بعد نشأة الحياة على الأرض منذ ملايين السنين؛ فُتنت الحضارة البشرية بالسحر السّماوي المُضيء بالنجوم والقمر وكوكب الزهرة اللامع، وبدأ الفلاسفة والمفكرون في إيجاد وسيلةٍ ما للبحث أكثر عما وراء تلك النقاط المضيئة. وفي العام 1609؛ كان العالم غاليليو غاليلي هو أول من استخدم التليسكوب لتقريب الأجرام السماوية، ورؤية معالم سطح القمر، وما تحتويه مجرة درب التبانة أيضًا.

وإذا تحدثنا عن المراصد واستكشاف الفضاء وما تخبئه لنا النجوم؛ لن يفوتنا بالتأكيد المشروع الأكثر أهمية؛ مرصد هابل، العين الراصدة التي أنارت أبصار الحضارة البشرية في الفضاء.


تاريخ ميلاد تليسكوب هابل

تليسكوب هابل ناسا
إدوين هابل أمام تليسكوبه الأرضي يتفقد النجوم

لم تكن رحلة ميلاد مرصد هابل بالعمل الهيّن بدءًا من الفكرة والتصميم والتنفيذ؛ وصولًا لتاريخ الإطلاق، والعمل رسميًا في الفضاء حتى يومنا هذا. جاءت الفكرة أول مرة بهدف توسيع مجال مراقبة الفضاء واستكشاف الكون، حين اقترح العالم الألماني هيرمان أوبرث في العالم 1923 إطلاق مرصد للفضاء يعمل على فهم أكثر للكون.

في العام 1946؛ بدأ رائد الفضاء الأمريكي «ليمان سبتزر» في وضع خطة لإنشاء مرصد راصد في الفضاء يكون صالحًا للاستخدام لمدة 50 عامًا قادمة، وسعى كثيرًا من أجل أن توافق وكالة ناسا على الخوض في إنشاء وتنفيذ فكرة المرصد بحلول العام 1969.

وفي العام 1975؛ بدأ كلاً من وكالة الفضاء الأوروبية ووكالة ناسا في العمل معًا من أجل تصميم وبناء تليسكوب يدور حول الأرض لاستكشاف الكون مُجهّز خصيصًا لتلك المهمة، وفي العام 1977 وافق الكونجرس الأمريكي على تمويل مشروع بناء التليسكوب.

بعد موافقة الكونجرس على مشروع بناء التليسكوب؛ تسّلم مركز مارشال الفضائي في هانتسفيل في ولاية ألاباما مهمة تصميم وتطوير أنظمة التليسكوب، أما مركز جودارد لرحلات الفضاء فقد تسلّم مهمة تصميم وتطوير الأدوات العلمية التي سيتم وضعها على التليسكوب، وتطوير أجهزة المراقبة الأرضية.

وفي العام 1979، تم تدريب رواد الفضاء الذين تم تجهيزهم للبعثة على محاكاة الوجود في الفضاء مثل انعدام الوزن، والتنقل، وغيرها من متطلبات العيش في الفضاء. ثم في العام 1981؛ تم تأسيس معهد علوم تليسكوب الفضاء في بالتيمور-ماريلاند، لتقييم المقترحات للتليسكوب مثل المهلة الزمنية اللازمة لإطلاق التليسكوب، وإدار البرنامج العلمي المتعلق به.

لكن، في الـ 28 من يناير عام 1986، حدثت كارثة أجلت كلًا مشاريع ناسا الفضائية، حين انفجر مكوك الفضاء تشالنجر الذي كان من المفترض أن يكون أحد المكوكات الفضائية الذي سيحمل التليسكوب إلى مداره بعد 73 ثانية من إقلاعه، وتوفي في تلك الرحلة 7 روّاد فضاء كانوا على متنه؛ توقفت على إثر ذلك رحلات ناسا لمدة عامين، قبل استئناف رحلاتها.

سُمّي المرصد أو التليسكوب باسم «هابل» تيمّنًا بعالم الكونيّات «إدوين هابل» الذي تنبأ بوجود العديد من المجرات – Galaxies في الكون من خلال ملاحظته للبقع الغامضة بين النجوم، وأيضًا تنبأ بأن الكون آخذٌ في الاتساع. وفي الـ 24 من أبريل عام 1990؛ أُطلق هابل على متن المكوك الفضائي ديسكفري – Discovery بصحبة 5 روّاد فضاء على ارتفاع 600 كم فوق سطح الأرض حيث وُضع في مداره.


