أنا «أندريا بيرلو» – أفضل لاعب في العالم
في عالم كرة القدم الإيطالية المجنون وفي ثنايا جحيم ديربي الغضب الميلاني، يظهر أندريا بيرلو كشخص فريد من نوعه لم تتغير حياته و لم تتأثر بهذا الاستعراض والجنون الذي يحيط بعالم كرة القدم في العصر الحالي. رجلٌ متواضع لا يشبهُ الإيطاليين ولا يشبهونه، أنيق هادئ بارد الملامح، قليل الانفعال والكلام ويختار كلماته بعناية ودقة، جديٌ بعض الشيء ولا يكترث بما يحدث من حوله، ومع إطلاقه للحيته أصبح أشبه بالمفكرين والفنانين، ليستحق لقب المايسترو وموزارت شكلًا ومضمونًا.
خلال عقدين من الزمن في إيطاليا، لعب مع أكبر 3 أندية في إيطاليا «إنترناسيونالي ميلانو – إي سي ميلان – يوفنتوس»، ودربه أفضل المدربين «مارسيلو ليبي – كارلو أنشيلوتي – أنتونيو كونتي»، وفاز بكل شيء مع أنديته ومنتخبه، ليضع اسمه كنجم في سماء اللعبة مع أفضل لاعبي إيطاليا والعالم.
أنا بيرلو – لست كالآخرين
فيما مضى كانت تعد كرة القدم لعبة الفقراء، فهي ملاذُ الجماهير واللاعبين معًا هربًا من الأحوال الاقتصادية السيئة وبهدف إرضاء النفس وشغفها بكرة القدم، والغالبية العظمى من اللاعبين أتوا من بيئات فقيرة وكانت اللعبة بمثابة مصدر رزق لهم، لكن بيرلو ليس كذلك، فهو ابن عائلة ثرية تعمل في مجال صناعة الصلب، ولم يكن حافزه الأول من أجل ممارسة اللعبة هو المال، بل كان الدافع الوحيد هو حبه و شغفه لها.
تذكر والدته «ليديا» بداية شغفه مع الكرة منذ سن الرابعة عندما كانت العائلة تقضي العطلة الصيفية في أحد منتجعات مقاطعة توسكاني، كانت الكرة دائمًا حوله هو وأخوه «إيفان» الذي كان يشاركه هذا الشغف حتى أوقات متأخرة من الليل في حديقة المنزل.
أنا بيرلو – قائد بالفطرة
مع شغفه المتنامي اتجاه اللعبة و موهبته الكروية المميزة، ألحق لويجي و ليديا طفلهما بنادي المدينة «فليرو» و هو في السادسة من عمره، و استمر هناك لمدة 3 أعوام قبل أن يلتحق بنادي «فولونتاس». أحد أفضل كشافي المواهب في إيطاليا «روبيرتو كليريشي» والذي كان حينذاك مدربًا لصغار فولونتاس شاهد بيرلو للمرة الأولى في المباراة النهائية التي جمعت فريقه بنادي فليرو. فولونتاس أنهى المباراة بنصر ساحق بـ8 أهداف، لكن «كليريشي» نسي المباراة والنتيجة وركز على لاعب صغير في فريق الخصم اسمه «أندريا»، ولاحظ مهارته على الكرة وشخصيته القيادية، فلم يتردد لحظة واحدة بانتدابه ولم يكن بحاجة لمشاهدته مرة أخرى ليقرر ذلك.
عندما كان أندريا في الـ13 من عمره شارك مع الفئة العمرية التي تسبقه بعامين. وكان أصغر اللاعبين سنًا وحجمًا، لكنه كان قائد الفريق، وفي نصف نهائي إحدى البطولات قال لزملائه: «هذه ليست رحلة مدرسية، نحن هنا من أجل الفوز، لذلك حري بنا أن نلعب بأفضل شكل ممكن لتأمين الانتصار».
أنا أندريا – من أصحاب الدم البارد
في إحدى البطولات مع فولونتاس وصلت المباراة إلى ركلات الجزاء، مفترق الطرق الذي سيحدد النتيجة، إما فرحة عارمة للأطفال أو دموع حزينة ستنسى مع الزمن. أتت اللحظة الحاسمة التي ستقرر التأهل إلى الدور القادم من عدمه، أندريا سيتولى تنفيذ الركلة الأخيرة، وضع الكرة تحت إبطه وتوجه نحو الحارس بكل دم بارد، بينما كان الجميع متوترين وكأنهم يحاولون تفكيك قنبلة موقوتة. أطلق الحكم صافرته، تقدم بيرلو للتسديد، ثم تباطأ قليلاً ولمس الكرة كأنه يداعبها مسددًا ركلة بانينكا أشعرت الجميع بأن القنبلة قد انفجرت وسقطوا قتلى.
