إنسانية النضال: غزوات الرسول نموذجًا
يعتقد كثيرون، بحُسنِ أو بسوءِ، نية أن رافعي لواء النضال في سبيل القضايا الكبرى ينبغي أن يكونوا من طينة مختلفة عن باقي البشر، فلا تسري عليهم قواعد النقص البشري، ولا يتسلل إلى نفوسهم القنوط أو الإحباط. ويعلمنا التاريخ والواقع أن هذا غير صحيح بالمرة، وأن المناضلين ما هم إلا بشر، لكنهم اختاروا أو اُختيرَ لهم أو حاولوا أن يكونوا أكثر حركة وفاعلية في سبيل ما يعتقدون.
ومع تكالب الملاحم والآلام على الأمتيْن العربية والإسلامية، وقصف الهزائم والانتكاسات في السنوات الأخيرة الصعبة، أُصيبَ كثيرون، لا سيَّما من كانوا مناضلين فاعلين وناشطين، بأزماتٍ نفسية، وتخبطاتٍ فكرية، وجلدٍ شديدٍ للذات نتيجة الفشل، فحمَّلوا أنفسهم وجيلَهم فوقَ ما يُحتَمَل من مسؤولية الانكسار، وسقطوا في دواماتٍ سرمدية من الإحباط والقنوط. وهذه الحالة المُتردِّية تقتل كل أملٍ في المستقبل قريبه وبعيده.
ولأن السيرة النبوية ما تزال مصدر الإلهام الحاضر الغائب لكثيرين، فسنعود إلى بعض أحداث غزوات الرسول، عليه الصلاة والسلام، بما تمثلُهُ من ذروة النضال في سبيل الإيمان، ونركز على بعض ما تخلَّلها من مظاهرٍ للضعف وللاندفاع الإنساني صدرت من الجيل الأعظم للأمة، والذي كان يمتلكُ آنذاك صلة مباشرة من السماء إلى الأرض بوجود الرسول (ص) والوحي، تجعله الأحظى فرصةً في السمو على نواقص البشر. وليس هدفُنا بالطبع الانتقاص من هذا الجيل المؤسِّس، ولا تزيين السقوط في الضعف الإنساني، إنما نريد الانتصار للفطرة الإنسانية، والتخلي عن أوهام أن نكون أبطالًا خارقين لا يأتيهم النقص من بينِ أيديهم ولا من خلفهم.
بدر: الاستغاثة والنصر
معركة بدر أو غزوة الفرقان، في رمضان من عام 2هـ، هي أولى المعارك الكبرى الفاصلة في تاريخ الإسلام. ثلاثمائة مقاتلٍ مسلم في مواجهة ألفٍ من كفار قريش الذين اضطهدوهم وأخرجوهم من بلد الله الحرام.
النبي (ص) الموصول بالسماء في خيمة القيادة يتضرَّع إلى الله، ويستنصره على العدو، ويطيل الدعاء المُبلَّل بالدموع بإصرارٍ وبعاطفةٍ مُتَّقِدة، ولغة جسَدٍ صاخبةٍ، حتى سقط رداؤه عن كَتِفيْه، وأشفق عليه صاحبُه أبو بكرٍ الصديق.
أما في ساحةِ المعركة، فشهدنا مواقف إنسانية مؤثرة، منها مثالًا لا حصرًا موقف بلالٍ بن رباح عندما وقعت عيناه على أمية بن خلف الذي كان يعذبه قبل أعوام في هجير مكة، وكان صحابيُّ آخر هو عبد الرحمن بن عوفٍ قد أعطاه الأمان لما استسلم له وكان صديقه في الجاهلية، لكن لم يقدِر بلال على كبح جماح رغبته المفهومة في الانتقام، فصرخ بالمسلمين ليعينوه على قتل أمية رغم أمان ابن عوف، وقد كان، وأصيب ابن عوفٍ في ساقه أثناء محاولته الدفاعَ عن أسيره.
