كيف يرى الصهاينة النكبة؟
تحتل “النكبة” الفلسطينية (نكبة الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية، في العام 1948) واحدة من كبرى الكوارث البشرية، أو النكبات عبر التاريخ، أن لم تكن الأكبر بالفعل، فليس الأمر مقصورًا على تهجير مئات الآلاف من الأهالي الفلسطينيين، أو أبناء الأرض الفلسطينية في العام 48، وتشريد مثلهم فحسب، ولكن لأن الحركة الصهيونية عمدت إلى محو الذاكرة التاريخية والأثرية والحضارية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية للشعب الفلسطيني.
كلمة “النكبة” وحدها تستدعي إلى الذاكرة الفلسطينية/العربية عملية التهجير القسري من فلسطين إلى دول العالم، خاصة دول الطوق العربي (الدول المحيطة بالكيان الصهيوني) لبنان وسوريا والأردن ومصر والعراق، ومحو الذاكرة الفلسطينية، وإحلال التهويد الصهيوني للبلاد بدلًا منها، في عملية هدم متعمدة ومخطط لها بشكل دقيق؛ فهي واحدة من عمليات التهجير الكاملة الأركان، ومأساة إنسانية بكل معاني الكلمة.
هذه المأساة تستدعي الكثير من الكُتاب والباحثين والصحفيين الفلسطينيين والعرب إلى القول بأن كلمة “النكبة” ليست كافية لوصف حجم المأساة والكارثة التي حلت بالشعب الفلسطيني، وإنما الوصف الأفضل والأكثر تعبيرًا ووصفًا لها هو كلمة “الانتكاب”، على اعتبار أن الكلمة الأخيرة تحمل معاني ومضامين أكبر وأكثر عمقًا من كلمة “النكبة”([1]).
لم تبدأ النكبة العربية/الفلسطينية من العام 1948 فحسب، وإنما سبقتها بقرون طويلة، حينما بدأ الغرب في القرون الوسطى الاهتمام بالفكر اليهودي، و”العهد القديم”، وترجمته إلى اللغات الأجنبية، خاصة الإنجليزية، وساعد الكثير من الإصلاحيين الغربيين في تأجيج هذه الفكرة لدى اليهود وغيرهم من أصحاب الفكر المسيحي الصهيوني، الذي أراد دعم اليهود بعودتهم إلى أرضهم المزعومة في فلسطين، ومن بين الدول الكبرى التي ساعدت بشكل واضح وكبير هذه الفكرة فرنسا، وإنجلترا!
النكبة في اللغة العبرية
على غرار مصطلح “الانتفاضة” في اللغة العربية، ومقابله في النطق، أيضًا، في اللغة العبرية، حفر مصطلح “النكبة” له مفردة واضحة المعالم في اللغات الأجنبية الأخرى، من بينها اللغة العبرية، بنفس الحروف العربية “אל-נכבה”، وهو بالمناسبة ليس دليلًا على فقر اللغات الأخرى، والعبرية، من المعنى المفهوم والكارثي لمصطلح “النكبة” فحسب، ولكن لأن مفهوم النكبة مؤشر واضح على وجود كوارث كانت وما تزال مستمرة تحدث للشعب الفلسطيني، طالما تواجد الكيان الصهيوني على الأراضي الفلسطينية!
النكبة في اللغة العبرية، تعني “كارثة” أو “האסון”، وهي الكلمة التي يرددها عرب 48، والفلسطينيون في الدول العربية المجاورة، والذين هُجروا، أو نزحوا جبرًا وقسرًا جراء الاحتلال الصهيوني لأراضيهم الفلسطينية، في العام 1948، أو أثناء حرب “الاستقلال” ـ بحسب الوصف الإسرائيلي للكلمة([2])، أي أن كلمة “الاستقلال” تعني في العبرية حرب 48، وهو المفهوم الذي يعني استقلال إسرائيل من الدول العربية والإسلامية بعد قرون من العبودية واحتلال فلسطين، بدعوى أنها الأرض الموعودة لأبناء الرب، وهو المفهوم الراسخ لدى الفكر الصهيوني!
يشير المصطلح العبري “אל-נכבה”، أو “האסון” إلى: “عمليات التهجير للشعب الفلسطيني خلال حرب الاستقلال، وتدمير القرى العربية وهروب المواطنين والسكان العرب من بيوتهم، ونجاح (إسرائيل) في الحرب، وتم تحديد يوم الخامس عشر من مايو من كل عام ـ وهو بالمناسبة يوم انتهاء الانتداب البريطاني عن أرض إسرائيل ـ ذكرى سنوية للنكبة.
