت تحذر من كيد النساء وتنعتهن بالمكر واللؤم وأوصاف أكثر بذاءة، ولكنها تمدح في الوقت نفسه ذكاءها، فهي امرأة منمقة متلاعبة تملك حياتين وتجيد التمثيل باحتراف، ذات منظومة مبادئ وأخلاقيات مثيرة للتساؤل، لكنها تحدد هدفاً معيناً وتحققه بأي طريقة.
حاولت شخصية مارلا استعادة ذلك التأثير الذي خلفته إيمي، لكنها لم تصل إليه، لعبت بايك دور مارلا بدقة مشابهة لدورها في اختفاء فتاة، لكن الشخصية نفسها لم تملك نفس التأثير أو العمق، ما جعل اختفاء فتاة مؤثراً هو تفهمنا لدوافعها رغم تطرفها، في أهتم كثيراً تم استغلال جاذبية بايك وصورتها الذهنية كبطلة سيكوباتية في قصة تقليدية ذات فرضية كبيرة لم تكتمل، ذلك الاستثمار في نجاح أحد الأدوار هو ما يسمى تنميط الممثل typecasting.
في عام 2001 لعبت الممثلة الفرنسية إيزابيل أوبير شخصية من أكثر الشخصيات النسائية تعقيداً في فيلم معلمة بيانو، سيدة أنيقة وصارمة تملك حياة سرية، حيث تحقق أكثر نزواتها جموحاً وتطرفاً، بعدها أصبح اسم وصورة أوبير مرتبطاً بذلك النوع من الشخصيات، فاختارها بول فيرهوفين في دور مشابه في فيلمه هي elle.
لم تفقد أوبير أدواراً مختلفة، لكن أصبح من المتوقع منها أن تؤدي تلك المرأة المتجهمة القاسية التي تخبئ سراً كبيراً، ذلك التنميط القائم على نجاح الدور أو ملاءمة شكل الممثل له يحد من الخيارات ويخفي أدواراً تستحق الاحتفاء، وإن كانت أقل وضوحاً.
لم يتكرر ذلك بشكل كبير بالنسبة لبايك للحد الذي يمكن وصفه بالنمط بعد، في حالة (أهتم كثيراً) بنى بليكسون نسخة أكثر خواء وقسوة من إيمي، لكنه لم يلتفت لما جعل منها شخصية أيقونية ومعقدة إلا شكلياً، عندما بدأت إيمي انتقامها جزت شعرها الأشقر واعتمدت تصفيفة قصيرة أكثر جدية وأقل نعومة، شخصية مارلا لم تملك وقتاً للتحول، بل اعتمدت المظهر نفسه والتصفيفة الأيقونية، فاستدعى ذلك شعوراً بالقلق من شر محتم حدوثه.
يبرع العديد من الممثلين في نوع معين من الأدوار أو في شراكة مع مخرج معين، مثلما يؤدي روبرت دي نيرو دور رجل العصابات مرة بعد مرة، وفي كل دور يضيف أبعاداً مختلفة إلى الشخصية، ليس هو فقط المسئول عنها، لكن كاتب الشخصية ومخرجها أيضاً. في (أهتم كثيراً) أضافت روزاموند بايك تفاصيل خاصة بشخصية مارلا، ثقة إعلامية محترفة وابتسامة ثاقبة، لغة جسد عنيفة وحضور طاغٍ وآسر في أي غرفة تدخلها، لكن أداء بايك الجاذب لم يملأ شخصية نصف مكتوبة.
قضى الفيلم حوالي الساعة في صراع مبتذل بين أعضاء مافيا -روسية بالطبع- في مواجهة مارلا الباحثة عن الحلم الأمريكي، صراع لا يهم من يفوز به لأن كل الشخصيات بغيضة بشكل أو بآخر، يبدو صراع مارلا في بعض الأحيان مجرداً من أي دافع، صراعاً ضد الفقر وفي سبيل ثروة هائلة، وفي أحيان أخرى يصطبغ بطابع نسوي دون أساس حقيقي.
الغضب النسائي
في بداية أهتم كثيراً يتعرض أحد الرجال لمارلا بعد تمكنها منه أمام المحكمة، الرجل ابن إحدى السيدات اللاتي خدعتهن مارلا وخدعت المحكمة لتبقيها تحت سيطرتها، يناديها الرجل بعد انقضاء الجلسة بلفظة دارجة تعني عاهرة، وتوصف بها النساء المزعجات بشكل عام، ترفض مارلا الرد عليه، لكن حينما يتعدى على مساحتها الشخصية تخبره أن سبب غضبه هو أن امرأة هزمته، أو كما تصيغ هي “شخص بأعضاء أنثوية”، تتكرر في الفيلم تلك الجمل الصارخة التي تحيط الشخصية بهالة نسوية تجعل من المفهوم نفسه مدعاة للسخرية لأنه لا يملك دعائم حقيقية، اعتبار الشخصية نسوية هو أحد الروابط الكثيرة بين مارلا وإيمي في اختفاء فتاة، يصعب فصلهما عن بعضهما، ما اقترفته إيمي من جرائم جعل منها نموذجاً محيراً في التصنيف يملك دعائم تتعلق بالغضب النسائي، بالرغبة في الانتقام لأعوام، بل لعصور من القهر الذكوري العام والخاص في حالة إيمي وزوجها.
لا تنتقم مارلا من الرجال، بل تصب غضبها على فئة مستضعفة من البشر دون تفريق في النوع لكنها تسب الرجال وتظهر نفسها كامرأة قوية لا تحتاج إليهم مادياً أو جنسياً، كل الأسباب التي جعلت إيمي شخصية “معقدة” كما يصفها زوجها ساخراً، وكما نراها نحن، تنتفي عن مارلا، هي ليست معقدة بل شخصية مباشرة انبثقت من شخصية أكثر تعقيداً، لذلك فإن أداء روزاموند بايك وحده هو ما جعل الفيلم أكثر إثارة للاهتمام؛ لأنها تمتلك القدرات الكافية لإضفاء جاذبية على شخصية يمكن بسهولة أن تصبح مكروهة، وعندما تصبح مشاهدة الفيلم عملية صعبة تجعله بايك أكثر سلاسة.
(أهتم كثيراً) فيلم مسلٍّ، مشاهدة سريعة وخفيفة لكنه يزعم أنه أكثر مما هو عليه، فيكتفي بفرضية أنه فيلم ينتقد الرأسمالية وسهولة اختراق المنظومة القضائية الأمريكية، ثم يتحول لمجموعة من المطاردات المبتذلة والمتوقعة، وحينما نتخيل للحظة أن صناعه سوف يسيرون في الطريق الأصعب الذي ينصر ضد البطل مثلما حدث في اختفاء فتاة، يأتي العقاب في لحظات أخيرة لينتصر المنطق الجماهيري، فتصبح التجربة ككل خالية من أي تأثير حقيقي، ولا تنجح حتى في إعادة تدوير أنجح أدوار روزاموند بايك.