المساعدات الإنسانية: شراء أجساد المشردين خلف الكاميرات
شاحنات مُحملة، مواد غذائية يتم توزيعها، ولاجئون يتسلمون المساعدات وقد ارتسمت على وجوههم البسمة… مشهد كثيرًا ما تلتقطه عدسات الكاميرات في مناطق ومخيمات اللاجئين، وعادة ما يصاحبه ضجيج إعلامي حول دور الدول المانحة ومنظمات الإغاثة الدولية في تخفيف معاناة الضحايا التي مزقت الحرب بلادهم.
بينما ينتهي المشهد هكذا، فعالم ما خلف الكاميرات لا يكون بتلك الصورة المثالية. فبعد فترة قليلة تتلاشى المساعدات عبر عمليات سرقة وتلاعب من مختلف الأطراف حتى من جانب منظمات الإغاثة ذاتها. وبدلًا من المساهمة في تخفيف معاناة هؤلاء الجوعى، ينهب مسئولو تلك المنظمات الطعام من أفواههم، ويساومونهم على أجسادهم بالنهاية.
سرقة المساعدات: ما وراء الكاميرات
مثّلت اليمن مثالًا واضحًا لهذا العالم، فقد تدفقت المساعدات المالية عليها، فبلغت نحو 6 مليارات و263 مليون دولار في الفترة من 2015 حتى 2018، لكن الأزمة الإنسانية لم تتحسن على أرض الواقع، واستمرت في التصاعد من عام لآخر، حتى ارتفع عدد الجوعى ومن يعانون نقص الغذاء من 17 مليونًا إلى نحو 20 مليون شخص.
تعددت الأسباب وراء ذلك بين الحصار، وامتداد أمد الأزمة، وعمليات السرقة والتلاعب من قبل الحوثيين، إلا أن الأمر لم يقف عند هذا الحد بل امتد إلى منظمات الإغاثة الدولية، حيث عمد عدد من مسئولي تلك المنظمات إلى المتاجرة بمعاناة اليمنيين، وإثراء أنفسهم بمليارات الدولارات المُقدمة للحد من وطأة الأزمة، واتبعوا في ذلك العديد من الطرق الملتوية، أبرزها: استغلال القواعد الخاصة بالمنظمات الإغاثية التي تسمح بتحويل أموال المساعدات بصورة مباشرة إلى حسابات العاملين.
هدفت المنظمات من هذا الإجراء إلى إسراع وتيرة شراء السلع والخدمات في حالة الأزمات والطوارئ، والحفاظ على عملياتها في المناطق النائية في ظل تعطل جزء كبير من القطاع المصرفي في اليمن عن العمل، لكن ما حدث أن قام بعض مسئوليها بتحويل جزء كبير من تلك الأموال لصالحهم.
استمر الوضع هكذا طيلة سنوات الأزمة، إلا أنه مع تفاقم عمليات السرقة، وانتشار الأنباء مؤخرًا عنها، اضطرت الأمم المتحدة إلى إجراء تحقيق داخلي في الجرائم. أثبت التحقيق تلاعب بعض مسئولي الأمم المتحدة ووكالاتها المختلفة بأموال المواد الغذائية والطبية، عبر تعيين أشخاص غير مؤهلين في وظائف ذات رواتب عالية، وإيداع ملايين الدولارات في حسابات بنكية شخصية تخص موظفين بالمنظمة، والموافقة على تعاقدات مُثيرة للريبة دون توافر أوراق ووثائق مناسبة، فضلًا عن اختفاء أطنان من الأدوية والوقود الُمتبرع به.
كان من بين المسئولين طبيب إيطالي يُدعى «نيفيو زاغاريا»، شغل منصب رئيس مكتب الصحة العالمية في صنعاء منذ 2016 حتى 2018، أجرى تحويلات مباشرة بقيمة مليون دولار لحساب موظفين بعينهم سبق أن جلبهم للعمل ورقّاهم إلى مناصب ذات رواتب عالية، في حين أن دورهم الوحيد كان رعاية زاغاريا. وهناك أيضًا «تميمة الغولي» إحدى موظفات الأمم المتحدة في اليمن، اعتادت فبركة كشوف الرواتب وإدراج أسماء موظفين وهميين للحصول على رواتبهم.
في ظل هذه الأوضاع أرسلت منظمة الصحة العالمية محققين إلى اليمن للكشف عن هذه الاختلاسات، وبالفعل وصلوا إلى أجهزة كمبيوتر تحوي دلائل على السرقة، وبينما يستعدون لحملها وفحص ما بها، إذ بهم يُفاجأوا بوصول مجموعة مسلحة من الحوثيين إلى صالة المطار ومصادرة الأجهزة خوفًا من فضح الأمر، وتبين بعد ذلك أن من أبلغ الحوثين بالأمر تميمة الغولي، وبدلًا من أن يتم محاكمتها، تم إبعادها عن العمل باليمن، مع إبقائها في وظيفتها بالمنظمة.
نفقات تلتهم الدعم
إذا كانت هذه تصرفات فردية لمسئولي المنظمات الدولية، فالأمر لم يخلُ من مسئولية تتحملها المنظمات ذاتها، حيث عملت على تبديد أموال المساعدات في نفقاتها الإدارية، ما قلّص المبالغ الحقيقية المقدمة لضحايا الأزمات والحروب.
فرغم أن القواعد الدولية الخاصة بتلك المنظمات تنص على حقها في اقتطاع ما بين 10% إلى 12% من المبالغ المخصصة للمساعدات كمصاريف إدارية، إلا أن واقع الحال كان عكس ذلك. فالكثير من هذه المنظمات تعدت نفقاتها هذه النسبة، وبدّدتها في مصاريف مساكن وسيارات وتذاكر سفر ورواتب شهرية لمسئوليها، تصل في كثير من الأحيان لأضعاف رواتب كبار المسئولين في الحكومات الأمريكية والأوروبية.
