كيف تحولت سينما المحقق من محاكمة الجريمة إلى محاكمة الوجود؟
الحياد في مواجهة هاوية
يصعب أن نتخيل صورة المُحقق الأدبية أو السينمائية دون أن يحضر معها في مُخيلتنا «شيرلوك هولمز»، الذي عبره صنع «آرثر كونان دويل» الإطار الحاكم لصورة المحقق وقصص الجريمة حتى وقتنا الحالي.
يقول «دويل» في قصته الأولى «دراسة في اللون القُرمزي» على لسان «شيرلوك» إن الشرور خيط قرمزي يمر بخفة عبر نسيج الحياة، لذا نحتاج لرجل حُر من انفعالاته، هادئ، دقيق، ليجد هذا الخيط وينتزعه لتستعيد الحياة سلامها.
على نقيض صورة المُحقق الباردة التي صاغها دويل يُحذرنا «نيتشة» من أن ذلك الحياد العقلي في مواجهة الشرور مُستحيل، قائلًا:
تبعًا لنيتشة العالم ليس صراعًا أبيض وأسود بين مُحقق ومُجرم إنما صراع يوجد بالكامل وراء الخير والشر، ويدور حول القوة، على المرء امتلاك قوة أكبر من خصمه ليهزمه، لذلك لا مفر أمام مُحقق صُممت مهنته لمطاردة الوحوش إلا أن يكون وحشًا ليهزمها.
تبعًا لنيتشة العالم ليس صراعًا أبيض وأسود بين مُحقق ومُجرم إنما صراع يوجد بالكامل وراء الخير والشر، ويدور حول القوة، على المرء امتلاك قوة أكبر من خصمه ليهزمه، لذلك لا مفر أمام مُحقق صُممت مهنته لمطاردة الوحوش إلا أن يكون وحشًا ليهزمها.
جسد «آرثر كونان دويل» في حياته الخاصة النقيض لبطله الخيالي، كانت تُحركه مشاعره وتدفعه للإيمان بالروحانيات والساحرات والأشباح، إيمانات كان ليحتقرها بطله «شيرلوك»، بينما لم يمتلك «نيتشة» القوة الكافية لمواجهة أشباحه كما دعا في كتاباته، تروي بعض الأدبيات أن «نيتشة» فقد عقله عندما مر ذات يوم بميدان «تورينو» ليجد حوذي شريرًا يجلد حُصانه بقسوة، يومها احتضن الحيوان بحنان مُرهف، وخبا في عينيه بريق العبقرية للأبد.
تُمثل شخصية المُحقق، الحالة السينمائية والدرامية المثالية لتفحص سؤال الشر، هل يُمكن أن تجعلنا مواجهة الشر وحوشًا؟ هل الضعف الإنساني والإيمان هما العبء الذي حرر «دويل» شخصيته الخيالية منه ليصنع مُحققًا مثاليًا؟ هل نمتلك الرهافة الكافية لنهزم الشر دون أن نخسر أرواحنا أو يُمكن للشر أن يُحطمنا كما تحطم «نيتشة» ذات يوم في ميدان مُزدحم؟
يحاول المقال تتبع هذه الأسئلة عبر شخصيات مُحققين أقل مثالية وأكثر إنسانية من شيرلوك، شخصيات وجدت المعنى في مهنتها، ووجدت فيها ظلالها وظلامها كذلك.
الانفصال، أن تجعلك العدمية مُحققًا بارعًا
يُقول «نيك بيزولاتو» كاتب مُسلسل True Detective، إنه أراد كتابة حكاية عن فلسفة التشاؤم في مواجهة الشر، لكنه أيقن أنه لن يجد استوديو يقبل إنتاج عمل مثل ذاك، لذلك أضاف جريمة ومُحققًا، باعتبارها الجونرة المثالية ليُناقش عبرها أي كاتب مُعضلة الشر.
يظهر المُحقق «راست كول» كرجل في حالة انفصال كامل عن العالم، بعد فقده لطفلته في حادث سيارة عبثي، آمن «راست» بعالم مات فيه الإله أو ربما لم يوجد من الأساس، إنما خلقته كائنات بدائية طرأ خطأ على برمجتها التطورية أكسبها الوعي بالذات، يؤمن «راست» أن العالم بلا معنى وأن العذاب الإنساني لا ينبع من تلك الحقيقة وبحسب، إنما من كوننا نمتلك وعيًا يُدركها ويحياها كل لحظة، لذلك خلق البشر فكرة الألوهية للخروج من مأزق عبث العالم، بالتوجه نحو إله يمنحه النظام.
