يظن الكثير من المشاهدين أن فيلم هاياو ميازاكي قلعة هاول المتحركة Howl’s moving castle هو فيلم رومانسي اعتيادي عن فتاة تقع في حب ساحر، إلا أن الفيلم يحمل الكثير من العناصر المهمة التي لا ينتبه لها البعض، ويرجع ذلك إلى خفة تصويرها، خصوصًا في وقت كانت السينما فيه تأخذ الطريق المباشر للتعبير عن مختلف الأفكار.

يحكي لنا الفيلم قصة الشابة صوفي، التي تلقي عليها ساحرة البراري لعنة وتحولها إلى عجوز في عقدها العاشر. تضطر صوفي إلى مغادرة بلدتها نحو البراري حيث السحرة، بحثًا عن طريقة لفك اللعنة، وهناك تتمكن صوفي من دخول القلعة المتحركة للساحر سيئ السمعة هاول.

هل لعنة صوفي كانت في الحقيقة نعمة؟

ما الأسوأ؟ سؤال يسأله الناس عندما يصلون إلى الحضيض، وهذا تمامًا ما حدث مع صوفي. فلعنتها تجعلها أكثر حزمًا وشجاعة، اللعنة لم تترك لصوفي الكثير من الخيارات، لكنها أهدتها طرقًا واسعة للحرية، فنجد أنها تعقد عزمها وتنطلق إلى البراري حيث السحرة أملًا أن تجد من يفك لها لعنتها.

في رحلتها نرى كيف حررت اللعنة الخارجية صوفي من لعنتها الداخلية؛ تكتسب صوفي ثقة من مظهرها العجوز أكثر من مظهرها الشاب، فيتلاشى الحاجز الوهمي الذي وضعته بينها وبين الناس. فهي الآن مجرد عجوز، تقول وتفعل ما تشاء بدون قلق، حتى إن صوفي تبدي إعجابها بهذه الحرية التي منحتها إياها اللعنة، وتقول في أكثر من موضع إنه من الرائع أن يصير المرء عجوزًا.

لعنة صوفي منحتها الحرية ورسمت لها طريقًا لم تكن لتأخذه تحت أي ظروف أخرى، وخلصتها كذلك من صراعها مع ذاتها في المرآة لتكون صوفي هي صوفي فقط دون أي عوائق أخرى.

لم يقل الفيلم الكثير عن هاول، لكننا في الحقيقة نعرف كل شيء

يبدأ الفيلم ببناء ضخم يشبه الحشرة يتحرك في البراري، أجزاء البناء غير متناسقة وتبدو أنها ستتداعى في أي لحظة. وما أن ندخل القلعة مع صوفي، حتى نجد أنها كومة كبيرة من الفوضى والقاذورات، على عكس الشائع عنها أنها قصر الساحر المشهور هاول.
إن قلعة هاول هي الاستعارة الأجمل له، فهاول يعيش حقيقتين متضادتين، إحداهما أنه ساحر جميل قوي وسيئ السمعة، والأخرى هي هاول الحقيقي، الساحر الماهر الذي تكتشف صوفي في دقائقها الأولى في القلعة أنه هو نفسه تحت لعنة لا يستطيع فكها، مليء بالخوف لذلك يعيش في هروب متواصل، ويخفي نفسه تحت أطنان من الشائعات.

هاول مروَّع، بالكاد يتماسك، يحافظ على الحد الأدنى من رباطة الجأش، في ترحال دائم وهروب مستمر، يصعب عليه الاستقرار مثل قلعته تمامًا.

الحب في القلعة

تدخل صوفي القلعة ومن يومها الأول تسيطر على كاليسفر، عفريت النار المسؤول عن تحريك القلعة، ويثير هذا استغراب هاول، لأن كاليسفر لا يخضع لأي كان، لكن غزو صوفي اللطيف للقلعة لا يتوقف هنا، تجد صوفي لنفسها وظيفة يحتاجونها بشدة في القلعة، وتعين نفسها مدبرة للمنزل، وهاول أمامها لا يعارض الأمر أبدًا.

تبدأ صوفي في تنظيف القلعة وتجعل منها بيتًا حقيقيًا. وبدون وعي منها، تشكل عائلة صغيرة من غرباء قابلتهم على طول رحلتها، هاول الساحر الملعون، وماركل الفتى الصغير اليتيم الذي يتعلم السحر عند هاول، والفزاعة رأس الفجل المسحور الذي أرشدها إلى القلعة، وكلب مادام ساليمان عدوة هاول، وأخيرًا، عدوة صوفي الكبرى التي لعنتها، ساحرة البراري!