ومنذ حرب الاستقلال، تحولت النكبة من ذكرى مؤثرة إلى ذكرى سلبية للشعب الفلسطيني كحادثة أو واقعة تهجير للفلسطينيين من أرضهم، وتمكين مئات الآلاف من اليهود في دولتهم/مدينتهم الجديدة، وهو ما تم الاعتراف به من دول عربية أخرى لإسرائيل. وتحول المصطلح (النكبة) عبر السنين إلى رمز للاجئين ضد إسرائيل” ([3]).
يتبين من الرؤية الصهيونية السابقة للنكبة أن المفهوم الفلسطيني يتقزم بمرور الوقت، وبات مقصورًا على الفلسطينيين فحسب، رغم كونها القضية الأساسية والمركزية للعَالَمَيْن العربي والإسلامي، وبعد توقيع اتفاق أوسلو، في العام 1993، بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني، ارتبط المفهوم أو المصطلح باللاجئين الفلسطينيين فحسب وتقزم، وبات مقصورًا عليهم دون غيرهم، خاصة وأن قضية اللاجئين أو ملف اللاجئين أحد الملفات الرئيسة على طاولة أية مفاوضات مع الكيان الصهيوني، ورغم ذلك، فإن الاهتمام العربي والإسلامي بالمصطلح تقلص، حتى صار للاجئين الفلسطينيين فقط، واللاجئون الفلسطينيون وحدهم يقودون جهودًا سياسية ودبلوماسية لمواجهة التجمع الصهيوني.
النكبة في الرواية العبرية
“ثمة تعارض كبير بين الجانب الإسرائيلي والجانب العربي حيال مفهوم ومصطلح “النكبة”، فالطرف الإسرائيلي يرى أنها حرب استقلال، أو حرب التحرير، في حين يراها العرب (نكبة أو كارثة)، ومع ردود أفعال البلاد، ونتيجة لتأثير كارثة الهولوكوست، قررت الأمم المتحدة تقسيم البلاد إلى دولة يهودية وأخرى عربية، ومدينة القدس وما حولها من قرى تقبع تحت حماية دولية، لليهود 55 % من مساحة الأرض لإسرائيل.
وقبلت معظم الحركات الصهيونية عملية التقسيم الدولية، كأساس أممي ودولي لإقامة دولة إسرائيل، ولم تكن في نية المؤسس الأول للدولة، ديفيد بن جوريون، توسيع هذه المساحة من الأرض، في حين بقيت حدود الدولة بدون تحديد حتى الآن! ولم يقبل العالم العربي عملية التقسيم، ورأى أن هناك مؤامرة دولية من عالم الاستعمار الغربي، لتقسيم أرض فلسطين، باعتبار أن فلسطين كانت خاضعة للانتداب البريطاني، وقام العرب بالحرب على اليهود في حرب إثنية أو عرقية، بهدف إفناء الجنس اليهودي من البلاد” ([4]).
” في حرب 48 استمرت المواجهات والمناوشات الصهيونية ـ العربية، يحاول كل جانب تحقيق أهدافه بإقامة دولة قومية كبيرة على حساب الطرف الآخر، ورغبة الطرف العربي في تدمير المستوطنات التي أقامها اليهودي في البلاد، وكان من نتيجة تلك المواجهات احتلال مساحة لا بأس بها من البلاد، وقدرت بـ 78% من الأراضي في البلاد (إسرائيل)، في حين ظلت البقية الباقية بيد العرب.
تعداد الفلسطينيين أثناء الحرب كان 750 ألف فلسطيني، أغلبهم هرب من المواجهات مع إسرائيل، جزء منهم هرب نتيجة لمجزرة دير ياسين، كأحد سياسات التطهير العرقي للفلسطينيين في البلاد، وظن الفلسطينيون أنهم سيعودون إلى ديارهم بعد فترة من الزمن، وتم تدمير 450 قرية فلسطينية، وأقام بدلًا منهم أو أحلَّ بدلًا منهم مستعمرين جدد، ومن ترك منزله سليمًا استوطنه إسرائيليون جدد “([5]).