تبعًا لراست نحن لا نتميز بشيء عن الحيوانات، تُكرر الحيوانات حكاية واحدة من الميلاد والموت، ونحن نُكرر نفس الحكاية، نٌثقلها فقط بمحاولات عبثية لخلق معنى لذلك. يقول «نيتشة» لفرط تكرار الأمر أننا نحيا عودًا أبديًا، لذا على كل إنسان أن يسأل نفسه، لو تكررت حياته ألف مرة هل سيرغب في عيشها؟ لو كانت حياة جيدة سيحيا الجمال ألف مرة ولو كانت حياة سيئة سيحيا الجحيم مضاعفًا. يُدرك «راست» بعد أن فقد طفلته أنه ينتمي للنوع الثاني، سيحيا جحيمه ألف مرة.
يقول «راست» إنه يحيا هذا التكرار بمزيج من الألم والملل، لا يملك الشجاعة لقتل نفسه، لذلك يحاول أن يبقى كشاهد ملول على مسرحية يعلم نهايتها كل مرة.
يُشبه «راست» المُحقق سومرست في تحفة فينشر Se7en، يحيا «راست» مسرحية مُملة، بينما «سومرست» يبدأ حكايته وهو على وشك إنهاء مسرحيته بالتقاعُد، كان «سومرست» أكثر ذكاء من «راست» في إدراكه مُبكرًا الشر والعبث الذي يكسو مدينة لا يكتفي فيها المُجرم بسرقة رجل بريء، إنما يعمد لقتله وتشويهه بلا سبب.
عندما أخبرته حبيبته برغبتها في الإنجاب، رفض «سومرست» إنجاب طفل لذلك العالم الوحشي، الذي لا يملك وصفة مثالية لفهمه أو النجاة منه. في ما بعد سيقول «راست» إن الرحمة الوحيدة في موت ابنته هو إعفاؤها من عبء الوجود والعيش في عالم بمثل تلك الوحشية.
يقول «راست» إنه لا ينام إنما يحلم، في إشارة للوجود كحالة مُمتدة لا ينفصل المرء عن عبء إدراكها ولو بالنوم، بينما يمتلك «سومرست» رمزًا للفكرة ذاتها في أداة «الميترونوم» التي تُساعده على النوم، أداة تخلق إيقاعًا رتيبًا، يٌشبه دقات القلب، أو نبضات المعصم، رتابة الوجود كما يراها سومرست، كنبض بشري يُمكن أن يتوقف لشر عرضي لا يُمكن فهمه مثل رجل يقتلك بلا سبب أو سيارة يقودها سكير تصرع طفلة عمرها عامان.
هذا الانفصال الشعوري عن العالم، تستحضره الشخصيتان كحيلة للالتفاف حول الألم، كفاصل بارد بينهما وبين المشاعر والإيمانات وتشويشها، هذا تحديدًا ما يجعلهما مُحققين جيدين، مثل شيرلوك هولمز. لأن الانفصال يُجدي مع الشر الذي يقابلهما يوميًا، ولكن تحمل تلك الرؤية تناقضًا لا شفاء منه!
في «Se7en» يسأل المحقق الشاب «ميلز» سومرست العجوز، كيف يرى عالمًا عبثيًا الشر كسوته، واللامعنى نسيجه ثم يحمل سلاحًا كل يوم كقوة للخير ولاستعادة التوازن؟ لماذا يحمل شارة شرطي يُريد استعادة النظام في عالم يؤمن أنه لن يبرأ من فوضاه؟
يُدرك «نيك بيزولاتو» هذا التناقض في شخصية بطله «راست» فيقول إن بطله بمقاييس الفلسفة هو أفشل عدمي يُمكن مُقابلته لأن راست رغم فلسفته العدمية يهتم بشدة، يحاول اصطياد المجرمين ضمن مؤسسة شرطية كسولة ومجتمعات دينية منغلقة تخاف سمعتها أضعاف ما تخاف وجود مغتصب بين أفراد رعيتها.
يصف «راست» نفسه رغم كفاحه الشُرطي أنه ليس رجلًا فاضلًا أو أخلاقيًا، بل رجلًا سيئًا، والعالم يحتاج السيئين ليقبضوا على الأسوأ، في استحضار فني لقيمة القوة لدى «نيتشة»، في غياب الألوهية والمرجعية، الأمر برمته حلبة فيها قوي وأقوى، لذلك يُعرف راست نفسه بنيتشوية أنه رجل سيئ يوظف قوته وشره للإمساك برجال أكثر سوءًا منه.
