«ومن بعدنا الطوفان»: ماذا تُعلّمنا حكايات نهاية البشرية؟
بات من المعتاد على الأفراد في ظل الصناعة الثقافيَّة التي تعيشها المجتمعات؛ مصادفة عدد من الأساطير التي تحمل نفس الخصائص والمدلولات في العديد من السرديات الكبرى، والتي تؤرِّخ لبدايات ونهايات العالم من وجهة نظر المعتقدات والفكر الميتافيزيقي؛ واحدة منها تتجسَّد في الطوفان، الحدث الشمولي الذي صنعته الآلهة لإفناء مخلوقاتها ومعاقبة معظم سكان الأرض أو مُدُنِها المقدَّسة. وهو الموضوع الرئيسي الذي تنطلق منه الأكاديميَّة والكاتبة «مينيكه شيبر» في كتابها «ومن بعدنا الطوفان: حكايات نهاية البشرية».
لقد جاءنا هذا العمل مُحمَّلًا بأساطير عتيقة تغوص في سرد الكوارث البشريَّة التي عرفتها الأدبيَّات الدينيَّة والثقافات الشعبيَّة. وهو مكتوب بلغة بسيطة وسلسة ويعتمد على سرد أفكاره بطريقة تشبه كتابة القصص القصيرة.
لماذا تتشابه الأساطير؟
عندما نكتب عن الطوفان فنحن نتحدَّث عن تأويلٍ سرديٍّ حول فترة مضت من تاريخ الإنسان، عندما كانت الآلهة قريبة منه وفعَّالة في التاريخ بتدَّخلاتها وقدراتها في تغيير أحداثه أو تحقيق مشيئتها، وقد نكتشف أحيانًا قرب هذه الفاجعة من زمن تأسيس الآلهة للعالم، فهي عصور قديمة جدًا لم نعد بإمكاننا البحث عن آثارها.
والخطُّ الزمني الذي يقوم بتأريخ الزمن على أنَّ له بداية ونهاية لا يمكن للواحد منّا بالضرورة رؤيته في جميع أساطير الدمار، ففي بعض الفلسفات الكوسموغونيَّة والدينيَّة يكون الطوفان هو حدث كبير يتكرّر في كلّ مرحلة من الدهور إلى ما لا نهاية: فكرة مرتبطة بالعود الأبدي من مثل ما نراه في الهندوسية. أمّا في أخرى فإنَّ الأَمر يقع لمرة واحدة أو يُعاد مرتين أو أكثر حسب الظروف التي تسبِّبه.
ومما لا شكّ فيه أنَّ مثل هذه الأساطير تتشارك في ما بينها الكثير من الأحداث والشخصيات مع اختلافها أيضا. غير أنَّه لا يجب دائمًا تقييد حقيقة تشابهها بأحد أكثر التفسيرات سطحيةً؛ وهي مزاعم تتحدَّث عن سرقة (اقتباس) ثقافة ما أساطير ثقافة أخرى، أو إطلاق فرضيات حول الاحتكاك بين عدِّة شعوب وتأثُّر بعضها ببعض وقد يكون ذلك مقبولًا وصحيحًا على أيّ حال، إلّا أنَّ ما يجب معرفته هو أنَّ بعض أوطان هذه الأساطير كما تذكُر المؤلّفة وكتب أخرى كانت معزولة عن الحضارات والبلدان الأخرى، وهو أمر لم يغب عن الأنثروبولوجيين الأوائل وعلماء الأديان والميثولوجيا أو الرحالة والمتخصصين في مثل هذه الميادين، ما يقلل من احتمالية الادِّعاء السابق في بعض المناطق.
هذا الشيء الذي يجعل العديد من العلماء يسرحون بأفكارهم ويوسِّعون من دائرة أبحاثهم النظريَّة والميدانيَّة، لإطلاق فرضياتهم حول نشوء الأساطير أو تشابهها.
