كيف واجه الغرب ثورات الشرق؟ الثورة العُرابية نموذجًا
في ميدان عابدين بالقاهرة، وفي التاسع من سبتمبر/أيلول 1881، جرت مواجهة شهيرة، بين أحمد عرابي، الضابط الفلاح، والخديوي توفيق، تقدم فيها عرابي بثلاثة مطالب: إسقاط وزارة مصطفى رياض؛ عودة الحياة الدستورية وتشكيل مجلس النواب؛ وزيادة الجيش إلى 18 ألف جندي.
في السطور التالية نحاول الكشف عن الإستراتيجيات التي استخدمها الغرب وعملاؤه في الداخل للقضاء على ثورة عرابي.
الخطوة الأولى: دع الثورة تمر
في مشهد مظاهرة عابدين نرى واقفًا مع توفيق القنصل الإنجليزي في مدينة الإسكندرية «كوكسن» Cookson، هذا الداهية هو الذي أشار على توفيق بالانحناء للريح العاصفة قبل أن تُطيِره من على كرسي السلطة. حينما يقوم الشعب بثورة تشارك فيها كل العناصر والطبقات لا يمكنك مواجهة هذا الحشد دفعة واحدة. لا يمكنك قمع الملايين. دع الفورة الأولى للثورة تمر، دع الثوار يفرحون بالغنائم الأولى، وينزلون من على الجبل، حتى إذا اختلفوا بدت لك ثغرة تستطيع أن تنفذ من خلالها إلى صفوفهم، ثم اسكب مزيدًا من الزيت على النار لتؤججها.
بالفعل، انحنى توفيق للعاصفة، وقَبِل المطالب الوطنية الثلاثة، وأولها عزل وزارة رياض باشا، وفعلها من بعده حسني مبارك وأقال وزارة أحمد نظيف في 29 يناير/كانون الثاني 2011.
كان الغرب وقوى الثورة المضادة يُدركون أن الثورة تحمل في طياتها بذور الفرقة. كبار ملاك الأراضي الزراعية من الذوات الأتراك والأعيان المصريين، تحالفوا مع الحركة الوطنية لحماية أملاكهم من الدائنين الأوروبيين، ولانتزاع السلطة من توفيق ووضعها في أيدي طبقتهم، فهم يرون أنفسهم الأحق بقيادة البلاد من الخديوي، لكن رياح مظاهرة عابدين جاءت بما لا تشتهي سفن الذوات والأعيان، فالمطالب الوطنية تحولت إلى حركة شعبية، صحيح أن مظاهرة عابدين حققت مطلبهم بإقامة حياة نيابية تُتيح لهم المشاركة في الحكم، إلا أن عنف الحركة وشعبيتها قد أصابهم بالخوف، ولم ينسوا أن جزءًا من الغضب كان موجهًا ضد العناصر التركية والشركسية.
بعد مظاهرة عابدين، تفجّر مخزون الكراهية لدي الفلاحين من تكبر الأتراك وظلم المرابين الأجانب، من الأيام والليالي حالكة السواد التي قضوها في حفر الترع ومدّ خطوط السكك الحديدية والتلغراف تحت ضربات السياط والكرابيج، فتطلعوا إلى التخلص من كل هذا الظلم الاجتماعي، وطمحوا إلى تملك قطعة أرض يزرعونها بعرقهم، يُشجِّعهم على ذلك ثورة الضباط. يذكر كرومر أن أحد الضباط خاطب الفلاحين في نواحي الزقازيق:
لتفريغ القاهرة من العنصر الثوري، طلب شريف باشا، رئيس الوزراء الذي جاءت به الثورة، إبعاد عرابي، فغادرها في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1881 إلى الشرقية. نزل الرماة من على الجبل. وانفرد العنصر المعتدل بالميدان.