يجسد «راست» المعنى الخفي وراء غضب «نيتشة» وخيبة أمله، أن العدمية ليست احتفاء بغياب المعنى والألوهية، إنما احتجاج على غيابها. بداخل «راست» حنين لابنته، ومُساءلة بلا صوت للشر الذي اختطفها منه وعجل بموتها.
ربما لثقل الحقيقة الفلسفية التي يعتنقها وتناقضها مع المسلك النبيل الذي اختاره راست رغم ذلك للعيش، يحتفظ في غرفته بصليب مسيحي رغم أنه لا يؤمن، ربما للتشابه الجمالي بينه وبين المسيح، رجل يحمل حقيقة قاسية على عاتقه، ويوقن أنه سوف يُضحي بنفسه لأجل مسرحية مُحاكمة عبثية، لكنه يختار أن يكون نبيلًا رغم ذلك.
وهو ما تقوله إحدى شخصيات المُسلسل:
بينما «سومرست» لا يُجيد تفسير تناقضه لشريكه «ميلز» الذي يرى فيه انعكاسًا لسذاجته القديمة، شرطي شاب مُتحمس، لم ير الشر بعد، لا يتوانى «سومرست» عن رعاية شريكه بأبوية مُشفقة، إشفاقه على الطفل الذي لم يُنجبه للعالم.
يتصاعد هذا التناقض لذروته بين الانفصال الشعوري العدمي الذي يجعل منه مُحققًا جيدًا والاهتمام الذي يُفسد عدميته بالأمل، حتى يُحطم «سومرست» ذات ليلة الميترونوم الرتيب، لم يعد الوجود رتيبًا، بل صار محفوفًا بالأمل وخطر فقده.
الوصال والمُشابهة
عندما أراد «دويل» خلق ند يليق بالقصة الأخيرة لبطله شيرلوك، خلق «موريارتي»، شرير يشبه بطله، بينما ينفذ «شيرلوك» عبر استنتاجاته الباردة لوجدان الأشرار ليكشفهم، يجد ذاته في حضرة شرير يشبهه، وتثير تلك المُشابهة روعه، خلق «دويل» شيرلوك بحصانة من المشاعر التي تشوش محقق مهنته التعامل يوميًا مع الشر، لذا كان الند المثالي أن يواجه رجلًا يشبهه، رجلًا يحمل مرآة يرى فيها «شيرلوك» انعكاسًا لذاته. ليجد «دويل» نفسه في النهاية أمام تحذير «نيتشة» الذي أفلت منه سابقًا. مهما امتلكت سيطرة عقلية على مشاعرك، قد تواجه في النهاية وحشًا مُختلفًا…قد تواجه نفسك.
أفضل مُقابلة سينمائية لاستعارة نيتشة لمواجهة المرء لوحوشه، نجدها في مقابلة المُحققة «كلاريس» لآكل لحوم البشر «هانيبال» في فيلم «صمت الحملان».
ببراعة يتجاوز «هانيبال» حصون الانفصال الشعوري التي بنتها «كلاريس» حول نفسها، ليُعريها أمام ذاتها كفتاة مذعورة في عالم مهني يُسيطر عليه الرجال، في طريقها لهانيبال سيتودد لها أحد رجال إنفاذ القانون بشهوانية مقززة، بينما عندما تهبط لمُجمع الزنازين لمقابلته سيقذفها سجين بمنيه، يربط شريط السينما بذكاء، بين تودد رجل أنيق في مكتب مُكيف، وهجوم حيواني لسجين وضيع في زنزانة عفنة، كلاهما هجوم على أنثى في مساحة ذكورية لا قبول لحضورها فيها.
ورثت «كلاريس» مهنتها عن أبيها الشرطي الذي قُتل يومًا، لتنتقل ابنته لمزرعة عمها، استيقظت «كلاريس» ذات يوم على بكاء حملان مُساقة للذبح في المزرعة، حاولت إنقاذها بفتح أبواب الحظيرة، لكن لم يؤلمها شيء قدر استسلام الحملان، وعدم إدراكها للنصل اللامع الذي ينتظرها، أنقذت حملًا واحدًا بين ذراعيها وفرت ومن يومها لم تعد أبدًا.