جاءت الرواية السابقة، وهي رواية لموقع “جوش شالوم”، أو “كتلة السلام” في الكيان الصهيوني، كإحدى الروايات الصهيونية للنكبة العربية/الفلسطينية، وهي تشير بوجه عام إلى دعوى أحقية الصهاينة في أرض فلسطين، وأن العرب أغاروا على الصهاينة بهدف احتلال الأرض، وكأن الأرض لم تكن فلسطينية! كما أن الرواية السابقة تشير إلى أن الهولوكوست كانت سببًا رئيسيًا فيما قامت به العصابات الصهيونية من مذابح بحق الفلسطينيين، وهو ما يحتاج إلى وقفة وتصحيح للأخطاء؛ لأن مذبحة الهولوكوست هي رواية صهيونية لاستدرار عطف المجتمع الدولي، والتمكين من ضرورة وجود أرض بلا شعب، وتعويضًا عما جرى لليهود في تلك المذبحة.
وفي رواية صهيونية أخرى، كتبتها الوكيبيديا العبرية: ” أن النكبة تعني كارثة لتهجير ما يزيد عن 700 ألف فلسطيني أو عرب إسرائيل ـ لاحظ الفرق بين المعنيين في المفهوم الصهيوني ـ خلال حرب الاستقلال، ونتج عن هذه الكارثة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، كإحدى القضايا الرئيسة للشعب الفلسطيني في المرحلة الراهنة، والتي تعد (حق العودة للاجئين) قضية مركزية للشعب الفلسطيني. ومنذ سنوات التسعينيات من القرن الماضي، قرر الفلسطينيون الاحتفال بذكرى النكبة في الخامس عشر من مايو من كل عام، وهي يوم انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وتاريخ الاعتراف بوجود دولة إسرائيل، رغم أن الموعد الحقيقي لإقامة الدولة هو الرابع عشر من مايو وليس الخامس عشر، وهو يوم الاستقلال”([6]).
“رفض مفتي القدس، الحاج أمين الحسيني قرار عصبة الأمم، في نوفمبر 1947، بتقسيم البلاد إلى دولة يهودية وأخرى عربية، وقام وغيره من العرب والفلسطينيين بالإغارة على اليهود والمستوطنين في إسرائيل، وهو ما أسفر عن مواجهة عسكرية، تُوجت بحرب الاستقلال، هرب معها آلاف الفلسطينيين ـ عرب بلاد إسرائيل ـ من أماكن إقامتهم، في القرى والنجوع والكفور، أغلبهم إلى الدول العربية، وأقلية بقيت في البلاد. ومعظم المهاجرين أثناء حرب الاستقلال بقوا كلاجئين في مخيمات اللاجئين فحسب، ولم يحصلوا على الجنسية في البلاد التي سكنوا فيها”([7]).
“أشير إلى يوم النكبة، بشكل رسمي، في العام 1998، في الذكري الخمسين لإقامة دولة إسرائيل، حيث جرت إقامة للذكرى الخمسين، وخرجت كتابات ومقالات وتقارير كثيرة في الصحف الفلسطينية والعربية ناقشت بالنقد والتحليل النكبة وذكراها، ومدى تأثيرها على الهُوية الفلسطينية. ومنذ هذا التاريخ بات يوم الرابع عشر من مايو من كل عام ذكرى للنكبة الفلسطينية، ويوم استقلالنا هو يوم نكبتهم “([8]).
ثمة تأكيد واضح على أن مفهوم ومصطلح النكبة لم يُبلور إلا مع العقد الثمانيني أو التسعيني من القرن الماضي، وأن المفهوم تقلص إلى اللاجئين فحسب، أي أن اتفاق أوسلو، 1993، كان سببًا واضحًا في تأصيل المفهوم وتقزيمه للقضية الفلسطينية أو المشكلة الفلسطينية ككل في حق العودة للاجئين فحسب!
بدايات النكبة
أعادت بعض الكتابات العربية والأجنبية بدايات المصلح “النكبة” إلى أغسطس 1948، حينما أشار إليه المفكر القومي والعالم السوري المعروف، قسطنطين زريق (1919- 2000)، في مؤلفه “معنى النكبة”، فهو أول من وصف تطورات حرب العام 1948، بالنكبة، وذكر ما جرى في الأراضي الفلسطينية المحتلة من جرائم إنسانية ووحشية وقسوة ضد الشعب الفلسطيني، وما جرى له من عمليات تهجير ممنهجة ومنظمة، فقد كانت تلك الحرب على الفلسطينيين “نكبة” منذ اللحظة الأولى، من ناحية نتائجها الكارثية على مشروع القومية والوحدة العربية، وحركات التحرر والتخلص من الاستعمار البريطاني أو الغربي، بوجه عام، بدعوى أن فلسطين جزء من العالمين، العربي والإسلامي([9]).
