«نوارة»: ذلك الخيط الرفيع بين الإيمان والكفر
«ليه كده يا رب؟»
هكذا ينتهي الفيلم. بهذه الكلمات الأخيرة لـ منة شلبي، أو «نوارة». بهذا السؤال الذي لا يُرتجى له جوابًا بقدر ما تُرتجى الاستجابة.
يطرح الفيلم الكثير من الأسئلة، أو بالأحرى يعيد طرحها، ولكن يبقى السؤال الأهم هو «سؤال الإله». ربما كانت فكرة «غياب الإله» هي أهم عناصر تيمة الـ «ديستوبيا» والتي تواترت في العديد من الأعمال الفنية الشبيهة، ولكن هل نحن بصدد هذه التيمة بالفعل؟ هل يمكننا تصنيف فيلم نوارة على أنه فيلم «ديستوبيا»؟
ديستوبيا، أو ما يطلق عليه «أدب المدينة الفاسدة»، والذي يعني في أبسط تعريفاته المجتمع الفاسد وغير المرغوب فيه بطريقة ما، وهو المقابل لمصطلح «يوتوبيا» أو المدينة الفاضلة. ولكن هل هذا هو ما يرمي إليه الفيلم حقا؟ أن يخبرنا أننا أصبحنا نعيش ديستوبيا ما؟ هل أصبح من غير المحتمل العيش في هذا المجتمع؟ هل أصبحت نبوءة أحمد خالد توفيق التي ضمنها روايته «يوتوبيا» واقعًا نعيشه بالفعل؟ لو كنت بمرمى هذه الأسئلة لأجبت على الفور: «بالتأكيد».
يعني انت مصدقة
بيني وبينك
أوطان متفرقة
كوابيس متحققة
وذنوب متلفقة
إيه الحكاية بقى
منذ المشاهد الأولى من الفيلم يتسرب إليك هذا الشعور، ومهما أمعنت في تكذيب هواجسك وإخراس وسوساتها، يتنامى داخلك هذا الشعور الذي تغذيه المزيد والمزيد من الصور الواقعية كلما تقدم سير الفيلم. وشيئا فشيئا تتسارع دقات قلبك لتواكب هرولة «نوارة» و «علي» داخل أروقة المستشفى بحثًا عن والده.
ثم تطاردك تلك الأصوات التي تعج بها الخلفية، والتي ليست سوى الضجيج المعتاد للمستشفيات العامة ولكنك لا تدري لماذا تلاحقك؟ ومن بين هذه الأصوات يبرز صوت امرأة تزعق في انفعال محموم «فين مدير المستشفى دي؟ ده مش منظر مستشفى؟» يتباعد صوت المرأة بتباعد خطوات نوارة وعلي، ولكنك ما إن تنفلت منه حتى تتلقفك كلمات امرأة أخرى «حاجة تقرف»، وهكذا تستمر المطاردة حتى يعثر «علي» على والده ملقًى على الأرض بجانب أحد المراحيض.
تشبه أبويا في ضحكته لأمي
ليه كل حاجة مغيرة حسنك
لا دي ابتسامتك ولا ده حزنك
يتابع الفيلم تقدمه، ونترك المستشفى بضجيجها لننطلق مع نوارة في رحلتها إلى محل عملها، أو بالأحرى رحلتها من الديستوبيا إلى اليوتوبيا. وبعد التقافز بين مختلف أنواع المواصلات تصل نوارة أخيرا ونصل معها إلى إحدى المجمعات السكنية الفارهة «كومباوند» حيث تعمل كخادمة لدى إحدى الأسر ذات الثروة والنفوذ.
تتقدم نوارة بخطوات حثيثة صوب بوابة الكومباوند الضخمة. اختارت المخرجة هالة خليل لهذا المشهد كادرا شديد الاتساع وقامت بتكراره أكثر من مرة، وكأنما تريد أن تؤكد على الرمزية وراء البوابات الضخمة التي تفصل بين عالمي الدستوبيا واليوتوبيا والتي يزيدها الكادر المتسع ثقلا ورهبة، ويضفي على حجارتها المصمتة قسوة وبرودة.
تقترب نوارة أكثر، تحيي الحارس بإيماءة بسيطة فتنزاح السياج الحديدية ذات المحرك الإلكتروني الخفي مؤذنة لها بالمرور، تعبر البوابات وتنضم إلى جمع من أبناء الديستوبيا ممن حظوا بجواز مرور للبوابات الضخمة والسياج الإلكترونية، فقط لخدمة قاطني هذا الكومباوند. حينها تستسلم لذلك الشعور وتتخلص من الإنكار، وتتابع انعكاس ديستوبيا الواقع على ستار دار العرض.
وخدي بإيد الحلو والمالح
وتعالي نتصالح
كان إيمان نوارة نابعًا من ثقتها في عدالة الإله، فمن المؤكد أنه لن يتخلى عنها، فهي تحرص كل الحرص على اتباع أوامره وتجنب نواهيه. فنراها تمنع خطيبها «علي» من شراء جهاز تلفاز مسروق وتقول له: «حرام يا علي، هتدخل بيتنا حاجة حرام».
ولأن الشيطان يكمن في التفاصيل، فقد اهتمت هالة خليل اهتماما بالغا بكل التفاصيل الصغيرة، وأكدت عليها مرارا. ففي رحلة نوارة اليومية بين العالمين لم تكف محطات الراديو عن بث أخبار الثورة المنتقاة بعناية والتي كان محورها استعادة الأموال المهربة إلى الخارج، والسحر الكامن في هذه الأموال والقادر على تحسين الحياة بعالم الديستوبيا.