يُخبر«هانيبال» المُحققة أنها تُشبهه، أنها لا تحل الجرائم كقوة خيرية في مواجهة الشرور، إنما استسلامًا لهوسها بالإنقاذ، عندما تُنقذ ضحية يتوقف صراخ الحملان في رأسها، تُدرك أنها خرجت من المزرعة ولم تعد الطفلة الصغيرة التي أصابها الشلل عندما قدم لها العالم شره لأول مرة. مثلما يمتلك «هانيبال» هوسًا بالألوهية يتمظهر بصورة وحش يهضم ضحاياه، تمتلك هي هوسًا مُقابلًا، قوة مقابل قوة، مثلما وصف «نيتشة» العالم.
عندما يجد «راست» العصابة التي تغتصب الأطفال وتقُدمهم كأضحيات طقوسية، يُخبره أحد أفرادها أنه سيعود لأن الزمن دائرة مُسطحة ستعيد نفسها للأبد، في ما بعد سنُدرك أن قائد الجماعة الطقوسية يؤمن أن جرائمه وأضحياته هي الطريقة المُثلى ليتحرر من العود الأبدي، لكيلا يعود للعالم في صورة جديدة ويرتكب جرائم جديدة، يُدرك «راست» أن عدوه يشبهه، رجل يرى الوجود مثله، كعود أبدي بلا معنى، ويريد مثله أن يتحرر منه، وبينما لم يمتلك «راست» شجاعة كافية لقتل نفسه أو الآخرين، امتلك قاتله الشجاعة لفعل شيء بشأن وضعه الوجودي.
بينما في «Se7en» يجد «سومرست» أن قاتله يمتلك نفس غضبه الأخلاقي، وبينما كان سومرست شرطيًا عاجزًا عن إنقاذ مدينته، حول عدوه غضبه لحملة صليبية ضد الخطايا السبع المسيحية التي حولت مدينته لمرتع شرور.
في نبوءة «نيتشة» بأن مواجهة الشر قد تجعلنا وحوشًا يحاول تحريرنا من رؤيتنا الطفولية للشر، كأذى أجوف ظلامي يرتكبه صاحبه بلاسبب، يرى نيتشة أن الشر والخير مُسميات يضعها البشر حول رغبات جارفة تتملكهم، وعبر تلك المسميات يختاروا مسارات القوة التي تناسبهم لتحقيق تلك الرغبات. لذلك لو وضعنا تشويش المسميات جانبًا سنجد -بحسب نيتشه- أن كل البشر يسعون نحو القوة، ثم يقومون بإسقاط معتقداتهم النفسية على تلك المساعي.
لذلك بينما يحضر الخير والشر كضدين، في كثير من السياقات إلا أنهما في الجوهر قد يُشبهان بعضهما كثيرًا، ولا يعرف المرء ذلك إلا في اقترابه وقتاله للشر. لذلك تُفصح دراما المُحقق دومًا عن تلك الفكرة الفلسفية أكثر من غيرها لأنه الأكثر اقترابًا من الشر في كل الشخوص الخيالية.
يرى كل محقق في عدوه طيفًا من نفسه، يرى في ما يدينه طيفًا مما يتمناه، تنسحب الفكرة نفسها على كل المعارك الخيالية بين الخير والشر، يرى «باتمان» في «الجوكر» طيفًا من نفسه، بطلًا مُقنعًا يفرض بالقوة إرادته على المدينة، يرى «هاري بوتر» في «فولدمورت» شبهًا به، ساحرًا موهوبًا مُتمردًا على القواعد. وكذلك يجد «شيرلوك» أن «موريارتي» هو قرينه في عالم الجريمة.
في النور لا نُشبه وحوشنا
اختار «آرثر كونان دويل» أن يخلق «موريارتي» ليكون المواجهة الأخيرة لشيرلوك، أن يواجه ذاته، يرى كل بطل في عين الوحش الذي يُقابله، الشر الذي يُمكن أن يكونه يومًا.
يُنهي «دويل»، قتال شيرلوك وموريارتي في رواية Final Problem بسقوط كليهما مُتعانقين في شلالات «رايشنباخ»، في أقصى صور مواجهة المرء لظله.
يُدرك «راست» و«سومرست» أن الانفصال العدمي عن العالم كحيلة للصمود اليومي في مواجهة الشر في مهنتهم لا يكفي، العدمية ليست حيلة لكي يتحصن المرء بلا مبالاته في وجه الشرور، أحدهم سيعتنق العدمية ذاتها ويُحولها لشر أكثر وطأة من كل ما واجهوه، واجه «راست» عدوًا أراد أن يتحرر من عبثية العالم والعود الأبدي بالقتل، وواجه «سومرست» رجلًا حول ذاته لإرادة إلهية غاضبة تقتل الجميع بوحشية، أراد أن يحل محل الإله الذي لم يعد يرى لوجوده أثر.