جاءت الانتخابات البرلمانية بمجلس جديد. أثار قنصلا بريطانيا وفرنسا حق المجلس في مناقشة الميزانية، بدعوى أنه سيؤثر على مصالح الدائنين. طلب شريف تفويت الفرصة، وتأجيل المسألة إلى العام المقبل، لأن ميزانية 1882 اعُتمدت بالفعل. رفض الثوار المهادنة. تجاهلوا نصيحة الشيخ محمد عبده عندما قال:
لم يقبل الثوار باعتدال شريف، قرّروا التخلص منه، وإسناد الوزارة إلى رجل منهم، محمود سامي البارودي (1839-1904)، وتولى فيها عرابي وزارة الجهادية.
كان الأمر مُدبرًا بإحكام، القوى الغربية تُدرِك أن الثوّار سوف تأخذهم الحمية ويرفضون تأجيل مناقشة القانون، وبالتالي يخسرون الجانب المعتدل من كبار الملاك، الذين سينضمون بالتالي إلى معسكر الخديوي، الخاضع منذ زمن لقوة الغرب، وهو ما كان. ولم تعش الثورة لتضع ميزانية 1883، فقد وأد البريطانيون الحلم في التل الكبير.
الخطوة الثانية: استدرج الثوار إلى مصيدة السلطة
إذا أردت أن تقضي على ثورة فعليك أن تُشخصِنها، لا تتركها جمرة تتقد في الصدور، وفكرة تنمو في العقول، وإنما جسِّدها في أشخاص، فإذا هدمتهم فقد هدمت الثورة.
يذكر المستشرق الإنجليزي بلنت، صديق العرابيين، أن فكرة إدخال عرابي إلى الوزارة جاءت باقتراح من معتمدي بريطانيا وفرنسا، ومن قبل أن تسقط وزارة شريف، وحينما كانت الأمور تجري على ما يرام، ولا يوجد ما يعكر الأجواء. [3]
بوصول الثوار إلى الحكم جرى «شخصنة الثورة» في البارودي وعرابي، فصار من السهل الآن القضاء على الثورة بإلقاء مسئولية الأمن عليهما، ثم إشاعة الاضطراب وحالات الفوضى المتعمدة. هذه هي إستراتيجية «التشخيص ثم التحطيم».
الخطوة الثالثة: انشر الفوضى والمؤامرات
أسقطت مظاهرة عابدين وزارة رياض، ومعها النفوذ التركي والشركسي في الجيش، لكن الأمور لم تهدأ، تآمرت عناصر شركسية ودبرت مؤامرة لاغتيال عرابي والضباط. مؤامرة اختلفت الآراء حولها، قيل إنها دبُرت في منزل شريف باشا، وقيل إنها بتدبير الخديوي المعزول إسماعيل للعودة إلى الحكم، وقال البريطانيون إنها مؤامرة وهمية. [4]
شُكل مجلس عسكري لمحاكمة الضباط المتآمرين، فاعترفوا باشتراكهم في مؤامرة اغتيال عرابي، لكن توفيق رفض التصديق على حكم تجريد 40 ضابطًا من رتبهم العسكرية ونفيهم إلى السودان.
لإشعال الموقف، أرسل توفيق ملف القضية إلى إسطنبول، دون استشارة الوزراء، بل وطلب الحماية، سواء من السلطان العثماني بإرسال قوات عثمانية إلى مصر، أو من الغرب. [5]
لم تتأخر بريطانيا وفرنسا عن انتهاز الفرصة، فأرسلتا أسطولهما الحربي إلى الإسكندرية في مظاهرة لإرهاب الضباط العرابيين، وبعثتا بمذكرة ثنائية، طلبت استقالة وزارة البارودي، ونفي عرابي ورفيقيه عليّ فهمي وعبد العال حلمي، إلى خارج البلاد. [6]
وافق الخديوي على المذكرة، فتقدم البارودي باستقالته في 26 مايو/أيار 1882، فقبلها توفيق على الفور، وتطلع إلى تشكيل وزارة برئاسته، يكون له فيها رئاسة وزارة الجهادية. رفض الضباط الامتثال لتوفيق، يُساندهم علماء الأزهر والشيخ المسن الشجاع «محمد عليش». هدد ضباط الجيش والبوليس في الإسكندرية بالتخلي عن حفظ الأمن. اقتحم عرابي اجتماعًا لنواب البرلمان بمنزل رئيس المجلس محمد سلطان باشا (1825-1884)، وطلب خلع توفيق، فلم يوافقه معظم النواب. الانشقاق بين جناحي الثورة يزداد اتساعًا. [7]
انتهت الأزمة بحيلة ماكرة من قناصل ألمانيا والنمسا وروسيا وإيطاليا، زاروا عرابي في منزله، وطلبوا منه حفظ الأمن.
