يكشف لنا الدكتور «محمد عبد الوهاب سيد أحمد» في كتابه «العلاقات المصرية الأمريكية من التقارب إلى التباعد 1952 – 1956» عن التناقضات التي شابت بعض الشخصيات التاريخية، باعتبار أن التاريخ هو تاريخ بشري، وبالتالي فإن كل إنسان تحركه مجموعة من الدوافع؛ قد يراها البعض خيرة ويراها آخرون شريرة وفقًا لمصالحهم.

وعليه فقد نجح صاحب هذا العمل من خلال اطلاعه على الوثائق الأمريكية، أثناء إعداده لهذا العمل أن يكشف عن ظروف تطور العلاقات بين حكومتي القاهرة وواشنطن خلال هذه الفترة الحساسة من التاريخ المصري والعالمي (1952-1958). وهي حساسة للتاريخ المصري بحكم أن طموحات النظام الجديد للعب دور إقليمي كانت تتعاظم عامًا وراء آخر، حيث أصبحت مصر مركز الثقل في العالم العربي، بعد فشل ما عرف بـ«العدوان الثلاثي» عليها، وبعد أن بدت أول بوادر للوحدة العربية بإعلان قيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا.

سيطر على الكثير من أبناء هذا الجيل هاجس أن العلاقة بين مصر عبد الناصر والولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في فترة الخمسينيات، قد شابها نوع من التوتر والفتور منذ بداية الثورة وحتى نهاية الحقبة الناصرية في سبعينيات القرن الماضي. وكان مرجع هذا بالنسبة لأبناء هذا الجيل – الذي خدع بهذه المظاهر – حرب 1967، وخطابات عبد الناصر شديدة اللهجة تجاه الولايات المتحدة والغرب، وما ترتب عليها من نتائج في تصوير وتكريس صورة العداء. وكأن القتامة كانت طابع العلاقات بين الدولتين، أو كما يوضح الكاتب، بين القوتين:

قوة الولايات المتحدة؛ كقوة عالمية، وقوة مصر؛ كقوة إقليمية، متناسية أن العلاقات في كثير من الأحيان تحكمها محددات رئيسية، وأن هناك ما يعرف بالدبلوماسية العلنية والدبلوماسية التحتية، وكل منهما لا يتعارض مع الأخرى في بعض الأحيان، بل ربما تخدمها لأغراض وأهداف خاصة بهذه الدولة أو غيرها.

وفي فصول الكتاب يعرض المؤلف لتقلب شكل العلاقة بين البلدين على فترات متصلة، تغيرت هذه العلاقات حسب الظرف المحيط. حيث إن الأمور لم تسر على وتيرة واحدة بين كلا الطرفين: المصري والأمريكي، فكلاهما قد غالى في تقدير إمكانياته على معاجة الموقف، فاعتقد أن بإمكانه أن يحقق أهدافه دون أن يدفع الثمن؛ فواشنطن كانت تسعى لتحقيق أهداف عديدة، كان بعضها يتناقض مع بعضه الآخر وعلاقتها مع النظام الجديد.فعلى سبيل المثال أرادت واشنطن أن تظهر تأهبها لتأييد الطموحات الوطنية المصرية في الوقت نفسه الذي أرادت فيه تأكيد تحالفها التاريخي مع بريطانيا. وكانت لدى أمريكا الرغبة في الحفاظ على علاقتها الودية وصداقتها مع العرب، في الوقت نفسه لم تكن مستعدة لاتخاذ أي عمل حاسم ضد إسرائيل. والأهم من هذا كله هو كيف يُقنع حكام مصر الجدد صناع القرار السياسي الأمريكي بأن اهتمامهم بالشئون الداخلية المصرية يسير وفقًا لأهداف السياسة الأمريكية ومصالحها.