في فيلم الأخوين كوين No Country for Old Men نجد المُحقق «إد» الذي ينحدر من نسل أجداد عملوا في مهنة المأمور في الغرب المتوحش على مدار عقود، يحمل عقدة المُحقق الأثيرة في مواجهة الشر.
قديمًا كان الغرب المتوحش مفهومًا، عدوًا في مبارزة مع آخر، أما الآن الشر أكثر روعًا، وهو أعجز بسلاحه عن مواجهته، يقرأ يومًا عن جريمة استقدام عجائز لنُزل مسنين ثم قتلهم ودفنهم في الحديقة لتحصيل شيكات معاشهم الاجتماعي، يصدمه قدر الشر في جريمة أكثر تعقيدًا بكثير من بساطة الغرب المتوحش، يزداد شعوره بالاغتراب أمام الشر عندما يهبط على مدينته قاتل متسلسل يجد لذة في قتل الآخرين اعتمادًا على رمي عُملة في الهواء ليحدد مصائرهم كأنه إله الحظ، على مدار الحكاية يبدو «إد» مُلاحظًا منفصلًا أضعاف كونه مٌشاركًا، يخاف «إد» أن ينظر لهذا الشر وجهًا لوجه أو حتى أن يحاول تفسيره، يبدأ الفيلم بعبارته أنه لا يمانع وضع روحه في خطر لأجل مهنته، لكنه لن يموت لأجل شر لا يفهمه.
ينهار المحقق «إد» أمام شر عالمه الذي بات عصيًا على الفهم، يُقرر التقاعد أخيرًا عندما يجد أنه عاش كثيرًا، أكثر من عمر أبيه، أنه صار عجوزًا، ولا مكان في العالم لعجائز يمتلكون فهمًا لعالم قديم سُمي الغرب المتوحش لكنه الآن أكثر بساطة وسلامًا مما آل العالم إليه.
ينتهي الفيلم به وهو يروي حلم لقائه بأبيه الذي يحمل شعلة ينتقل بها من مدينة لأخرى، في رمزية المُحقق الخير الذي يُمثل قوة النور التي تحضر لترويض سياقات الظُلمة، يُمرر الأب الشعلة لابنه، لكن يُقر«إد» أنه لم يعد قادرًا على حملها، لأنه لم يعد يفهم العالم الذي يحيا به، وينتهي الفيلم بإظلام، يُخبرنا أن الشعلة التي حملتها أسرته انطفأت أخيرًا.
في نهاية فيلم «Se7en» وبعدما رأى «سومرست» كيف تحطم شريكه الذي عده ابنه أمام مُخطط الشر، نجده يتراجع عن التقاعد، لأنه خسر الابن الذي تجنب أن يجلبه للعالم طوال حياته، لم يعد هناك شيء يخافه، ولأن عدميته السابقة ستخلق مجنونًا يستحضر الإله على صورته، لذلك اللامبالاة المُنسحبة لم تعد حلًا.
بينما يهمس «راست» لصديقه «مارتي» أن العالم ربما ليس نيتشويًا، ربما ليس قوة تُقارع قوة، في الظلام الجميع سواء، لذلك لابد أن يحضر النور ليصنع فاصلًا بيننا وبين وحوشنا، فاصلًا يُمزق المشابهة، ولا يأتي النور إلا بالإيمان بوجوده. لذلك يلتقط راست الشُعلة التي استسلم المحقق «إد» وتركها ويؤمن أخيرًا. عندها يجد في رؤيا ابنته وهي سعيدة، رمزية لتحرره أخيرًا من شعوره بالذنب لموتها.
لا يعلم أحد على وجه الدقة، هل خسر «نيتشه»عقله في «تورينو» إشفاقًا على حيوان مسكين، لأنه بهذا يناقض فلسفته التي تتمسك بالقوة كقيمة وحيدة يُنسج حولها العالم، لكن بعين أخرى، لا يُحطم مشهدًا مثل ذاك المرء إلا لو آمن بضرورة وجود عالم آخر أكثر رحمة. يصعب أن يحضر الإيمان في نسق فلسفي يرفضه ويُعاديه لكنه يُمكن أن يحضر بخفة في شريط سينما أو حكاية درامية وفي جونرة وعالم مثل دراما المُحققين، عوالم مُصممة بالأساس ليواجه المرء الشر وينظر في وجه الوحوش كل يوم. ثم يختار إيمانه بأن يشبهها ويُطفئ شعلته، أو يخلق النور الكافي لمواجهتها.