أعطت صوفي الحب هناك، وتلقته أيضًا. شعرت بالسلام لأول مرة في القلعة وسط هذه العائلة العشوائية، ونجد أن صوفي شيئًا فشيئًا تصبح أكثر ثقة في نفسها وتظهر صفاتها الحقيقية التي دفنتها تحت أطنان من كره الذات، وهذا يأخذنا للنقطة التالية:

لماذا يتغير شكل صوفي باستمرار؟

لا سبيل لفك لعنة صوفي إلا صوفي نفسها، فنجدها تنطلق نحو البرية عجوزًا طاعنة، إلا أن شكلها يصبح أكثر شبابًا مع تقدم الفيلم، وأحيانًا تعود إلى شكلها الطبيعي، ثم ترجع لتكون طاعنة في السن في الثانية التالية، لكن ما السر؟
الإجابة هي الحب. بدأت صوفي تشعر بذاتها في القلعة، ظهرت سماتها الأكثر جمالًا، تنتبه عائلتها الصغيرة وهاول لهذه الصفات، فهي على عكسه، فتاة شجاعة واجهت لعنتها، أما هو فدائم الهروب من كل شيء حتى لعنته التي تحوله إلى وحش، يرى أن صوفي شخص موثوق به تمامًا، فيوافق على استضافة كلب مادام ساليمان وساحرة البراري، فقط لأن صوفي سمحت لهم بالبقاء، حتى أن هاول الذي يحب الجمال لذاته، يندفع مرة ويخبر صوفي أنها جميلة.

لذلك نرى صوفي تعود لشكلها الأصلي وتزول اللعنة عنها تمامًا عندما تثق في نفسها وتعبر عن أفكارها ومشاعرها الحقيقية، وصادف أن يكون هذا التعبير هو شجاعة أهداها إليها الحب، الحب الذي منحته لها العائلة وهاول، وحبها لهاول ولهم الذي هزم اللعنة داخلها ليعبر عن نفسه ويخرج لينقذهم.

ماذا تفعل الحرب في فيلم يفترض أن يكون رومانسيًا؟

ما لا يعرفه الكثيرون أن هذا الفيلم الرقيق صنع خصيصًا للتنديد بالحرب، وخاصة غزو أمريكا للعراق. من المثير للاهتمام أن الفيلم مختلف عن الرواية التي أُخذ عنها، فالرواية أتت على ذكر الحرب مرة واحدة فقط، بينما الفيلم يعج بهول الحرب، ولا نكاد ننساها حتى تعود وتكون هي الحدث الرئيس، فمنذ الدقائق الأولى نجد أن الحرب ستشتعل بين دولتين بسبب اختفاء أحد الأمراء.

ونرى احتفالات عسكرية ضخمة استعدادًا للحرب، لكن صوفي تضيق بهذا الزحام، لذلك تسلك الشوارع الخلفية وهناك تقابل هاول لأول مرة ويطيران هربًا. هما الاثنان، يطيران فوق التجمهر، فوق الحرب، كأنهما مفصولان عن هذا العالم المجنون الذي يحتفل بحرب يموت فيها آلاف الأبرياء بسبب اختفاء أمير!

تستمر الحرب، وتستفحل، ويستدعي كلا الملكان هاول ليحارب في صفه، يرفض هاول الانخراط في هذه الحرب، وجل ما يفعله هو أن يدخل إلى ساحة القتال لا ليحارب باسم أي ملك، وإنما ليحمي الأبرياء، لكن إلى متى؟
فكلما زاد انخراط هاول في هذه الحرب، شيئًا فشيئًا يفقد القدرة على العودة إنسانًا بسبب لعنته.

يعود هاول ذات مرة منهكًا ويتحدث مع كاليسفر

كاليسفر: رائحتك نتنة. تفوح منك رائحة اللحم والحديد المحروق!
هاول: كم هي قاسية هذه الحرب! لقد كان بحرًا من اللهب من المحيط الجنوبي إلى الحدود الشمالية… لقد تعرضت للهجوم من أبناء جنسي (يقصد سحرة مثله).
كاليسفر: ساحرة لنفايات؟
هاول: كلا، بعض السحرة حولوا أنفسهم لوحوش لصالح الملك.
كاليسفر: عاجلًا أم آجلًا، سيبكون ندمًا على ما فعلوه، لن يستطيعوا أن يعودوا بشرًا أبدًا!
هاول: بل سيكونون بخير. لقد نسوا بالفعل كيف يندمون!

يحاول هاول أن يقدم لصوفي كل ما تحتاجه في حال اختفائه، فيصنع لها مخرجًا خاصًا في القلعة يؤدي إلى أراضٍ واسعة مزروعة ورودًا، مرة أخرى كأنهما ينفصلان عن العالم في حلم جميل، لكن طائرات الحرب المقيتة تقتحم حتى ذلك المكان الحالم. تسأل صوفي هل هذه طائراتنا أم طائرات العدو، يجيب هاول “وما الفرق الذي يشكله هذا… أيها القتلة! لا يمكننا أن نسمح لهم أن يتجولوا بكل هذه القنابل!” ثم يهجم هاول على الطائرات ويعطلها.