ونودُّ تدعيم رأي الكاتبة باتجاهين معروفين بتفسيرهما لوجود مثل هذا التشابه في مختلف الحضارات ضمن اتجاهات أخرى. الأول منهما (Monogenesis) يقوم بتأويل تشابهها إلى كون مثل هذه الأساطير تعود إلى منبع واحد ثم تنتشر إلى أراضٍ بعيدة أخرى لأسباب مختلفة. أمّا الثاني (Polygenesis) فهو يؤكِّد أنَّ مثل هذه الأخيرة لا تأتي من مصدر واحد بل هي موجودة في كل مكان من دون تأثِّر ثقافة بأخرى، ويعود الأمر حسب مؤيديه إلى أنَّ طريقة تفكير الإنسان وتجربته في الحياة هي واحدة.
كما يمكن التذكير بالمدرسة اليوهيميرية التي تجعل من الأسطورة سردًا لتاريخ غابر حدث بالفعل ويستشهد أتباعها فيه بمثل هذا النوع من الأساطير الموجودة في كل مكان.
وتطرح هذه الأساطير مسائل أخلاقية، مثل ارتباطها بالتأسيس لنسل جديد، فهناك أساطير ترى في زواج أبناء العائلة بين بعضها بعد الطوفان حلًا لمشكلة انقراض البشرية، وهناك غيرها لا تقبل مثل هذا الحلّ فتأتي بحلول سحريَّة وعجائبيَّة مثل تحوّل الحجارة إلى أبناء وغير ذلك.
كيف نستفيد من أساطير الدمار؟
تستنتج الكاتبة أنه بإمكان الإنسان المعاصر الاستفادة من مثل هذه الأساطير التي لها بُعد أخلاقي، وهو أمر مرتبط بنفس الأسباب التي قرَّرت بسببها الآلهة أن تُغرِق العالم أو تُحرِقه بنيرانها.
إنّ فساد أسلاف البشر في تلك العصور وانتشار الحروب والعلاقات الجنسية المحرَّمة أو عدم احترام الآلهة، هو ما جعل الآلهة تضع حدًا لهذه الفوضى من دون أن يكون ذلك نهاية للجميع، فالعالم يُصلِح من ذاته وينهض من ركامه مجددًا، بفضل محبة الآلهة للبشر أو استمرارية عالمها. وفي عدد من المرات يعود غضبها وعقابها للبشر إلى الاكتظاظ السكاني الذي صار يزعجها.
لقد رأت الكاتبة أن الأساطير ليست بعيدة عنّا، فهي لا تزال تلقي بظلالها في عصرنا الحديث، مثل ما نجده في الجماعات والطوائف والجماهير التي تحذر من قرب نهاية العالم أو القيامة. إنَّه خوف كبير من نهاية لا تأتي بالضرورة من الآلهة بل من مشاكلنا على كوكب الأرض، الذي أنهكه التلوث وإفقار موارده مع العديد من القضايا والمعضلات التي يدعو الإعلام والناشطون إلى تجنّب التسبّب بها، حتى لا تأتي الكارثة. وقد ذُكِر في الكتاب على سبيل المثال تغلغل مثل هذا الفكر الأسطوري في بعض الطوائف التي اعتمدت على أساطير قديمة وقصص دينية سابقة، مثل «حركة 2012»، أو «الطائفة الداوودية» التي دخل أتباعها- كما تكتب- في:
كما لاحظتْ الكاتبة وجود هذا النوع من الأساطير في باطن العلم وفرضياته حول الكون وماضي الإنسان. تقول:
كما أنَّها لا تغفل عن بعض الدراسات الجيولوجية التي درست تاريخ الحياة في الكوكب، وأثبتت تقارب بعض النتائج مع أوصاف الأساطير وقصص الكتاب المقدس الذي يتناول مثل هذه الكوارث أو يتنبأ بها، من دون التأكيد على مطلقيتها وصدقها الكليّ.
إنَّ الأسطورة في النهاية إدراك جمعي له منطقه الخاص وتاريخه الذي يتصِّل بالواقع الحقيقي في العصور السابقة، يقول الفيلسوف الإغريقي يوهيميروس: «الأسطورة هي التاريخ في صورة متنكِّرة». أمّا شيلينغ فيدَّعي بأنَّها «تمثِّل الفلسفة والتاريخ والشعر مجتمعين». فهي إدراك جمعي له منطقه الخاص.