وكان الرسول (ص) قد أمر المسلمين بتجنب قتل بعض المشركين وجُلُّهم من بني هاشم، لأنهم خرجوا للقتال مُرغَمين. فخرج الصحابي أبو حذيفة بن عتبة عن طوره – وكان أبوه وعمه من المشركين قد قُتلا في المبارزات قبل المعركة- وأقسم أن يخالفَ هذا وأن يقتل العباس عم الرسول (ص) مساواة بمن قُتل من أهله وأهل غيره، فغضب الرسول، وغضب لغضبه عمر بن الخطاب، واستأذن الرسولَ أن يضرب عنق أبي حذيفة، لكن الرسول (ص) لم يفعل، وندم أبو حذيفة على ما قال، ورأى أنه لا تكفير لذنبه إلا الشهادة في سبيل الله، وتحقَّق له ذلك بعد 10 سنواتٍ في معركة اليمامة في حروب الردة.
هزيمة أحد: ليست كل النيات مُخلصة
نحفظ جميعًا عن ظهر قلب قصة هزيمة أحد، وكيف انقلبت المعركة رأسًا على عقب عندما تخلّى 40 من أصل 50 من الرماة عن مواقعهم الحيوية التي تحمي جيش المسلمين من الالتفاف، استعجالًا منهم لجمع الغنائم، فانتهز خالد بن الوليد، قائد فرسان مشركي قريش آنذاك، تلك الفرصة، وقام بهجومٍ مضادٍ قلب النتيجة رأسًا على عقب، وتحوَّل النصر الأوَّلى إلى هزيمة، واستشهد 70 من المسلمين، وأصيب الرسول (ص) بجراحٍ بالغة.
كذلك لم يثبت بعضُ المسلمين، وفرُّوا من المعركة مع بدء انقلابها، حتى وصلَ بعضهم إلى المدينة، أو احتموا بجبالٍ قريبة، ووصل الاضطراب بالبعض الآخر لقتل مسلمين آخرين بالخطأ. ولمَّا ذاعت شائعة مقتل الرسول (ص) أوشك آخرون على الاستسلام، أو طلب وساطة عبد الله بن سلول زعيم المنافقين ليأخذ لهم العفو من المشركين.
نزلت آيات القرآن تُعاتب المسلمين على كل هذا التقصير، وذكرت صراحة أن النيات لم تكن كلها مخلصة، وأن هناك من كانت غايتهم مكاسب الدنيا العاجلة على حساب الآخرة، وهؤلاء الذين تسبَّبوا في الهزيمة، وسقوط المزيد من الشهداء. ومع ذلك، فقد منَّ الله عليهم بالعفو الكريم رغم فداحة الجُرم ونتائجه الكارثية.
الأحزاب: فن التنازل
تحالفٌ عسكريُّ غير مسبوق بين قريش وقبائل عربية عديدة بتحريضٍ من يهود بني النضير الموتورين لطردهم من المدينة بعد خيانة عهدهم مع النبي (ص)، بلغ قوامه 10 آلاف مقاتل يتجهون لاجتياح مدينة الرسول (ص)، والتي كان يدافع عنها 3 آلاف مقاتل على الأكثر، وخندق بطول حدود المدينة الشمالية، تحصَّن المدافعون خلفَه. فاضطر المهاجمون لفرض الحصار ريثما يجدون وسيلةً لعبور الخندق.
ورغم أن الموقف الدفاعي لم يكن بالغ الصعوبة، فالتوازن العددي 1:3، والرسول (ص) صلة الأرضِ بالسماء هو القائد، والخندق حاجزٌ بين الجانبيْن، وحتى لو عبره المشركون، فإنهم سيخوضون حرب شوارع ضروساً في المدينة، لن تكونَ حظوظهم في الانتصار فيها أكيدة، رغم هذا، فقد نقل لنا القرآن الكريم ما كان يعتمل في صدور كثيرٍ من المسلمين من قلق واضطراب، ذهب ببعضهم إلى حد سوء الظن بالله.
وشهدت تلك الغزوة موقفًا إنسانيًا لا يُنسى، عندما رفض قادة الأنصار ما عرضه الرسول (ص) عليهم من تقديم بعض التنازلات المادية من أجل تفريق الأحزاب. إذ بعد أسابيع من الحصارِ الخانق، حاول الرسول (ص) أن يجد مخرجًا، فشاور زعماء الأنصار، في أن يمنح قبائل غطفان وحلفاءها ثلث ثمار المدينة مقابل انسحابهم، فيخلو المسلمون بقريش التي احترفوا حربها.