عاد عرابي إلى السلطة، وزيرًا للجهادية، مُتعهدًا، في بيان عام، بتوفير الأمان لكل سكان مصر، على اختلاف الأديان والجنسيات. الآن اكتمل المخطط، انتقلت الثورة المضادة إلى القاعدة المشهورة: «أنا أو الفوضى»، بإظهار عرابي بمظهر العاجز عن حفظ الأمن.
الخطوة الرابعة: اصنع مذبحة
على درب «البلاك بلوك» بعد يناير/كانون الثاني 2011، وفي الساعة الأولى من بعد ظهر 11 يونيو/حزيران 1881 وقعت «مذبحة الإسكندرية».
البداية مفتعلة، رجل مالطي يستأجر حمارًا يقله في مشاوير داخل المدينة، وبعد أن أرهق الحمار وصاحبه يرفض أن يعطي المكاري –واسمه «سيد العجّان» –الأجرة المناسبة، فتعلق به المكاري مُطالبًا بحقه، فيطعنه المالطي، ويجري متحصنًا بمنزل، فإذا اجتمع الأهالي حول جثة المقتول، ينهال عليهم الرصاص من شرفات المنازل.
المعركة المفتعلة تتطور وتشتعل، الرعاع الأوروبيون يضربون الأهالي بالمسدسات، الأهالي عُزّل من السلاح، يدفعون الموت عن أنفسهم بالعصي، الصعايدة والعرب والسودانيون يتجمعون، الضرب يشتد، الضوضاء تعلو، الخناجر تُستل، والقتلى يتكاثرون في الجانبين. [8] الضرب والفوضى يستمران من الواحدة ظهرًا وحتى الخامسة مساءً.
اليوم الدامي ينتهي بعدد من القتلى والجرحى، تختلف الروايات في تقديره، بعضها يصل بعدد القتلى إلى 200 شخص، بينما يقدرهم الرافعي بـ 49 قتيلًا، 38 منهم أجانب، وجرحى عددهم 71، منهم 36 من الأجانب. [9]
المؤامرة دُبِّرت بإحكام، محافظ المدينة «عمر لطفي» لم يتصل بعرابي فور اشتعال المعركة، وعندما فكّر في استدعاء الجيش اشترط أن ينزل بغير سلاح. [10]
عمر لطفي هذا من الكارهين للثورة، شركسي الأصل، من فلول نظام الخديوي المعزول إسماعيل، وقد نال مكافأة الخيانة بعد هزيمة الثورة، منصب وزارة الحربية، وظل فيه حتى مايو/أيار 1883. [11]
يشترك البوليس في المؤامرة، تمارض رئيس الشرطة بالإسكندرية يوم المذبحة، ادّعى أنه حدث له شلل في ذراعه الأيسر ولزم الفراش [12]، فاستمر الاضطراب وفقًا للبرنامج الموضوع له. [13] ومع غروب الشمس سكن الاضطراب وانقضى الليل ولم يحدث فيه شيء، لكن الخوف ملأ القلوب. [14]
الاضطراب كان الأول بعد الثورة. في أوروبا أحدث خبره قلقًا كبيرًا، نسبته الجرائد الأجنبية إلى «التعصب الإسلامي»، وألقت تبعته على رجل واحد فقط: عرابي.
