الهايبومانيا: عن الخيط الرفيع بين السعادة والهوس
هكذا كان يقول لأسرته وأقرب أصدقائه، والذي غمرته سعادة مشوبة بالحذر والتساؤلات عن سر التحول المفاجئ الذي طرأ عليه في الأسبوعيْن الأخيريْن. لقد كان منذ أسابيع قليلة -بعد تعرضه للحادث الأليم- في عزلةٍ حزينة طويلة، أضربَ فيها حتى عن الطعام والكلام، وكان يقضي جلّ الوقت خلف قضبان باب غرفته متكوِّما على سريره، لا يكاد يفارقه إلا للضرورة، وكان يغلق هاتفه جُلَّ الوقت، وإذا تكلَّم في مناسباتٍ نادرة مع أحد المقربين كانت ردوده باردة مقتضبة، يرفض فيها بإصرار كل محاولاتهم للقاء ولتغيير الجو.
لكنه الآن فجأة ومن دون مقدماتٍ أو تمهيد، غادر مُعتزَله، في عاصفةٍ من النشاط والطاقة وحتى خفة الظل، فعاد لممارسة رياضته المنتظمة، وللانتظام في أداء العبادات في أوقاتها، وتواصل خلال أيامٍ قليلة مع كافة دوائر أصدقائه، ودعاهم للاجتماع معه قريبًا من أجل مشروعٍ هائل يختمر في ذهنه الآن، سيغير حياتهم جميعًا، بل يمكن أن يغير العالم بأكمله. كان أكثر ما لفت أنظار الأسرة، أن سرير غرفته الذي ابتلعه لشهرٍ أو يزيد، قد أمسى باردًا، فقد قضى هذيْن الأسبوعيْن بلا نومٍ تقريبًا، سوى ساعةٍ أو ساعتيْن ينتزعها جسمه انتزاعًا على الكرسي أمام شاشة الحاسوب، أو في سيارته، أو على أريكة الصالون بينما كان منهمكًا في قراءة كتاب.
لم تقتصِر ظواهر الصحوة العجيبة على هذا، فقد طلب بالأمس من والده إقراضه مبلغًا كبيرًا من المال، ووعد أنه سيسدده خلال شهريْن أو ثلاثة على الأكثر، عندما يحققُ مشروعه النجاح المذهل الذي يتوقعه. وعندما بدا التردد والميل للرفض على الوالد، وإلحاحه في السؤال عن تفاصيل المشروع، وسبب الحاجة لهذا المبلغ الكبير، فإنَّ الشاب لم يستطِع السيطرة على غضبه، واحتدَّ على أبيه، واتهمه بإضاعة فرصةٍ كبرى يمكن أن تغير حياته وحياة أسرته وأحبائه، بل والمجتمع والناس أيضًا، واشتكى من أنهم دائمًا ما يقللون من شأنه، ويسفِّهون من أفكاره، وأنه سيثبت للجميع أنهم على خطأ.
هل يمكن أن يكون فرط السعادة مرضًا؟
قد يظن البعض أن القصة الخيالية- الواقعية جدًا- السابقة يمكن تفسيرها بسهولة بتقلبٍ بشري طبيعي بين موجاتٍ صاعدة وهابطة من الطاقة والانفعالات يكاد لا يوجد من لم يمر بمثلها، بينما على الجانب الآخر، سيفسّرُها آخرون بأن هذا الشاب كان ضحيةً لتعاطي بعض العقاقير المخدرة والمنشطات التي لجأ إليها في غمرة صدمته واكتئابه ليرفع من حالته المزاجية، ويستطيعَ العودة لحياته. والحقيقة، أن كلا التفسيرين يحملُ بعضَ الوجاهة، لكن تلك القصة هي نموذج نمطيّ لما يُعرَف باضطراب الهوس الخفيف hypomania.
بالطبع، ليس كلُّ نشاطٍ زائدٍ، وسعادة غامرة، هما ظواهر غير طبيعية، لكنهما يصبحان كذلك، عندما يتجاوزان الحدَّ المعتاد لهذا الشخص، لا سيَّما مع عدم وجود حدثٍ إيجابي يفسِّرُ كل هذا النشاط والسعادة، وما يصاحبهما من تغير مفاجئ لسلوكيات الشخص وأفكاره وتصرفاته، بأسرع كثيرًا من التطور الطبيعي الإيجابي لشخصية الإنسان الذي يحتاج دائمًا إلى وقتٍ أطول وظروفٍ مُهيِّأة أكثر استدامة.