برَّر الرسول (ص) سعيَه هذا بإشفاقه على الأنصار من انقضاض العرب عليهم كرجلٍ واحد، ولم يركنْ إلى أن في أعناقهم بيعةً ملزمةً لهُ بنصرته وقعت قبل الهجرة وهي بيعة العقبة الثانية، وفي بنودها تكفُّلُهم بالدفاع عن الرسول (ص) ضد كل خطر، مهما كان الثمن. احترمَ الرسول (ص) ضعفَهم البشري، والضغوط التي تُثقل عليهم جراء اشتداد الحصار، وسخرية المنافقين. لكنهم أصرَّوا على الصمود، وعلى ألا يتخلُّوا عن تمرةٍ واحدة من تمر المدينة في صفقةٍ سياسية.
مؤتة: الانتصار انسحابًا
الوضع شديد الصعوبة على المسلمين في تلك البقعة الملتهبة من جنوب الشام، على بعد أكثر من ألف ميلٍ من قاعدة المسلمين في المدينة المنورة. 3 آلاف مقاتلٍ مسلم جاءوا إلى تلك البقعة البعيدة قرب قريةٍ تُسمَّى مؤتة، لينتقموا من غدر العرب الغساسنة حلفاء الروم بالرسول الذي بعثه إليهم النبي (ص) وقتله، ففوجئوا بأن العدو قد حشد لمواجهتهم أضعافهم من الجنود الروم ومن والاهم من العرب.
تشاورَ القادة ليومينِ كامليْن، ومال كثيرون للكمون ريثما يراسلوا الرسول باختلال الميزان العسكري، فإما أمرهم بالانسحاب، وإما الإقدام. لكن في النهاية اقتنع الجميع بحماسة القائد عبد الله بن رواحة بالتقدم للقتال، وتعويض النقص العددي، بالتفوق الإيماني النوعي.
ثبتت الفئة القليلة في ساحة المعركة، ودافعتْ دفاعًا حاميًا، أسفر في ساعاته الأولى على استشهاد قادة الجيش البواسل الثلاثة واحدًا تلوَ الآخر بعد قتالٍ شديد، لكن لم ينكسر الجيش، إذ آلت القيادة إلى خالد بن الوليد، حديث العهد بالإسلام، وقديم العهد بالكفاية الحربية والقيادية، والذي قاتل بشراسة حتى أتلف 9 سيوف بمفرده، ثم فرض الليل سكونَ القتال، وانكفأ كل طرفٍ إلى معسكره ليستعد لجولةٍ جديدة.
ورغم شجاعة المسلمين، ونُبل صمودهم في اليوم الأول، فإن خالدًا لم يكابر، فالمعركة غير متكافئة، وكذلك ليست معركة وجودية تستدعي الثبات حدَّ التفاني، فقامَ في اليوم الثاني بتنفيذ خطته الخداعية الذكية التي مكَّنته من الانسحاب بسلام فغير أوضاع المقاتلين بين مختلف قطعات الجيش، وعدَّل في شكلِ تراصّ صفوفه، وجعل الخيل تُكثر من الحركة وإثارة الغبار ليلًا، فأوهم الروم وحلفاءهم أن مددًا كبيرًا قد جاء للمسلمين. ثم قاتل جزءًا من النهار قتالًا دفاعيًا يتراجع فيه الجيش تدريجيًا، فخاف العدو من ملاحقتهم لخوفه من الانجرار إلى كمينٍ ما في قلب الصحراء. وهكذا عاد الجيش إلى قاعدته في المدينة المنورة ولم يفقد من قوامه سوى 12 رجلًا فحسب وفقَ أرجح الروايات.
مع وصول الحيش إلى المدينة، استنكر المسلمون انسحابَهم، وعيَّروهم بالفرار في سبيل الله، حتى أن بعض العائدين كان يستحي أن يخرج من بيته لشدة لوم الناس، فحينها تدخل الرسول (ص) وأنصف هذا الانسحاب التكتيكيّ العظيم، وقال مقولته الشهيرة:
ويعد بضعة أعوام، عاد خالد إلى الشام قائدًا لجيشٍ قوامه أضعاف الجيش الذي انسحب به من مؤتة، وألحق بالروم هزيمةً فاصلةً في موقعة اليرموك.