التصميم الهندسي لهابل

شرح لتركيب اجزاء هابل

صُمم المرصد ليصبح عين البشرية على الكون، ومن أجل ذلك تم وضع معايير دقيقة للغاية من أجل ضمان عمله كما خُطط له، حيث بلغ طول المرصد نحو 13 مترًا، ووزن يزيد عن 12 طنًا، ولا يستهلك من الطاقة أكثر ما يستهلكه مجفف ملابس؛ ويسير في مداره حول الأرض بسرعة تبلغ نحو 8 كم/ ثانية ويكمل بها دورته الكاملة خلال 97 دقيقة، ويعتمد المرصد بشكلٍ كلي على 5 أجهزة رئيسية هُم:

  • المرآة الرئيسية المقعرة التي يبلغ قطرها نحو مترين و40 سم تقع في الغلاف الخارجي للمرصد.
  • الكاميرا الكوكبية – Planetary Camera، وهي كاميرا تصوير عالية الدقة تعمل في نطاقات رؤية واسعة للغاية بين الكواكب والنجوم، وصممت كي يسهل تبديلها مع كاميرات أخرى من نفس نوعها.
  • مقياس Goddard طيفي عالي الدقة.
  • كاميرا راصدة للأجرام باهتة الإضاءة في الفضاء.
  • مقياس طيفي عالي الدقة لرصد الأجرام الباهتة، ومضواء أو فوتوميتر – Photometer لقياس كثافة الضوء.
النظام البصري ومسار الضوء في تليسكوب هابل

أما عن النظام البصري في المرصد؛ فيعتبر أهم أجزائه، حيث تعد المرايا عين المرصد التي يرى بها في الفضاء. يُطلق على النظام البصري اسم النظام البصري المركب للتليسكوب، ويعمل بنظام يُعرف باسم Ritchey-Chretien Cassegrain الذي يتكون من مرآتين تعملان على التقاط وتركيز الصورة بصورة أكبر وأوسع في مجال العرض.

عندما يسقط الضوء على المرآة الرئيسية المقعرة للمرصد؛ ينعكس الضوء على مرآة ثانوية محدبة؛ ثم ينعكس مرة أخرى من خلال ثقب في مركز المرآة الرئيسية، وفي هذه النقطة؛ يتمركز الضوء في نقطة محورية ويمر إلى واحدة من أدوات المرصد.

أما عن مصادر الطاقة التي تبقيه في الفضاء؛ فهي تتمثل في لوحين شمسيين يبلغ طول الواحد منهما 25 قدمًا، ومقدار طاقة مستخدمه بقدرة 2800 وات، بالإضافة لـ 6 بطاريات مكونة من النيكل والهيدروجين بسعة تُقدّر بنحو 20 بطارية من بطاريات السيارات.


مهماته في الفضاء

صُمم المرصد وأطلق ليكون عين البشرية في الفضاء؛ وكانت أبرز مهماته هي استكشاف النظام الشمسي، وتحديد عمر وحجم الكون، والبحث عن الأصول والجذور الكونية، ورسم صورة توضيحية لتمدد وتوسع الكون، وتقريب الصورة أكثر لمحاولة فهم النجوم والمجرات والكواكب، وأخيرًا محاولة فهم وجود الحياة نفسها في هذا الكون.


كيف ساهم هابل في معرفة الأسرار الكونية؟

نتيجة للتصميم الهندسي والنظام البصري في التلسكوب؛ ساهم هابل في فهم بعض الأسرار الكونية:

  • المادة المظلمة في الكون

من خلال ملاحظة وتحليل التشوهات الناتجة عن تأثير جاذبية المادة المظلمة على الضوء الصادر من المجرات البعيدة؛ ساهم هابل في تسهيل المهمة على العلماء في رسم خرائط ثلاثية الأبعاد وواضحة لأماكن توزيع المادة المظلمة في الكون.

  • كوكب بلوتو

الكوكب الذي لطالما أحيط بالألغاز والأسرار على مدى عقودٍ كثيرة من الزمن؛ ساهم هابل في فهم الكوكب والتقاط صور واضحة لتضاريسه، واكتشاف قمريه نيكس وهيدرا، ومعرفة كتلة إيريس وهو كوكب قزم يقع في نهاية النظام الشمسي.