الولايات المتحدة والنظام الجديد

في عشية يوم 23 يوليو/تموز استولى مجموعة من الضباط على السلطة في القاهرة دون أدنى مقاومة، وبأقل معدل لإراقة الدماء، أصبح زمام السلطة في أيديهم. وما يهم في تلك القصة هو رد الفعل المعلن وغير المعلن للولايات المتحدة الأمريكية في تعاملها مع الثورة. بالإضافة لسؤال يفرض نفسه، وهو: لماذا كان صغار ضباط الجيش – رغم اتصالاتهم المبكرة بالأمريكيين – يتقربون علانية من السفارة الأمريكية خلال الساعات الأولى للثورة؟

وإجابة هذا نجدها عندما قال السادات متعجبًا: «هل ستتدخل بريطانيا لصالح الملك؟»، حيث ذكر محمد نجيب في مذكراته: «إننا قد عزمنا على ألا نمنح بريطانيا أي عذر للعمل ضدنا، حيث إنهم قد قاوموا أجدادنا في الماضي».

لذلك عملت الولايات من جانبها من خلال اتصالات سفيرها جيفرسون كافري ببريطانيا للتأكيد أن ما حدث هو «شأن داخلي بحت»، ومن ناحية أخرى نقل كافري للملك رسالة مفادها: «إننا لا نريد توريط أنفسنا في هذه الأحداث». وعليه، فقد أعلنت الولايات المتحدة بذلك اعترافًا رسميًّا بالنظام الجديد.

عمل النظام الجديد على تقريب وجهات النظر مع الغرب من خلال مواجهة «خطر الشيوعية»، وهو ما ألمح إليه نجيب للمسئولين الأمريكيين برغبة مصر في الاستعانة بالمساعدة الأمريكية والبريطانية لمواجهة العناصر الشيوعية.

مجلس قيادة ثورة 23 يوليو/تموز 1952م

لم يكن بالإمكان وقوف صغار ضباط الجيش أمام حزب الوفد ذي القاعدة الشعبية العريضة. وبناء على ذلك، أكد السفير كافري في اجتماعاته الأولى مع نجيب ورفاقه «أن إصلاح الملكية الزراعية قد تجاوز وقته وأصبح شيئًا أساسيًّا»، وحذرهم من أن النظام الجديد قد يفقد سمعته كجماعة تبنت الإصلاح والتقدم. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا اهتم الأمريكان بقضية الإصلاح الزراعي؟

والإجابة: هناك أسباب عديدة وراء هذا، أول هذه الأسباب هو التصميم على وضع حد لنفوذ الأحزاب القديمة، خاصة نفوذهم بين سكان الريف. والثاني هو مناهضة الدعاية الشيوعية بين الطبقتين الوسطى والدنيا. والثالث هو الرغبة في زيادة شعبية النظام الجديد بين الأغلبية الساحقة من الشعب المصري. والرابع والأخير هو أن تنفيذ لائحة الإصلاح الزراعي والإصلاح الاجتماعي سيقوي مركز النظام الجديد في مواجهة الأحزاب السياسية القديمة والسياسيين المحترفين، وسيعطيهم الفرصة بسهولة ويسر لعقد معاهدة مع الغرب.


الولايات المتحدة ومصر: من التقارب إلى التباعد

بدأت الأحداث تتوالى، وتغيرت القيادات والإدارات، وبدأت مصر عهدًا جديدًا تحت قيادة مجموعة جديدة، وأخذت أمريكا تتهيأ للعب دور جديد.

لم يكن تغيير النظام في مصر يعني أن يتخلى الغرب عن الترويج لمشروعاته الدفاعية. ففي أعقاب قيام ثورة يوليو، قدم الخبراء العسكريون الأمريكيون توصية إلى وزارة الخارجية الأمريكية تفيد أن «إقامة منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط (MEDO) أصبحت ضرورة مُلحة. وأن هذا يتطلب ضرورة تعاون دول المنطقة وخاصة مصر».

ولكن المشكلة التي لم تكن حاضرة في أذهان صناع السياسة في الغرب أن النظام العسكري الجديد، رغم إحكام قبضته على زمام الأمور الداخلية، وفهمه العميق للمشاكل الاستراتيجية في المنطقة عن سابقه، فإنه كان أسير الخوف من المعارضة الداخلية التي كانت تتوثب وتتحين الفرص لاتهام النظام بالخيانة والتفريط في الحقوق الوطنية. لقد كان موقفًا معقدًا؛ فالغرب (خاصة الولايات المتحدة) يريد مشاركة مصر في نظام الدفاع الغربي، وفي الوقت نفسه لا يسعى لدفع النظام الجديد إلى الدخول في مواجهة مع قوى المعارضة المتحفزة للنيل منه.