في الداخل، أيقن منْ كان مُترددًا من كبار الملاك الأتراك والمصريين أن الكفة مالت، بما يرجحها، ناحية معسكر الثورة المضادة، فهرولوا إليها.
الخطوة الخامسة: اهدم عقيدة الجهاد
عندما تطور الصراع إلى المواجهة المسلحة، استدعى أهل مصر عقيدة الجهاد لمواجهة الاقتحام العسكري الإنجليزي الوشيك، وفي المقابل، استدعى الخديوي ورجاله عقيدة الخنوع وتزييف وعي الجماهير. بدأ الصراع بين علماء الإسلام وعلماء السلطان.
من خطبة للشيخ «محمد أبي الوصل»، يستثير الهمم للجهاد:
ومن خطبة للشيخ «حميدة الدمنهوري»:
ويكتب الشيخ «مصطفى عز»، مفتي الشافعية في مصر، عن الغزو الثقافي، وموجة التغريب التي أصابت البلاد وفرنجة القضاء:
وبينما دعاة الثورة والعلماء يجوبون البلاد، يحثون الناس على الجهاد، ويشاركون الجنود في معارك كفر الدوار ثم التل الكبير، كان الخديوي وأنصاره يحوِّلون الإسكندرية إلى معقل للثورة المضادة، ويروِّجون شائعات عن الأفعال القبيحة التي يرتكبها عرابي تجاه الإسكندرية، كقطع التلغراف وخطوط السكك الحديدية والمياه بغرض إهلاك الخديوي والنظار وسكان المدينة.
أصدر مجلس النُظّار المؤيد لتوفيق منشورًا يزعم أنه لم يسلم الإسكندرية للعدو، وأن الإنجليز ليس لهم عداوة مع الدولة العلية ولا مع الحكومة المصرية، وما حصل من ضرب للإسكندرية لم يكن إلا مقابلة للتهديد الذي شكّله عرابي بتقوية القلاع. ويُهدِّد المنشور كل منْ يساند عرابي باعتباره عاصيًا لله ورسوله وأولي الأمر. [18]
ويخلط المشايخ المؤيدين لتوفيق بين التسامح مع أهل الكتاب وعقيدة الجهاد التي تحث على قتال المعتدين، فيكتب الشيخ «حمزة فتح الله» (1849-1918) في صحيفة «الاعتدال»:
ويحاول هدم عقيدة الجهاد بدعوى أنه لا يمكن للمجاهدين أن «يقابلوا الآلات الإنجليزية الحربية الحديثة العهد بآلات عتيقة أكلها الصدأ». وعلى هذا فإن خوض القتال يُعد «مخاطرة بالبلاد والعباد… وقد نهانا الله تعالى عن أن نلقي بأيدينا إلى التهلكة».
ويشترط الشيخ لخوض القتال أن يكون سجالًا بين المتحاربين، ويقول: إن الحسين بن علي بن أبي طالب لم ينتصر مع الإجماع على كونه على الحق، وبالتالي فعلى عرابي الاستسلام. (لا يبين الشيخ: ولماذا قاتل الحسين وهو يدرك أنه مغلوب لا محالة). [19]
وإذا كانت الآلات الحربية قديمة قد أكلها الصدأ، فلماذا يخشى منها الإنجليز حتى يضربوا الإسكندرية بالمدافع؟! وكون الأسلحة قديمة لا يمنع من مدافعة العدو الذي يريد احتلال البلاد، فالموت الكريم خير من العيش الذليل.