نستطيع القول إذن بخيرية الأساطير وامتلاكها لبعد أخلاقي وتربوي، بإمكانه المساعدة في تحسين فكرنا وسلوكياتنا تجاه العالم وبين بعضنا البعض. كما أنَّ الأسطورة تاريخ عام سواء كان خياليًا أم حقيقيًا، يجعلنا نستخلص الرسائل منه حتى نعيش الحاضر. هذا التوظيف الذي قام به أفلاطون في مؤلفاته ومحاوراته ليجعل منها شرحًا لأفكاره الفلسفيَّة وطريقًا إلى التعلَّم وليس لمجرد التسلية.
الأساطير كصوَر تشكيلية
لا تكتفي الكاتبة بالاستفادة من الأساطير وجعلها نافعة، بل عرجت إلى تناول الفنون لهذه الأساطير. فهي ترى في الفن هروبًا من قسوة العالم المعاصر إلى عالم جميل منفتح، وهي نظرة لا تبتعد كثيرًا عمّا كان يعتقده بعض الفلاسفة والعلماء، مثل نيتشه وشوبنهاور، في كون الفن مواساة لنا وتعويضًا، بل مخدرًا كما اعتقد عراب مدرسة التحليل النفسي، سيجموند فرويد.
وترى الكاتبة أن الفن وسيلة لرفع مستوى وعينا الذهنيّ والأخلاقيّ، لخلق مجتمعات أفضل، على عكس الحروب التي تدمرِّنا. غير أنَّ أملها لا يعدو كونه مجرد أمنيات صعبة التحقيق. فحتى الفن بإمكانه أن يصبح مشابهًا لما تفعله الأساطير، فنجده يُذكِّرنا بشرور العالم ويحذِّرنا منه.
فالفن ليس مجرّد أكوان جميلة تُنسينا قسوة العالم، لكن يمكن أن يكون سبيلًا حقيقيًا في تحسين العالم الآني، عبر جعله مثل الأسطورة، ومُحذّرًا لما يحدث لنا وللآخرين.
هذه الحقيقة التي تعيد إلى أذهاننا صور أحد أشهر الرسامين الهولنديِّين الذي يعتبره البعض أب السريالية؛ وهو «هيرونيموس بوش»، الذي جعلته نزعته التشاؤمية حول ما يراه في عصره من جشع وخبث ومظاهر لاأخلاقية، يقدِّم أفزع اللوحات وأقساها في كلّ تاريخ فن التصوير، في رؤية يجعل فيها من الفن ليس مواسيًا للبشريَّة، بل صدمةٌ توقظه من سباته، ومستفيدًا من الحكايات والمخيَّلة الأسطوريَّة الواسعة في أعماله.
ولعله من الحكمة لمصمِّم أو منسِّق غلاف الكتاب المُترجَم إلى القراء الناطقين باللغة العربية اختياره لصورة إحدى لوحات الفنان الهولندي «بيتر بروغل الأكبر»، انتصار الموت The Triumph of Death، هذا الرجل الذي سلك طريقًا في الرسم قريبًا من «هيرونيموس بوش»، وتأثَّر به حتى في تقنياته في إنجاز أعماله، حتى لقبَّه البعض بـ «ببوش الثاني» The second Bosch.
ولا نجد ذلك في رسومات الاثنين ومن عاصرهما أو سبقهما فحسب، بل في الفنِّ القوطي بشكله العام الذي اهتم بكشف شرور وإغراءات النفس البشريَّة في تلك الفترة. كما لا يقلّ الفن الحديث عن تناول مساوئ عصره، بخاصة المدرسة التعبيريَّة التي نقلت إلى العالم هواجس ومخاوف الفنَّان في بيئته الممتلئة بالحروب والمآسي، بأسلوب ليس بعيدًا كثيرًا عن الحكي وقول الأساطير.
تكشف لنا الأساطير عن عقل جمعي مبدع يناقش مسائل الكون الكبرى والصغرى بواسطتها. ورغم اختلاف الفلاسفة والباحثين في تعريفها وتفسيرها باختلاف فكرهم ومنهجهم ومدارسهم، فإنَّ التفكير المطلق الذي يحوِّلها جميعها إلى مجرّد خيالات مريضة أصبح يخفق الآن في هذه الألفية، التي رفعت من مستويات وعيها، ليس بفهم مخزون السرد الأسطوري فقط، بل عبر توظِّيف ذاكرة القدماء التي نبذها الإنسان المعاصر وجعلها الآن تعمل مع ذاكرتنا حتى تنجز شيئًا.