  • الأقراص الكوكبية

ساهم مرصد هابل في فهم أكثر لكيفية تكون النجوم؛ فإذا ما أمعنت النظر في السُّدم الكبيرة مثل سديم الجبّار؛ ستلاحظ أماكن تواجد النجوم من خلال أقراص كوكبية تظهر مُكوَّنة من مجموعة من الغاز والغبار توجد حول العديد من النجوم الشابة.

  • انفجارات أشعة جاما

تعد انفجارات أشعة جاما أقوى الانفجارات الموجودة والمعروفة في الكون؛ وساعد هابل في فهم أن هذه الانفجارات تحدث في المجرات التي ينشط فيها تكوّن النجوم.

  • اصطدام مذنب Shoemaker-Levy 9

التقط مرصد هابل صورة لاصطدم مُذنب Shoemaker-Levy 9 بكوكب المشتري عام 1994؛ وعملت جاذبية الكوكب القوية على اصطدام المذنب بقوة كبيرة، وتناثر أجزائه في أماكن متفرقة ظهرت في 21 مجالًا للرؤية، بالإضافة لرصد تصاعد ألسنة اللهب نتيجة قوة الارتطام لمسافة 3000 كم، ووجود بقعة مظلمة عملاقة يصل قطرها نحو 12 ألف كم.

  • الطاقة المظلمة

من خلال تحديد المعدل الذي يتمدد به الكون؛ ساهم مرصد هابل في معرفة حقيقة أن الكون يتمدد ويتوسّع، ويعتقد أن للطاقة المظلمة دورًا هامًا في ذلك.

  • الثقوب السوداء

ساهم هابل في اكتشاف حقيقة أن الثقوب السوداء ذات حجم هائل؛ وتكمن في كل مجرة في الكون تدعى الثقوب السوداء المركزية، كما أظهر أن هناك صلة بين حجم تلك الثقوب المركزية وحجم المجرات، كما أظهر هابل حقيقة أن الكون يتطور مع مرور الزمن.

  • بداية الزمن

قبل وجود هابل؛ كان علماء الفلك يعتقدون أن النجوم أقدم من الكون؛ لكن بعد ذلك استطاع هابل تحديد عمر الكون 13.75 مليار عام من خلال مراقبة معدل تمدد الكون، كما ساهم هابل في فهم عناصر كونية أخرى مثل كتلة النيوترونات.


أعجب صور هابل

تعد هذه الصورة إحدى أشهر الصور التي وثقت نجاح مرصد هابل في إبصارنا للكون، ومعرفة أسراره وتفاصيله الغائبة عنا.

تُسمى هذه الصورة بـ «أعمدة الخلق – Pillars of Creation» والتقطها مرصد هابل في الثاني والعشرين من أبريل عام 1995؛ وهي عبارة عن منطقة غنيّة بالغاز والغبار الكوني تظهر بوضوح في سديم النسر، ويبلغ طول العمود نحو 4 سنوات ضوئية.

صورة كاملة لسديم النسر تظهر بداخله منطقة أعمدة الخلق، تصوير المرصد الأوروبي الجنوبي


أعمال الصيانة هابل

هابل ناسا

لم يُترك المرصد يهيم في الفضاء وحده دون ملاحظة أو مراقبة؛ بل أُجريت عليه العديد من عمليات الصيانة والتجديد حيث تم إطلاق 3 مهمات فضائية في العام 1997، والعام 1999، والعام 2002 من أجل إضافة أدوات تعمل على تحسين أدائه في الفضاء مثل كاميرا جديدة، ومطياف الأشعة تحت الحمراء، ومطياف للأشعة فوق البنفسجية الذي أضيف للمرصد في العام 2009.

أخيرًا، على مدار أكثر من 25 عامًا؛ ظل مرصد هابل هو العين الراصدة التي أنارت بصيرتنا نحو الفضاء، وأرضت جزءًا يسيرًا من فضولنا نحو ما يخبئه لنا الكون من أسرار عظيمة ستفنى الحضارة البشرية جمعاء دون أن تدركها جميعًا.

المراجع
  1. 1
  2. 2
  3. 3
  4. 4
  5. 5