اقرأ: بين خالد وعمر .. لماذا اختلفَ عظيما الإسلام؟
خيانة عظمى مغفورة
في مختلف الثقافات والأزمنة والأمكنة، عقوبة الخيانة العظمى في وقت الحرب هي القتل، وفورًا، مع التشهير، ليكون الخائن عبرة لمن يعتبر ومُثلة لمن لا يعتبر. والإبلاغ عن تحركات الجيش السرية للعدو، هو في الصفحة الأولى من كتاب الخيانة العظمى للمبتدئين.
عام 8 هـ، اعتدتْ قبيلة بكر حلفاء قريش على خزاعة حلفاءِ المسلمين، وناصرت قريشٌ حليفَها في عدوانه، وبذا قد انتهكت بنود صُلح الحديْبية، فقرَّر الرسول، عليه الصلاة والسلام، أن يفعل ما طال انتظاره، وحانت فُرصَته السانحة، وشرع في التجهز لاجتياح مكة وتحريرها من قريش.
ولتحقيق مفاجأةٍ تكتيكية لقريش، أخفى النبي وجهةَ الجيش الحاشد عن معظم أفراده، وقام بخططٍ خداعية وتمويهية تظهر أنه متجهٌ إلى غير مكة. لكن فوجئ النبي الكريم بالوحي يكشف له مؤامرة جاريةً لإنذار قريش بقرب غزو المسلمين، وهذا كفيلٌ بحرمان المسلمين من مِزية السرية، وزيادة خسائرهم في فتح مكة إن استعدَّت قريش للدفاع.
كانت الصدمة أن صاحب المؤامرة ليسَ جاسوسًا مدسوسًا، أو من عوام الناس، إنما من قدامى المهاجرين، ومن الرماة الماهرين الذين شاركوا في الغزوات الكبرى كبدرٍ وأحد، بل وكان سفير الرسول (ص) إلى المقوقس حاكم مصر. إنه حاطب بن أبي بلتعة اللخمي.
استأجَر حاطب امرأةً لتسافر إلى مكة، برسالةٍ تحذيرية منه مُخبَّأة كانت تلفُّها في طيَّات شعرها، وأبلغ الوحي الرسولَ بمكانِها في أول الطريق، فأرسل لها اثنيْن من الصحابة هدَّداها حتى أخرجت الرسالة. عندما فشا الخبر، وانكشفت المؤامرة، استأذن عمر بن الخطاب الرسول (ص) في أن يطيحَ برأس حاطبٍ جزاءً وفاقًا على تلك الخيانة.
لكن، استجوبَ النبيُّ حاطبًا بهدوء، وسأله عن سبب ما فعل، فأجاب بأنه ما زال على الإسلام، لكنَّه خشي أن ينتقم القرشيون من أقاربه وأبنائه وممتلكاته في مكة، لا سيَّما وهو ليس من قريش. وكانت المفاجأة أن عفا عنه الرسول النبيل، وأخبرَ عمر والغاضبين أن حاطبَ له سابقة عظيمة بمشاركته في غزوة بدر، ولعلَّ الله أن يغفر له تلك الخطيئة الكبرى إذا وُضعت في الميزان أمام أعماله العظيمة السابقة في الكفة الأخرى.
وعاش حاطب بينَ المسلمين 22 عامًا بعد فتح مكةٍ، حتى وفاته عام 30 من الهجرة، ولم يتعرَّض خلال تلك الأعوام الطويلة لاضطهاد أو إقصاء.
خاتمة
مواقف الضعف الإنساني في الأحداث الفاصلة من سيرة الرسول كثيرة، وما ذكرتُه هنا هو غيضٌ من فيض، لكنها لم تمنع ما حققَّه هذا الجيلُ من تغييرٍ في وجهِ الأرض، لأن القوى في بعض الصفات والمواهب كان يأخذ بيد الضعيف فيها، والعكس بالعكس، فكان أبو بكرٍ في لينِه وهو خليفة يتقوَّى بشدة عمر، وعمر في موازناته يعتدل بحزمِ أبي بكر.
وأخيرًا، هل تعلم يا قارئ هذه السطور أن جمهور فقهاء أهل السنة من استقرائهم لمختلف النصوص، يروْن أن الرسول (ص) معصومٌ فقط في نقل الرسالة، لكنه ارتكب أخطاء دون الكبائر، وراجعه فيها ربُّه؟