في الوقت الذي اختار الفلسطينيون يوم الخامس عشر من مايو من كل عام للاحتفال بذكرى النكبة، وتذكير المجتمع الدولي بنكبتهم، وتشريدهم وتهجيرهم قسرًا وجبرًا، في العام 1948، فإن البعض يرى أن بدايات النكبة الفلسطينية بدأت مع مطلع الانتداب البريطاني لفلسطين، في العام 1917، وربما قبلها بقليل، حينما قررت الخارجية البريطانية إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، في الثاني من نوفمبر من العام نفسه، فيما عرف بـ “وعد بلفور” (وزير خارجية بريطانيا، آنذاك، آرثر جيمس بلفور)، ووضعت بريطانيا المحتلة هذا الوعد موضع التنفيذ منذ اللحظة التي دخل فيها قائد القوات البريطانية، الجنرال اللنبي، مدينة القدس، واحتلها، في ديسمبر 1917، منهيًا بذلك تبعية فلسطين للدولة العثمانية المهزومة، في الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918)، وفاتحًا الطريق أمام الحركة الصهيونية، الممثلة آنذاك في “الوكالة اليهودية”، التي تضم المنظمات والأحزاب والصهيونية.
بيد أن البعض، يُرجعون بداية النكبة إلى أبعد من ذلك بكثير، وأن “نكبة” فلسطين لم تحدث عام 1948، وإنما بدأت قبل ذلك بسنوات طويلة، وبالتحديد عام 1799، عندما خطرت للقائد الفرنسي، نابليون بونابرت (1769- 1821)، ضمن خطته الاستعمارية، فكرة إقامة كيان يهودي في فلسطين، ثم رغبة بريطانية في ذلك، عام 1840، وما تلا ذلك من الانتداب البريطاني على فلسطين، مرورًا بالطبع بالمخططات الصهيونية للتطهير العرقي. فكل ذلك كان بمثابة فتح أبواب فلسطين أمام نشاط الوكالة الصهيونية المحموم للاستيلاء على الأرض الفلسطينية بكل الوسائل، وتنظيم هجرة اليهود الجماعية إلى فلسطين من مختلف أنحاء العالم، ومحاولة شراء أراض في فلسطين، وإعداد قوة مسلحة مدربة جيدًا، وبناء مستعمرات مدنية – عسكرية في فلسطين([10]).
ومع ذلك، فإن البعض الآخر يرى أن ترجمة الكتاب المقدس، في القرن الخامس عشر الميلادي، وتحديدًا، في العام 1538، حينما أمر الملك هنري الثامن بتجميع الكتاب المقدس في كتاب واحد باللغة الإنجليزية ليكون أكبر كتاب عرفته اللغة الإنجليزية، ومن وقتها بات الكتاب المقدس مرجعًا للكنيسة الإنجليزية المستقلة، وأصبح التاريخ، والتقاليد والعادات اليهودية المكتوبة باللغة العبرية، جزءًا من الثقافة الإنجليزية، وأصبحت اليهودية، على مدى ثلاثة قرون، العامل القوي الوحيد المؤثر في الثقافة الإنجليزية.
وكان القرن الخامس عشر الميلادي بمثابة بداية لتوجيه الأنظار ناحية اليهود، والكتاب المقدس، واللغة العبرية، وهو القرن الذي أظهر تحولات عميقة في النفس المسيحية الغربية، على الأقل، مع بزوغ ما عرف بحركة الإصلاح، وما استتبعه ذلك من انشقاق، سياسي وعقائدي، داخل الديانة المسيحية، بشكل عام، والكاثوليكية الغربية، بشكل خاص، حيث كان من نتائج هذه الإصلاحات المسيحية الجديدة، التي عرفت باسم “البروتستانتية” ربيبة اليهودية، فقد أصبحت للتوراة أو “العهد القديم”، أهمية أكبر في نظر البروتستانت، من الإنجيل أو العهد الجديد، وبدأت صورة “الأمة اليهودية”، تتغير تبعًا لذلك، في أذهان المسيحيين الجدد([11]).