مدربه السابق «كليريشي» وصفها بأنها لحظة مشابهة لتلك التي حصلت في كييف صيف 2012 أمام إنجلترا، أندريا كان لديه نفس النظرة عندما سدد ركلة الجزاء عندما كان في الـ13 من عمره صيف 1992.
أنا أندريا – أنا الأفضل
4 أعوام في فولونتاس كانت كافية لتسليط الأضواء وازدياد الاهتمام بموهبته، عديد الأندية حاولت استقطابه مثل «بارما – أتلانتا» وغيرهما من الأندية التي تمتلك مدارس كروية مميزة. تشيزاري برانديلي والذي كان مدربًا لنادي أتلانتا للشباب في تلك الفترة انبهر بقدرات الطفل أندريا، وكان لديه إحساس بأن الجميع يأتون لمشاهدة بيرلو وحده.
والدا أندريا لم يستعجلا انتقاله ولم يجبراه على الذهاب إلى ناد آخر وتصرفا بما يخدم مصلحته على الرغم من اهتمام الأندية، لذلك كان القرار بالاتفاق مع كليريشي في صيف 1992 بنقله إلى «بريشيا» المدينة التي تبعد كيلومترات قليلة فقط. اتصل كليريشي برئيس نادي بريشيا «جينو كوريوني» وأصر على رؤيته بشكل عاجل لأن هناك أندية تسعى لاصطياد أندريا،يقول كوريوني إن والد بيرلو أراد أن يلتقي به أيضًا، لذلك كان مرتابًا بعض الشيء، لأن جميع الآباء يعتبرون أن أبناءهم بمثابة مارادونا المستقبل.
أنا من أنا – لستُ مارادونا
بيرلو كما وصفه كوريوني ومدربوه أيضًا، كان يعرف قدراته وما يجب عليه أن يفعله ولم يكن بحاجة لكثير من التعليمات، بل كان ينقصه الإرشاد والتوجيه من أجل إغناء أفكاره وتصحيح بعضها الآخر، وخاصة لأنه يشارك مع لاعبين يكبرونه بعامين. ومع تميزه وإدراك الآخرين لأهميته تعرض بيرلو لكثير من المضايقات من زملائه في الفريق خلال 4 مواسم مع أندية بريشيا للشباب، وتدرج فيها حتى وصل إلى الفريق الأول وشارك للمرة الأولى في الدوري الإيطالي عام 1995 و هو في الـ16 من عمره.
في إحدى المباريات قام زملاؤه بتجنب تمرير الكرة له كنوع من الغيرة، وكان أهاليهم يصرخون من المدرجات «هل يعتقد هذا الفتى أنه مارادونا؟»، مما جعل بيرلو يبكي وهذا ما لم يستحمله والده الذي غادر الملعب بسبب عدم قدرته على تحمل دموع ولده. لكن بيرلو كان مصممًا على أحقيته بهذا التميز.
من السيرة الذاتية لأندريا بيرلو
أنا أندريا – حلمي ومثلي الأعلى
لكل شخص في صغره حلم يطمح للوصول إليه وتحقيقه، وأيضًا لا بد أن يكون هناك مثل أعلى في الحياة تتأثر به ونسعى لاتباعه. ومنذ الطفولة كان حلم بيرلو هو تمثيل قميص إنتر ميلانو وكان مثاله الأعلى اللاعب الإيطالي روبيرتو باجيو. لحسن حظه تمكن بيرلو من تحقيق حلمه باكرًا وهو في الـ19 من عمره، فبعد موسمين مع الفريق الأول في بريشيا «1 سيريا B – 1 سيريا A» انتقل بيرلو إلى إنتر ميلانو عام 1998 بعد هبوط فريقه إلى الدرجة الثانية، ولتكتمل فرحته انضم إليه روبيرتو باجيو قادمًا من بولونيا في الموسم ذاته.
بيرلو كان يلعب في مركز صانع الألعاب وباجيو كذلك، ولهذا السبب لم يشارك كثيرًا في عامه الأول بسبب تواجد أسماء بارزة مثل باجيو والظاهرة رونالدو وجوركاييف، وعانى أيضًا من عدم الاستقرار الإداري في الفريق وتغيير المدربين المستمر، ولذلك خرج معارًا لنادي ريجينا في موسمه الثاني، وفي الثالث عاد إلى ناديه بريشيا لمدة 6 أشهر في عام 2001 وهناك تغير كل شيء للشاب الصغير.
أنا أندريا – عقلي يلعب لا قدماي
طوال فترة طفولته وحتى في السنوات الأولى لمشاركته على مستوى المحترفين كان بيرلو يلعب في مركز 10 خلف المهاجم كصانع ألعاب أو مهاجم ثان. وكان يُستخدم في هذا المركز بسبب قدرته في الحفاظ على الكرة و التمرير الذكي، لكن في المستويات العليا لن تكفيك الموهبة لإثبات أحقتيك بالمشاركة وعليك أن تعمل وتضحي من أجل الفريق وخاصة في دوري مثل الدوري الإيطالي.