نلاحظ أن بريطانيا وعملاءها لم يستطيعا الضرب على وتر الأقليات، إذ لم يفسر العلماء صيحة الجهاد بأنها حرب بين مسلم ومسيحي، وإنما هي بين مسلم وكافر يريد الاستيلاء على البلاد، وأعلن بطريرك الأقباط أن الإنجليز خرجوا عن تعاليم المسيحية الحقة التي تدعو إلى السلام وعدم الاعتداء. [20]
منشور عصيان عرابي
انزعج الإنجليز من صيحة الجهاد التي سرت في مصر والبلدان الإسلامية، فأدركت أنها سوف تحارب أمة بأكملها، فالمعركة تحولت من صراع بين الإنجليز والخديوي توفيق وكبار الملاك من جهة وأهل مصر من جهة أخرى، إلى صراع بين الأمة الإسلامية والإمبراطورية البريطانية. والحرب الجهادية لن تنتهي حتى لو هزُم جيش عرابي، فالمعركة لا تخص عرابي وأهل مصر وحدهم وإنما هي معركة كل أبناء الأمة الإسلامية من مسلمين ومسيحيين ويهود.
لجأت بريطانيا إلى المكر، ضغطت على السلطان عبد الحميد (1842-1918) لكي يعلن عصيان عرابي، وبالتالي تُنزع عنه الصفة الشرعية، وتطفَأ صيحة الجهاد التي اشتعلت، فالخليفة، الرمز الروحي لكل المسلمين، يعلن عصيانه وخروجه على دار الخلافة.
استغل سفير بريطانيا في إسطنبول المفاوضات التي يُجريها مع تركيا لإرسال جيش لها إلى مصر، يشترك في إعادة الاستقرار، فاشترط صدور إعلان من السلطان بعصيان عرابي، وإلا فلن توافق بريطانيا على إرسال الجيش العثماني وتمنع نزوله البر [21] بالفعل، صدر منشور عصيان عرابي في 6 سبتمبر/أيلول 1882، ولم تنزل الجنود العثمانية إلى البر، فقد سارعت بريطانيا إلى احتلال القاهرة.
اعترف المنشور بتوفيق كوكيل شرعي للدولة العلية، وأن بريطانيا «حليفة» للدولة العلية، و«بناء على ما تقدم يُحسب عرابي باشا وأعوانه عصاة ليسوا على طاعة الدولة العلية السلطانية… ويتعيّن على سكان الأقطار المصرية حالة كونهم رعية مولانا وسيدنا الخليفة الأعظم أن يُطيعوا أوامر الخديوي المعظم الذي هو في مصر وكيل الخليفة، وكل منْ خالف هذه الأوامر يُعرِّض نفسه لمسئولية عظيمة». [22]
كان المنشور طعنة قوية أصابت سلاح الجهاد، وأطفأ الحمية الإسلامية من القلوب، فكان أثره أقوى من ضربات السيوف وقنابل المدافع. جعل الجنود يظنون أنهم لا يحاربون في سبيل الله، ومنْ قُتل منهم فلن يكون شهيدًا، بل يموت عاصيًا، فيكون مثواه النار وبئس المصير. [23]
خدع الإنجليز سلاطين الدولة العثمانية للمرة الثانية. المرة الأولى في ثورة الهند عام 1857، إذ لجأ الإنجليز إلى السلطان، فأصدر منشورًا يدعو المسلمين إلى الهدوء وعدم مقاومة حكومة جلالة الملكة فيكتوريا حليفته في حرب «القرم»، فنالت بريطانيا بهذا المنشور بلدًا في حجم قارة. وخدع الإنجليز تارة أخرى السلطان عبد الحميد بإصداره منشور عصيان عرابي، فظفروا بمصر والسودان ومنابع النيل، ونقطة انطلاق للاستيلاء على الشام.
الخطوة السادسة: «الولس الذي كسر عرابي»
جملة ردّدها العامة بعد هزيمة التل الكبير، فقد وعت الجماهير ما حدث، وأن ما كسر عرابي لم تكن قوة المدافع ولا الخطط الحربية الإنجليزية، فالإنجليز لم ينالوا شيئًا في معركة كفر الدوار، وكادت تدور عليهم الدائرة في معركة القصاصين، ولم ينتصروا في التل الكبير، لأن المصريين لم يُقاتلوا، وإنما طُعنوا بالخيانة.