ظهر هذا التحول في النظرة المسيحية إلى اليهود، في كتابات رائد الإصلاح البروتستانتي الشهير، القس الفيلسوف مارتن لوثر، حينما كتب في العام 1523 كتابًا عنوانه “المسيح وُلد يهوديًا”، الذي أعيد طبعه سبع مرات في العام نفسه، وشرح فيه لوثر المواقف المؤيدة لليهودية، وحلت كلمة “الرب” كما هي واردة في الكتاب العبري “العهد القديم” محل الأوامر البابوية، وحلَّ “الكتاب المقدس” محل البابا، كسلطة روحية عليا([12])!
فقد زودت حركة الإصلاح الديني “البروتستانتية” اليهود بفرصة تاريخية نادرة وفريدة، حصلوا بنتيجتها على الاحترام، والدعم الهائل، وغير المشروط من المسيحية الغربية، بسبب إيمان الأصوليين بالدور الكبير المفترض أن يلعبه اليهود في سيناريو “المجيء الثاني”. فاليهود حصلوا على فلسطين باعتبارها “الأرض الموعودة”، والمسيحيون الأصوليون ضمنوا بذلك تحقيق عودة المسيح الوشيكة. وهكذا اتحد الديني بالسياسي، واللاهوتي بالتاريخي، فخلق علاقة مميزة بين البروتستانتية واليهودية، بشكل عام، وبين الأصولية البروتستانتية، والصهيونية اليهودية. ولقد آمنت الصهيونية المسيحية قبل تأسيس الكيان الصهيوني، بعودة اليهود، كشعب إلى الأرض الموعودة في فلسطين، وإقامة وطنه وكيانه القومي فيها ([13]).
كانت فرنسا أول من طرح، بشكل جدي، فكرة توطين اليهود في فلسطين، فقد أعدت حكومة الإدارة الفرنسية في العام 1798، خطة سرية لإقامة كومنولث يهودي فلسطين، حال نجاح الحملة الفرنسية في احتلال مصر والمشرق العربي، بما فيه فلسطين بالطبع.
وذلك مقابل تقديم الممولين اليهود قروضًا مالية للحكومة الفرنسية، التي مرت، آنذاك، بضائقة اقتصادية خانقة، مع المساهمة في تمويل الحملة الفرنسية العسكرية على بلاد المشرق العربي، بقيادة نابليون بونابرت، على أن يتعهد اليهود ببث الفوضى، وإشعال الفتن، وإحلال الأزمات في المناطق التي سيرتادها الجيش الفرنسي لتسهيل أمر احتلالها([14]). الأمر نفسه انطبق على انجلترا، بصورة أو بأخرى، كما قامت به فرنسا من قبل، وصار السباق إلى نيل رضا اليهود أحد أسباب ترسيخ فكرة تمكين اليهود من فلسطين، واستيطانهم فيها، بدعوى أنها أوامر إلهية!
هذا الكيان أو الوطن الصهيوني المزعوم قام على الفكرة أو المقولة الصهيونية التاريخية للكاتب البريطاني الصهيوني، يسرائيل زانغويل، “شعب بلا أرض لأرض بلا شعب”، حيث قامت الدعاية الصهيونية في تبرير السيطرة على فلسطين على فكرة أن الأرض خالية من السكان، بمعنى أن الأساس كان في إنكار حق الشعب الفلسطيني في الوجود.
أما ثاني المزاعم الصهيونية، فيتلخص في أن دولة “إسرائيل”، حسب زعم الصهيونية، كانت موجودة على أرض فلسطين قبل ألفين وسبعين سنة. أما ثالث المزاعم الصهيونية فتقوم على فكرة أن الفلسطينيين قاموا ببيع أراضيهم وغادروها طواعية، وهي حجج يستخدمها كثير من الصهاينة لتبرير إقامة الدولة، متجاهلين المذابح والتهجير بحق الفلسطينيين، أما في جزئية بيع الأراضي، فتنفيها حقيقة أن أملاك اليهود في فلسطين التاريخية لم تتجاوزر5% حتى لحظة إقامة دولتهم.