اقرأ: أكتئب فآكل أكثر فأكتئب وآكل مجددًا: ما حل هذه الدوامة؟
أعراض الهوس الخفيف
في معظم الأحيان، يلاحظ الأهل والمعارف تلك الأعراض، ويلتفتون للمشكلة أولًا، قبل المريض نفسه، الذي يتصوَّر في البداية أنه في فترة نشاط إيجابية، يتمنَّى استمرارَها طويلًا، ليحقق -بنظره- المزيد من الإنجازات المادية والمعنوية. وهذا يؤكد أهمية أن يكون المرء محاطًا بدائرة وثيقة من اهتمام أفراد الأسرة والمعارف، حيث إن العزلة الزائدة، وغياب الغطاء الأسري والاجتماعي، يؤخر كثيرًا تشخيص الأمراض والاضطرابات النفسية بوجهٍ عام، ومنها اضطرابات الهوس بمختلف درجاتها.
وأبرز أعراض الهوس الخفيف، ما يلي:
- الأرق الشديد، والنوم لسويعاتٍ قليلة يوميًا، نتيجة شعور المرء بأنه لا حاجة له إلى النوم، الذي قد يعطله عما ينتظره من أعمال وإنجازات.
- فرط النشاط الحركي والطاقة المعنوية والجسدية، بشكل غير معتاد للمحيطين بالمريض، والشعور بسعادةٍ فائقة جارفة.
- تزاحم الأفكار في عقله، لا سيَّما المتعلقة بأعمالٍ وطموحاتٍ وإنجازات على المرء أن يشرع فيها على الفور.
- الثرثرة الشديدة في الكلام، وتشتت الانتباه، والانتقال السريع غير الطبيعي من الحديث في موضوع إلى آخر.
- زيادة مفاجئة في الثقة بالنفس، قد تصل إلى تضخم الذات بشدة، والذي قد يتطور إلى ما يشبه الشعور بعقدة الاضطهاد نتيجة عدم تقدير الآخرين لعظمة الشخص وتميزه وذاته المتضخمة، وطموحاته الفائرة.
- الانخراط في سلوكيات جريئة غير معتادة للشخص، مثل الإفراط في الإنفاق المالي، أو الإقدام على تصرفاتٍ متهورة مثل القيام بألعابٍ خطرة، أو القيادة بسرعة شديدة، أو لعب القمار، أو تناول المشروبات الكحولية أو المخدرات… إلخ.
- زيادة الهوس الجنسي، والأفعال والتصرفات ذات الأبعاد الجنسية.
- الميل إلى العدوانية، واستخدام العنف اللفظي والجسدي أحيانًا، وردود الأفعال الحادة تجاه الآخرين في أي خلاف ولو بسيط.
ويجب أن تستمر تلك الأعراض على الأقل لبضعة أيام، على الأقل لأربعة أيام، معظم ساعات اليوم، وهي نفسها أعراض الهوس الشديد، بشدةٍ أقل. يظلُّ المرء في حالة الهايبومانيا محتفظًا ببصيرته ووعيه، لكن مع الوصول إلى حالة الهوس الشديد، يفقد البصيرة، ويصبح محاولات إقناعه والسيطرة على هوسه أكثر صعوبة، كما قد تعتريه الهلاوس السمعية والبصرية. أيضًا، من أبرز الفوارق بين الهوس الخفيف والشديد، أن مريض الهوس الخفيف يمكن أن يظل مؤديًا للحد الأدنى من وظائفه الأساسية بشكلٍ طبيعي، مثل الذهاب إلى العمل، وتلبية احتياجات المنزل… إلخ.
وبالطبع، لا يلزم أن يحدثَ كل تلك الأعراض بشكلٍ متزامن، كما أنَّ شدتَها تختلف من شخصٍ لآخر، حسب خصوصيته الفردية، وتطورات الحالة.
أولويَّة التدخل السريع
يمكن أن نُشبِّه اضطرابات الهوس بكرة الثلج التي تكبر ويتسارع تضخمها كلما تدحرجت أكثر. ولذا فيجب طلب المشورة الطبية النفسية فورًا في حالة الشك في الإصابة بالهايبومانيا، قبل أن تستفحل إلى الشكل الأشد والأخطر وهو الهوس الشديد Mania، والذي يؤثر سلبًا على بصيرة المريض وعقله، ويستدعي في حالاتٍ كثيرة الحجز الطبي بالمشفى. أما الخطر الثاني في حالة إهمال علاج الحالة، فهو السقوط مجددًا وبشكلٍ أعنف في بئر الاكتئاب، والذي قد يكون أعمق، بما حمَّله الشخص لنفسه ومن حوله من خسائر مادية ومعنوية في فترة الهوس.