ولم يفت هالة خليل أن تطعم الفواصل الإعلانية بأغنية منير «إزاي»، أو إحدى أغاني حمزة نمرة الذي ارتبط اسمه واللون الغنائي الذي يقدمه بالثورة بشكل ما. وفي نهاية اليوم تعود نوارة لمسكنها بعالم الديستوبيا لتجد حفنة من الجيران متحلقين حول شاشة التلفاز ينصتون في شغف إلى حديث إحدى البرامج الحوارية الذي أكد ضيفه أن نصيب الفرد الواحد من الأموال المنهوبة لن يقل عن مائتي ألف جنيه، ما دفع إحدى الجارات أن تهتف «تحيا الثورة» وتتبعها بـ «زغروطة» شعبية أصيلة؛ تلك «الزغروطة» التي كررتها نوارة مرة أخرى لدى نقلها الخبر إلى جدتها النائمة بحجرتهم الصغيرة التي تعج بالكتاكيت.
«هو صحيح يا بيه الفلوس اللي هربوها في بلاد بره دي، هيرجعوها ويوزعوها ع الناس. أصلهم يعني بيقولوا كده في الراديو والتلفزيون، أنا كل اللي نفسي فيه يا بيه إن الغلابة اللي زينا تبقي عيشتهم أحسن من كده»
وخدنا كام خطوة وملحقناش
مين اللي كان بالخطوة دي بادئ
وليه في مكان البيت بكون لاجيء
الفجر صادق.. ليه مصدقناش
وليه نسينا ضحكة امبارح
ورفضنا نتصالح
خيط رفيع هو ما يفصل بين الإيمان والكفر. وكانت الثورة، بكل ما لها وما عليها، كاشفة ومجلية لمدى رثاثة واهتراء هذا الخيط. وما الإيمان بالوطن أو بالثورة إلا إحدى تجليات الإيمان بالإله، وعليه فالكفر بالوطن «الديستوبي» والكفر بالثورة الخاذل هو على إحدى المستويات كفر بالإله.
فالوطن غير قادر على استيفاء الحاجات الأساسية لمواطنيه من قاطني الديستوبيا والتي قد تتمثل في مجرد سرير بمستشفى، أو «بق» ميه. فأقصى مخاوف جدة نوارة هو أن تموت دون أن تجد ما يكفي من الماء لغُسْلها. تقول نوارة: «هو احنا كفرة يا ربي، ملناش عند الحكومة حق بق ميه».
وأما الثورة فقد خذلت هؤلاء البسطاء الذين هتفوا باسمها لمجرد أن لاح لهم في الأفق طوق إنقاذ زائف، وهي التي أكدت عليهم مرارًا أنها ما قامت إلا لأجلهم. في إحدى مشاهد رحلة نوارة بين العالمَيْن، اعترضت إحدى المظاهرات الطريق فأوقف السائق محرك السيارة وبدأت المجادلة بينه وبين الركاب، ما دفع نوارة للنزول ومحاولة إقناع منظمي المظاهرة لإفساح الطريق، ودار حوار بينها وبين إحدى المتظاهرات، التي لم تكن سوى هالة خليل مخرجة الفيلم، والتي أجابت طلبها بإفساح الطريق، أن المظاهرة أو «الثورة» لم تقم إلا لإفساح العيشة لأمثالها، وهو الوعد الذي لم يكتب للثورة الوفاء به.
وبتسرُّب الشك إلى الإيمان بالوطن ومن بعده الثورة، بالتبعية تسرَّب أيضا إلى الإيمان بالإله، وهو ما تجلّى في مشهد من أجمل مشاهد الفيلم التي جمعت نوارة وعلي بالفيلا، حينما أتاها مخدَّرا محاولا إغوائها، فهربت منه إلى حجرتها الصغيرة، وأحكمت إغلاقها وتساقطت على الأرض في محاولة بائسة للإمساك بآخر خيوط الضوء الذي انقسم على وجهها ليترك نصفه مضيئا ونصفه الأخر معتما في رمزية بالغة للحيرة بين الكفر والإيمان.
جمبي ومسافرة إمتى هتعودي
عودي ندهلك لما عودك طل
متخلنيش بالحب ده أتذل
على الأقل اعترفي بوجودي
ده أنا اللي بعبد فُلِّك الطارح
وأنا اللي راضع عيشك الصابح
ماتيجي نتصالح
وكما كانت الثورة لحظة رومانسية حالمة بنهاية عالم الديستوبيا، وإقرار الحد الأدنى من العدالة، أفقنا منها على أبشع الكوابيس الواقعية، كذلك كانت تلك الليلة الأخيرة التي قضتها نوارة مع علي بالفيلا الكبيرة في عالم اليوتوبيا الموازي، حيث كل شيء متاح، وكل الأحلام محققة، وحيث الماء من الوفرة إلى حد السباحة في حوض كبير من ماء السعادة يختلط بذلك الماء الدافق الذي يخلق منه البشر. أفاقت نوارة من هذا الحلم الخيالي على أبشع الكوابيس، لينتهي الفيلم بهذا الكم الهائل من الذعر الذي نقلته نوارة إلى المشاهدين، وتركت سؤالا أخيرا لا يُرتجى منه الجواب بقدر ما تُرتجى الاستجابة.. «ليه كده يا رب؟»
يعني انت مصدقة
بيني وبينك
أوطان متفرقة
كوابيس متحققة
وذنوب متلفقة
إيه الحكاية بقى
* المقاطع الشعرية من أغنية: عيني في عينك. غناء: فرقة إسكندريلا، أشعار: أحمد حداد.