و هنا فشل بيرلو في اكتساب ثقة مدربيه لأنه لم يلبِ متطلبات مركزه بالشكل الكامل، بيرلو ليس سريعًا بما يكفي لشغل هذا المركز، وليس من المراوغين المميزين، وبدنيًا كان يعاني من الإرهاق البدني بسبب عدم تحمله ضغط المباريات في بداية مشواره الاحترافي مع بريشيا وإنتر ميلانو.
هذا الأمر كان من الممكن أن يهدد مسيرته الكروية لولا الفطنة التكتيكية لمدرب بريشيا كارلو مازوني عندما كان بيرلو معارًا من نادي انتر ميلانو عام 2001. مازوني قرر إعادة أندريا إلى الخلف أمام المدافعين – ما يسمى ريجيستا – لاستغلال رؤيته المميزة للعبة ودقة تمريراته الطولية وقدرته على الاحتفاظ بالكرة، هذا القرار أتاح لبيرلو اللعب على نقاط قوته الحقيقية وأخرجه من النفق المظلم وأعاد تنشيط حياة بيرلو المهنية.
أول تمريرات يبرلو مع بريشيا بعد تحوله إلى ريجيستا
أنا أندريا – الحياة منحتني الفرصة للرد
في ميلان لم يأخذ بيرلو الفرصة خلال الأشهر الأولى مع التركي فاتح تيريم، لأن تيريم كان يشركه في مركز 10 كبديل للبرتغالي روي كوستا، لكن ميلان قرر إقالة التركي بعد 4 أشهر من انطلاق الموسم بسبب تذبذب النتائج وعين عوضًا عنه الإيطالي كارلو أنشيلوتي. مع كارلو شعر بيرلو بالراحة بسبب التقارب فيما بينهما وتفاهمهما الكبير، ولأن أنشيلوتي قرر إعادة بيرلو بعد فترة وجيزة من وصوله إلى المركز الذي برع فيه مع مازوني في بريشيا. مع الوقت أدرك أنشيلوتي قيمة الجوهرة التي بين يديه، والفروقات الكبيرة بين غياب بيرلو وتواجده، ولذلك أصبح بيرلو الذي يعتبر أنشيلوتي بمثابة الأب الروحي أساسيًا في الموسم التالي بصحبة سيدورف وغاتوسو.
عاش بيرلو الكثير من اللحظات المتباينة مع ميلان ما بين السعادة والحزن والعجز والانتقام وأبرزها كانت على الصعيد الأوروبي، فنهائي إسطنبول أمام ليفربول عام 2005 كان أحد الأيام السوداء في حياة بيرلو ولاعبي ميلان. بيرلو شعر بالعجز الكبير وأن حياته أصبحت بلا معنى بسبب الخسارة، وفكر بالاعتزال والتوقف عن لعب كرة القدم نهائيًا.
أندريا بيرلو عن الخسارة أمام ليفربول في نهائي الأبطال 2005.
لكن بعد عامين أتاحت الحياة الفرصة لميلان لاستعادة الثقة بالنفس والتخلص من أعراض هذه المتلازمة وكل الألم والعجز، ميلان سيقابل ليفربول مجددا في نهائي الأبطال 2007. هذه المرة نجح ميلان في تجاوز ليفربول وتحقيق اللقب واسترداد جزء من الكرامة المهدورة.
أندريا بيرلو عن نهائي 2007.
أنا أندريا – كالنبيذ والزمن
مع انتهاء عقده مع ميلان عام 2011 رحل بيرلو عن النادي بعد قضائه 10 أعوام في سان سيرو، فالنادي لم يعد بإمكانه دفع أجره المرتفع وسعى لتخفيض راتبه وخاصة مع تقدمه في العمر، لذلك أراد بيرلو البحث عن تحديات جديدة مع ناد آخر وهو في الـ31 من عمره، ناد يرضي شفغه ورغبته بإكمال ما بدأ به، لأن مهمته لم تنته بعد في عالم اللعبة. التجربة الجديدة أوصلته إلى يوفنتوس، مكان أحس فيه بالتقاء المصالح وتطابق الرغبات الطامحة للنجاح.
مع يوفنتوس بدأ بيرلو بنشر سحره مجددًا رغم تقدمه في العمر، كان مردوده أشبه بعلاقة النبيذ والزمن، كلما مرت السنوات أصبح أفضل وأفضل، وربما لهذا علاقة بمجال اهتمامات بيرلو الشخصية، فالإيطالي استثمر منذ مدة طويلة مزرعة قديمة في مسقط رأسه قام فيها بإنتاج النبيذ الفاخر. وبانتهاء عقده مع يوفنتوس رحل بيرلو بصمت كما رحل سابقًا من ميلان وإنتر، وكأنه اعتاد الأمر كما النبيذ تشعر بلذته لبعض الوقت ثم يذهب أثره، وربما سيسدل بيرلو الستار على مسيرته بصمت و هدوء كما شب وكما شاب.