النكبة في التعليم الصهيوني
“في أعقاب خروج مفهوم أو مصطلح النكبة العربي للعوام، ظهرت أصوات إسرائيلية داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه تتساءل عن جدوى المصطلح وتأثيره بالسلب أو الإيجاب على مستقبل إسرائيل. وفي يوليو من العام 2007، أشارت وزارة التربية والتعليم للمدارس العربية باستخدام مفهوم النكبة، والذي كان محظورا استخدامه من قبل، كجزء من عملية التغيير في سياسات وزارة التعليم تجاه المدارس العربية ودعم حقها في استخدام المفهوم أو المصطلح كما يتراءى لها. بيد أنه في العام 2009، أعادت وزارة التعليم حظر استخدام المصطلح مجددًا، في المدارس العربية أو بين الوسط العربي عمومًا، وصدَّق وزير التعليم، جدعون ساعر على القرار، ورأى أن إقامة دولة إسرائيل ليست كارثة أو نكبة”([15])!
” رأت منظمات اليسار أنه من حق العرب تدريس ذكرى نكبتهم، منها منظمة “زخروت” ـ يتذكرن بالعبرية ـ في حين رأت تيارات أخرى يمينية أن العرب هم الذين جلبوا إلى أنفسهم النكبة، أو الكارثة، برفضهم قرار التقسيم، رقم 181 في العام 1947، وإقامة دولة يهودية إلى جوار دولة عربية، رغم قبول اليهود ذلك الأمر آنذاك، ورأت تيارات أخرى أن الهدف من وراء حملة التأكيد على مصطلح “النكبة” بين عرب إسرائيل هو الحفاظ على الهوية الفلسطينية، مع مطلع القرن الواحد والعشرين، وأن الدول العربية في حرب الاستقلال أرادت تدمير إسرائيل، وإفناء اليهود عن بكرة أبيهم”([16]).
وبالتالي، مما سبق ذكره، يتبين أن الرواية الصهيونية لحرب “الاستقلال” أو حرب 48 هي رؤية عامة وراسخة تؤكد أن الصهاينة يتذرعون بأن العرب هم الذين هاجموا اليهود، وحاولوا القضاء عليهم، وأن الرب راعيهم، بدعوى أنها الأرض الموعودة، وأنه إذا كان هناك جدل صهيوني حول النكبة العربية/الفلسطينية، فهو لن يعيد الحقوق الفلسطينية إلى أصحابها الحقيقيين!
ومن هنا، فإنه ثمة جدل كبير وواسع يجتاح الكيان الصهيوني من فكرة تدريس “النكبة” الفلسطينية، أو الانتكاب، إذا جاز التعبير، في المدارس الإسرائيلية، وأخريات ما كتبه وزير التعليم السابق، جدعون ساعر أنه “لا يمكن للدولة أن تعطي الشرعية في تدريس النكبة”، في وقت أوجب وزير التعليم السابق، شاي بيرون، ضرورة تدريس النكبة الفلسطينية/العربية جنبًا إلى جنب مع النكبة الصهيونية/اليهودية، ويقصد بها الهولوكوست([17]).
خاتمة
سيظل الرابع عشر من مايو من كل عام ذكرى للنكبة الفلسطينية، أو الانتكاب العربي بوجه عام، للتذكير بالقضية الفلسطينية التي غابت عن أعيينا بعد حالة من الضعف والوهن العربيين خلال المرحلة الفائتة، وستبقى النكبة رمزًا للطرد والتهجير الطوعي والقسري لمئات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني، للتأكيد على وجوب إحياء الشعب الفلسطيني، وبقاء النكبة رمزًا للصمود والبقاء.
الهوامش
[1] – عدلي صادق، نقد تسمية النكبة، العربي الجديد، 17/5/2014.
[2] – النكبة، موسوعة صحيفة يديعوت أحرونوت، 12/5/2015.
[3] – المرجع نفسه.
[4] –حرب استقلال أم نكبة، جوش شالوم، 25/7/2007.
[5] – المرجع نفسه.
[6] –النكبة، الوكيبيديا العبرية، 14/5/2015.
[7] – المرجع نفسه.
[8] – المرجع نفسه.
[10] – المرجع نفسه.
[11] – أحمد الدبش، يهودية الدولة.. الحنين إلى الأساطير، دار عشتار للنشر والتوزيع، القاهرة، 2015، ص19.
[12] – المرجع نفسه، ص21.
[13]- المرجع نفسه، ص26.
[14] – المرجع نفسه، ص30.
[15]نعاما تلمور ونير يهاف، ساعر قرر عدم تدريس النكبة للعرب، واللا نيوز، 22/7/2009.
[16] –شلومو أفنيري: هي مسؤولية الفلسطينيين وحدهم، هاآرتس، 11/5/2011.
[17] –جدعون ساعر على تأييد بيرون تدريس “النكبة” سوء فهم، واللا، 29/3/2015.