التنمية البشرية ويوتوبيا المجتمع السائل
الحديث عن النجاح والثروة وتحقيق الذات جذاب بطبيعة الحال للنفس البشرية، ويصبح أكثر جاذبية عندما يتحول إلى وعد محتمل التحقق، وإمكانية لها دروب معدة وجاهزة، فما بالك لو تحول ذلك لمادة تبدو علمية لها منشوراتها وكتبها وفقهاؤها؟
بنظرة خاطفة لمنافذ توزيع الكتب سواء كانت رسمية عبر دور نشر ومكتبات، أو كانت شعبية بالأرصفة والميادين؛ تتصدر كتب ومنشورات النجاح والثروة وتحقيق الذات واجهات العروض كونها الأكثر مبيعًا ومثار اهمتام الطلائع والشباب.
وعلى نفس خط التماس تستحوذ مواد الفيديو المتعلقة بهذه الفئة على نسب مشاهدة عالية، حتى أصبح لها نجومها المؤثرين داخل المجتمع في إطار ما يسمى التنمية البشرية. فهل الانتشار الكبير والبحث الدائم على تعاليم التنمية البشرية حلقة في سلسلة التطور والنضج الحضاري والثقافي، أم نوع من التمركز حول الذات والبحث عن هوية فردية مفارقة؟
بداية، تبدو تعاليم وكورسات التنمية البشرية غير تابعة لعلْم، ولا يمكن توصيفها كعلم من حيث الموضوع أو المنهجية أو المعالجة حتى وإن أصر روادها وتلاميذهم على نعتها بالعلم. بالواقع هي تعاليم ودروس مستقاة من مستخلصات العديد من العلوم والتجارب الشخصية وفنون التأثير/ التسويق والدعاية مع مسحة دينية لأجل إنتاج فرد/ موظف مرن (وربما مغامر) داخل ثقافة واقتصاد السوق الحرة المعولمة، على وعد بالنجاح والثروة وطغيان السعادة.
ترجع نشأة وتطور مفهوم التنمية البشرية الحديث بالتزامن مع صعود التوجه النيوبرالي بشقيه الفلسفي والاقتصادي بالنصف الثاني للقرن العشرين ،فيما اُصطُلِح عليه عصر «ما بعد الحداثة»؛ حيث العولمة الليبرالية والسوق العالمية الحرة والمفتوحة وشيوع نمط الاقتصاد الاستهلاكي المبشّر بالرفاه والسعادة، وإن كانت الإرهاصات الأولى بدءت مع آدم سميث الذي طالب أصحاب رؤوس الأموال بضرورة الارتقاء بالعامل كأهم وسيلة نحو إشباع رغبة المستهلك.
التوجه الجديد جاء تطورًا لمرحلة العقلانية الأوروبية التي بشّرت بالراحة والسعادة فأنتجت حربين عالميتين كادتا تقضيا على كل فصول النهضة الأوروبية؛ فنشأ الشك واليأس حول فلسفة العقل وصعد نجم رأسمالية العم سام الوليدة والمبشرة بالاستهلاك والرفاهية والألفية السعيدة.
أصبح كل شيء يتدفق بلا انقطاع ومن ثم فقد كل شيء فيه كثافته واستقراره، والنتيجة الاجتماعية لهذه الظاهرة هي أن الفرد صار ملزمًا بأن يكون دومًا «كائنًا في طور البناء»، وهذا التوصيف الذي استساغه عالم الاجتماع البولندي زيجموند باومان في تحليله الموسوعي لمجتمع وعصر ما بعد الحداثة، وقد استعاض عنه بمصطلح آخر هو «المجتمع السائل».
والسيولة هي المرادف لذلك الخليط من الميوعة والهشاشة اللتين أصابتا المجتمع الحداثي في طوره المعولم. في كتابه «أبناء المجتمع السائل» ينبه باومان لمشهد مهم كأحد تجليات السيولة في المجتمع الحداثي المعاصر، وهو انحلال العلاقات؛ حيث أصبح كل شيء مرن وقابل للتخلص منه، حتى الذات نفسها. فقد بات لكل فرد قدرة على تصنيع ذاته الخاصة التي يشتهي، والناجمة عن ظاهرة البناء المتجدد الحتمي الذي طال كل شيء وصولًا إلى الذات.
في وضع كهذا أصبحت فلسفة الوجود لدى الأفراد في مرمى سهام السيولة، فالوجود اقتصر على السعي تجاه الهوية الشخصية وممارسات إثبات المرء لذاته.
المدهش في الموضوع أن الأدوات المستخدمة في تحقيق الهوية الفردية تبدو في ظاهرها نوعًا من الإرادة الحرة، وأهم تطبيقاتها ظاهرة الموضة، والتي هي خدعة سحرية تجعل من الممكن تحويل العرض إلى طلب، تزين للمستهلكين بأنهم المتحكمون الوحيدون في حياتهم ومظهرهم، وقادرين على الخروج من النمط الاعتيادي العام، لكنهم في الواقع ليسوا سوى مجرد لُعب بين يدي مبدأ الاستهلاك، الذي يقنعنا دومًا بأنه إذا كان بالإمكان الحصول على شيء أو فعل شيء، فما علينا سوى امتلاكه أو إنجازه، وإذا لم نستغل هذه الإمكانية فقد خلقنا سبب استبعادنا من المجتمع.
الأولويات في المجتمع السائل مغايرة، فالاستهلاك والموضة بمثابة التزامات أخلاقية على أعضائه حتى يحتفظوا بمقاعدهم؛ لكن تأطير ذلك وتصويغه وتسويقه يظل بحاجة إلى أدوات وشرعنة. لقد قام صناع التنمية البشرية بتجميع بروتوكولات المجتمع السائل وشروطه وقيمه حتى تصبح مرشدًا علميًا وعمليًا لتصنيع الهوية الشخصية، ولمن يريد أن يقود مركب وجوده نحو النجاح والثورة ونحو عصر طغيان السعادة (الاستهلاكي)، فسرى مبدأ الاستهلاك على التنمية البشرية نفسها حتى أصبحت موضة هي الأخرى، تغزو مساحات هائلة من اهتمام الشباب.
تتجلى مشكلة كبيرة في تعاليم التنمية البشرية الغارقة في مستنقع السيولة وهي تسعى لتوكيد الذات الفردية وانكفائها على نفسها، أنها فرضت العداء تجاه الآخرين اشتراطًا وجوديًا، وكذلك الانتقاص من الآخر ومهاجمته كشرط ثان. يقول باومان:
ورغم ذلك تخلو تعاليم التنمية البشرية من أي مجابهة حقيقية وجذرية مع تقاليد المجتمع التي وضعها أباطرة رأس المال الجدد، بل تعد نوعًا من التماهي وربما التواطؤ مع هذه التقاليد وتغذيتها، في كينونة منكفية على الاستهلاك والتملك –بتوصيف إريك فروم- فهي لا تملك أي أدوات الدفاع عن كينونتها الإنسانية، والاستغراق في حالة الصيد اللامتناهي التي يتسم بها المجتمع السائل.
فالفرد صياد وطريدة بنفس الوقت، وفكرة إنهاء الصيد ليست مغرية لأعضائه، بل مرعبة لهم لأنها تساوي الهزيمة الشخصية، فيوتوبيا الصيادين الآن هي الحلم بصيد لا نهاية له؛ فتبقى الحاجة -ملحة دائمًا- إلى توجيه وإرشاد مستمر عن كيفية صناعة الصياد الماهر!