والأمر هنا ليس حكرًا على اليمن، بل هو الواقع في مختلف مناطق النزاعات. ففي سوريا مثالًا، رصدت الكويت في مؤتمر المانحين الأول نحو 5 ملايين دولار للنازحين في سوريا، إلا أن المبلغ تبدد في تلك المصاريف الإدارية وعمليات التلاعب، ولم يصل للنازحين منها سوى 480 ألف دولار.
تكرر الأمر ذاته في العراق، وإن اختلفت طبيعة عمليات التبديد. فالمنظمات بمخيمات النازحين العراقيين لم تتعامل بشكل مباشر مع هؤلاء النازحين، بل اعتمدت في عمليات شراء وتوزيع المساعدات على عدد من الجمعيات المحلية التي أنفقت بدورها جزءًا بسيطًا من أموال المساعدات لصالح النازحين، فيما استولت على الباقي بحجة المصاريف الإدارية ورواتب العاملين.
وتشير الروايات في هذا الصدد، إلى أن تلك الجمعيات عادة ما تبيع المساعدات في الأسواق التجارية بأسعار مخفضة، أو تتفق مع تجار على شراء كميات ضخمة منها، ويتم تحميلها في شاحنات وتصويرها وتوثيقها، وبعد ذلك يتم توزيع كميات صغيرة منها وتُعاد بقية البضاعة إلى التاجر الأصلي الذي يعيد لصاحب الجمعية أو المنظمة أمواله، مع خصم ثمن الكمية الموزعة واحتساب هامش ربح بسيط من عملية الاحتيال.
سرقة من نوع آخر: الجنس مقابل الغذاء
لم تقف عمليات نهب المساعدات الغذائية عند هذا الحد، بل تبعها في كثير من الأحيان سرقة أجساد ضحايا الحروب ذاتهم، عبر مساومتهم لاستغلالهم جنسيًا مقابل الحصول على الغذاء، تحت مبدأ «الجنس مقابل الغذاء». فهذا المبدأ كثيرًا ما تردد على مسامع النساء بمناطق الصراعات ومخيمات اللجوء، حيث يتم مساومتهن على ممارسة الجنس مع موظفين وعاملين في مجال المساعدات الإنسانية، من أجل تسجيلهن في قوائم الحصول على الغذاء والمأوى لدى الأمم المتحدة.
وإذا كان التحقيق في سرقة أموال المساعدات ما زال جاريًا، فعمليات الاستغلال والمساومة الجنسية مقابل الطعام تم توثيقها في العديد من التقارير الرسمية، من بينها تقرير لمنظمة أوكسفام البريطانية، كشفت فيه عن انتشار الاستغلال الجنسي، بعد زلزال هايتي في 2010، خصوصًا بحق الأطفال، متهمةً نحو 120 موظفًا باعتداءات وانتهاكات جنسية. وكذلك تقرير للجنة الدولية للصليب الأحمر اعترفت به أن 21 من موظفيها، إما فُصلوا أو استقالوا منذ عام 2015، بسبب الاستغلال الجنسي للأطفال اللاجئين.
الأمر ذاته أكده تقرير رسمي تناول تورّط موظفي أكثر من 12 منظمة دولية في عمليات الاستغلال الجنسي للنساء بمخيمات اللاجئين في غرب أفريقيا. كان من بين هذه المنظمات مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين، وبرنامج الغذاء العالمي، وجمعية «أنقذوا الأطفال» البريطانية، وأطباء بلا حدود، والصليب الأحمر، ومنظمة كير الدولية، فضلًا عن المجلس النرويجي للاجئين.
وطبقًا للشهادات الواردة بالتقرير، رسمت إحدى السيدات بمخيمات اللاجئين صورة واقعية لعمليات المساومة الجنسية قائلة:
رغم قسوة الصورة، إلا أنها لم تكن حكرًا على مناطق النزاعات واللاجئين بالغرب الأفريقي فقط، حيث تم الإبلاغ عن عمليات الاستغلال الجنسي بمختلف المناطق التي عملت بها الأمم المتحدة مثل البوسنة والهرسك، وكوسوفو، وكمبوديا، وتيمور الشرقية، وغرب أفريقيا، وجمهورية الكونغو، وهايتي، وليبيريا، وجنوب السودان، وحديثًا سوريا، إذ طالب بعض موزعي المساعدات الإنسانية من السوريات أرقام هواتفهن، وعرضوا عليهن الحصول على المساعدات الغذائية مقابل زيارتهن في منازلهن وقضاء ليلة معهن، فيما ساومهن آخرون على إرسال صور عارية لهم مقابل المعونات الغذائية.
رفضت العديد من السوريات تلك المساومات الرخيصة، فتم حرمانهن من المساعدات، فيما اضطرت إليها أخريات، وبين هذا وذاك، اضطرت العديد من النساء والفتيات السوريات للتزوج من مسئولي المساعدات الإنسانية لتقديم الخدمات الجنسية مقابل الحصول على الطعام.
ختامًا، يمكن القول إنه على الرغم من هذه الاعتداءات التي تم الكشف عنها، فالأمر عادة ما ينتهي بتحقيقات داخلية باهتة وعدد من الاستقالات المحدودة، إلى جانب الإقرار ضمنًا أو علنًا بالخطأ مع عبارات الأسف أو الإدانة، دون أي تغيير حقيقي.