يستمر هول الحرب معنا حتى آخر لقطة في الفيلم، طائرات تدمر وتقصف كل شيء، جرحى، تحذيرات بالإخلاء، وتهجير للمواطنين، وتتقاطع الحرب مع أبطالنا، فيختار هاول أن يضحي بنفسه، ويتحول إلى وحش إن اقتضى الأمر، لأنه أخيرًا وجد شيئًا يريد حمايته بشدة، وهنا تبدأ حرب أخرى بطلتها صوفي التي تنفض عنها لعنتها الداخلية والخارجية، وتنطلق بخطى واثقة لإنقاذ وحماية عائلتها وحبيبها هاول.

يتحدث الجميع عن صوفي لكن لا أحد يتحدث عن هاول!

هاول هو البطل، لكنه لا يمتلك صفات الأبطال الاعتيادية، فنجده جبانًا جدًا، ودراماتيكيًا كبيرًا؛ يبكي مثل الأطفال ويستدعي قوى الظلام فقط لأن فتاة تركته أو حتى لأن صبغة شعره فسدت. يخاف جدًا من معلمته مدام ساليمان التي تستدعيه من حين لآخر، وترعبه ساحرة. يستعمل بطلنا الجميل الكثير من الأسماء المستعارة، ويجري في كل اتجاه في هروب دائم من كل شيء. وهاول هذا مثير للإحراج جدًابالمقاييس العادية ليكون بطلًا.

هل جعل منه هاياو بطلًا، أم أنه هو أصلًا بطل؟

لنتتبع هاول، في البداية ينقذ صوفي من بعض الجنود المزعجين، ثم ندخل بيته معها، ونرى ماركل، لكن من ماركل؟ ماركل ولد يتيم وجده هاول عندما كان رضيعًا وقرر أن يربيه.
ثم نجد أنه يهرب باستمرار ليس بسبب الخوف فقط، بل لأنه يريد أن يكون حرًا بالكامل، لا يخضع لأحد حتى لو كان الملك أو معلمته مدام ساليمان.
هاول هو الوحيد في الفيلم الذي يرى الحرب قبحًا خالصًا، يرفض بكل السبل أن ينخرط فيها ويكون أداة للقتل أيًا كان المقابل.
بل نكتشف في آخر الفيلم أن لعنة هاول، لم تكن لعنة وضعها أحدهم عليه، بل هو لعن نفسه لسبب غاية في الرقة.

كيف ولم لعن هاول نفسه؟

في طفولته، عاش هاول في بيت منفصل ليتدرب على السحر، وذات ليلة كانت العفاريت تتساقط من السماء، وحين تصل للأرض فإنها تموت، سقط عفريت في يد هاول، اسمه كاليسفر، لم يرد هاول للعفريت الصغير أن يموت، فأعطاه قلبه طواعية ليتمكن كاليسفر من النجاة، وهكذا أصبح هاول رجلًا ملعونًا بلا قلب حقيقة لا مجازًا.

لذلك، وربما من ألطف التفاصيل، أن كاليسفر سمح لصوفي بالدخول إلى القلعة، وكذلك خضع لها بسهولة بالغة، في الحقيقة لم يكن ذلك إلا قلب هاول داخل كاليسفر.

وفي النهاية، عندما تعرف صوفي ماهية لعنة هاول، تحاول فكها، فتمسك بقلب هاول بيديها وتصفه قائلة “إنه دافئ ويرتعش كطير صغير” فيرد عليها كاليسفر “بالطبع فهو قلب طفل” ثم تعيد صوفي القلب إلى مكانه في صدر هاول، ويتحرر كاليسفر أخيرًا ويطير إلى حيث ينتمي.
ويتسق هذا تمامًا مع تصرفات هاول الصبيانية، فقلبه ينتمي إلى طفل، يرى العالم إما أبيض أو أسود، لا يفهم الحرب، ولا يريدها، أما الكبار لديهم حسابات أخرى ودوافع أعمق وأكثر التواءً من قلب هاول الطفل.

أخيرًا: ماذا يعني أن تقع في الحب؟

وفقًا للفيلم، فالوقوع في الحب يعني أن نطير، لكن الفيلم لم يستخدم هذا المعنى مجازًا، بل جعله حقيقة، فهاول وصوفي في لقائهما الأول يخطوان على شبكة الحب ويطيران، وفي النهاية نجد أن الطيران لم يعد لحظات عابرة، بل أصبح حياتهما العادية، فبعد عودة هاول وانتهاء الحرب أعاد بناء قلعته، لا لتكون مثل حشرة تسير على الأرض، ولكن على شكل طائر يحلق بهما في السماء.