الضابط «علي يوسف»، المشهور بين العامة باسم «خنفس الخائن»، أبلغ عرابي أن العدو لا يخرج ليلة 13 سبتمبر/أيلول 1882، فأصدر عرابي أمره إلى الجيش بالراحة. سارت العساكر الإنجليزية، يتقدمهم ضباط مصريون انحازوا إلى الخديوي، وأمامهم «عربان الهنادي» يدلونهم على الطريق ما بين الصالحية والتل الكبير، بلغوا مقدمة الجيش المصري، أخلى لهم الخائن «علي يوسف» الطريق، ومرّوا بين العساكر لا راد يردهم. اشتبك الفريقان. عشرون دقيقة فقط وانتهت معركة التل الكبير بانتصار الإنجليز، انتصروا بالخيانة. [24]
خان الثورة كبار الملاك الأتراك والمصريون، و«الضابط خنفس»، وبدو الصحراء ممّن سال لعابهم للذهب الإنجليزي. وخدع الإنجليز شريف باشا، إذ صدّق وعودهم بأنهم سيجلون عن مصر بعد القبض على عرابي ورفاقه المتمردين.
ورغم الخيانة، لم يغفر أهل مصر لعرابي تركه ميدان القتال والتوجه للقاهرة. رأوا أنه كان أجدر به أن يموت ميتة مجيدة في ساحة القتال بطلًا مثل البطل الشجاع «محمد عبيد» الذي كافح حتى استشهد في ساحة التل الكبير.
- أحمد عبد الرحيم مصطفي، مصر والمسألة المصرية 1876-1882، دار الكتب والوثائق القومية، 2011، ص 194.
- ألفريد بلنت، التاريخ السري لاحتلال انجلترا مصر، مكتبة الآداب، 2014، ص 133. سمير محمد طه، عرابي ودوره الحياة السياسية المصرية، الهيئة العامة للكتاب، 1986، ص 117.
- بلنت، التاريخ السري…، ص 132.
- عبد الرحمن الرافعي، الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي، دار المعارف، ط 4، 1983، ص 238، 239.
- أحمد عبد الرحيم مصطفي، مصر …، م س ذ، ص 202.
- الرافعي، م س ذ، ص 250.
- مرجع سابق، ص 256، 257.
- مذكرات أحمد عرابي، كشف الستار عن سر الأسرار، كتاب الهلال، مايو 1989، عدد 461، ص 138.
- الرافعي، الثورة العرابية…، ص 269، 270.
- حسين فوزي النجار، أحمد عرابي، مصر للمصريين، أعلام العرب، العدد 141، الهيئة العامة للكتاب، 1992، ص 151.
- بلنت، التاريخ السري، ص 408.
- مذكرات عرابي، ص 138.
- بلنت، التاريخ السري، ص 412.
- مذكرات عرابي، ص 139.
- نص الخطبة من سليم النقاش، مصر للمصريين، الجزء الخامس، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 194.
- النقاش، ص 195.
- ردولف بيترز، الإسلام والاستعمار: عقيدة الجهاد في التاريخ الحديث، دار شهدي للنشر بالتعاون مع المعهد الهولندي للآثار المصرية والبحوث العربية، القاهرة، ص 104.
- النقاش: 5، ص 184، 185.
- النقاش: 5، ص 186: 189.
- محمد الحديدي، عبد الله النديم، سلسلة أعلام العرب، ص 214.
- النقاش: 5، ص 202. 232.
- نص المنشور في النقاش، مصر للمصريين، ج 5، ص 200، 201. مذكرات أحمد عرابي، كشف الستار، ص 223.
- انظر رد فعل الجنود والضباط في أحمد عرابي، كشف الستار، ص 223، 224. النقاش: 5، ص 248.
- النقاش: 5، ص 249.