يتناقش الطبيب النفسي مع المريض بشكلٍ مطوَّل، وقد يحتاج إلى توجيه بعض الأسئلة لأقرب المحيطين بالمريض، ووفقًا لكم وكيف الأعراض الموجودة، يؤكد أو ينفي تشخيص الإصابة بالهوس، ويحدد درجته، وبالتالي العلاج المناسب.
ما عوامل الخطر التي تسهّل الإصابة بالهوس الخفيف؟
لا يزال السبب القاطع للإصابة بالهوس بمختلف درجاته -وكذلك لاضطراب الهوس الاكتئابي ثنائي القطبية الذي يتضمَّن نوباتٍ تبادلية من الاكتئاب والهوس- غير معلوم، لكن هناك بعض عوامل الخطر التي تجعل المرء أكثر قابلية للإصابة بالهوس مثل:
- التاريخ المرضي العائلي بالإصابة بهذا الاضطراب.
- تاريخ شخصي بإصابة سابقة بالهوس في الماضي.
- الضغط النفسي الشديد، أو التعرض لصدمة كبيرة
- إدمان الكحوليات.
- تعاطي المخدرات.
- جرعات زائدة من مضادات الاكتئاب، كافية لقلب الاكتئاب إلى هوس.
- اضطرابات النوم، وعدم الحصول على كفاية من النوم.
ويمكن بالسيطرة على عوامل الخطر السابقة أن نقللَ فرص الإصابة باضطرابات الهوس بمختلف درجاتها، وإن لم يضمن هذا تجنب الإصابة بشكلٍ تام.
اقرأ: كيف أحمي طفلي من الاضطرابات النفسية.
كيف يمكن علاج «الهايبومانيا» بفاعلية؟
هناك مساران متوازيان ومتكاملان لعلاج اضطراب الهوس بمختلف درجاته:
- الأول: العلاج الدوائي، عبر إحدى مجموعتيْن من الأدوية النفسية أو كلتيْهما وفق ما يُقدِّره الطبيب المعالج: مثبتات المزاج مثل الليثوم أو الفالبرويت أو الكاربامازيبين، ومضادات الذهان اللانمطية، مثل الأولانزابين والكيوتابين والأريببرازول. ويحدد الطبيب الجرعة وفق شدة كل حالة، وبعد شرح الآثار الجانبية المتوقعة لكل دواء.
- الثاني: المعالجة النفسية، وذلك عبر جلسات متعددة ومُطوَّلة للحديث مع المريض، لسبر أغوار أفكاره، وانفعالاته، والتعرف على نقاط الضعف التي أدت إلى حدوث الهوس، والتدريب على ممارسات نفسية صحية للسيطرة على أعراض الهوس، لتجنب تفاقمها، وللسيطرة على الضغط العصبي بوجهٍ عام.
ومن أفضل العوامل التي تسهِّل علاج الهوس، الالتزام الحرفي بتناول الدواء كما حدَّده الطبيب في مواعيده، وتجنب التوقف المفاجئ عن تعاطي الدواء، وتوافر الدعم الأسري والاجتماعي الإيجابي للمريض.
اقرأ: أشهر 8 خرافات حول الأدوية النفسية.
وإلى جانب العلاجات التخصصية السابقة، فهناك بعض التغييرات في نمط الحياة التي تساعد في العلاج، وقد تكون كافية في علاج الحالات البسيطة دون الحاجة لعلاجٍ دوائي:
- الحرص على النوم الجيد من 6 إلى 8 ساعات يوميًا، وفي موعدٍ ثابت، إعطاء هذا الأولوية على أي اعتباراتٍ أخرى متعلقة بالعمل أو الأسرة… إلخ.
- ممارسة رياضة معتدلة مثل المشي نصف ساعة يوميًا على الأقل.
- طعام صحي أساسه الخضروات والفواكه والأسماك والألبان قليلة الدسم.
- تجنب المنبهات مثل القهوة والمشروبات الغازية المحتوية على الكافيين، وكذلك مشروبات الطاقة، والمشروبات والأطعمة عالية السكر.
- تمارين الاسترخاء، والإقامة في مكانٍ هادئ.
- الاستماع إلى الموسيقى الهادئة، وتجنب الصاخبة.