لقد كانت كل المؤشرات تبشر بصفحة جديدة بين مصر والغرب، حدث فيها نوع من التقارب، وجاءت فترة التقاط الأنفاس وبدأ الاختبار الحقيقي لمدى صدق الغرب لتحقيق وعوده بتسليح مصر. وتوقع الجميع انضمام مصر إلى الأحلاف الغربية في الشرق الأوسط، لكن كل هذه التوقعات قد خابت. فعبد الناصر كان يتجه إلى سياسة حدد فيها اتجاهين: أولهما، أنه بحاجة لفسحة من الوقت يستطيع أن يُعوِّد فيها الشعب المصري على أن بلدًا في وضعه يجب ألا يعتمد على الأجانب. ثانيهما، أن مصر يجب أن تتمتع بوضعها الخاص وكبريائها، وهما بمقاييسه يعنيان عدم الارتباط بالأحلاف العسكرية الأجنبية.


أزمة السويس والعلاقات بين التباعد والتقارب

ازدادت شعبية عبد الناصر وقويت زعامته في مصر والعالم العربي حين ألقى خطابه في 26 يوليو/ تموز 1956. معلنًا تأميم شركة قناة السويس ردًّا على سحب عرض تمويل السد العالي. وقد اعتبر حلفاء أمريكا في الناتو (بريطانيا وفرنسا)، تأميم شركة قناة السويس أمرًا غير مقبول.

تحركت الأحداث سريعًا، وبات الموقف ينذر بالخطر وفقًا للأنباء القادمة من باريس ولندن، وبدأ أيزنهاور يفكر في أن يرسل صديقه الحميم روبرت أندرسن في مهمة سلام إلى القاهرة، لإيجاد صيغة يحول بها دون القيام بعمل عسكري أنجلو – فرنسي ضد مصر. وسواء أرسل أندرسن أم لا، فإنه في الواقع أن إدارة أيزنهاور كانت متحمسة لمنع اللجوء للعمل العسكري ضد مصر لعدة أسباب:

أولًا: رغبة القيادة الأمريكية في الحفاظ على النزاع الأنجلو – فرنسي المصري حول السويس منفصلًا عن الصراع العربي الإسرائيلي.

ثانيًا: قلق الولايات المتحدة حول ما سينتج من ذلك العمل العسير من انطباق في الأذهان في الشرق الأوسط عن الطبيعة الاستعمارية للغرب، مما سيقوي شوكة عبد الناصر في العالم العربي والإسلامي.

كان الأمريكيون إلى جانب مصر ضد المعتدين، ففي أول نوفمبر/ تشرين الثاني داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة، طرح دالاس من خلال مندوبه الدائم اقتراحًا جديدًا يطلب «وقف إطلاق النار الفوري». بالإضافة إلى أن أيزنهاور أراد وضع حد للتدخل الإسرائيلي، فأرسل إلى بن جوريون، رئيس الوزراء الإسرائيلي، مستحثًا إسرائيل على إتمام الانسحاب.

اقرأ أيضًا:هل كانت يوليو ثورة؟ وهل كانت أمريكية؟

وكان عبد الناصر مدركًا لموقف مصر المزعزع، كما كان على علم تام بأن مساندة إحدى القوى العظمى هي الوسيلة الوحيدة للخروج من الأزمة والحفاظ على الزعامة. لذلك اتجه عبد الناصر منذ اليوم الأول للعدوان إلى أيزنهاور، طالبًا منه المساعدة العسكرية الأمريكية لوقف العدوان. وكما كان متوقعًا أوضح الرد الأمريكي رغبة في مساعدة مصر داخل إطار الأمم المتحدة.


الخلاصة

ثورة يوليو، مصر، أمريكا

لقد أثبتت الدراسات أن علاقة الدول لا تسير على وتيرة واحدة، خاصة إذا كانت هذه الدول التي نتعامل معها ذات مكانة عالمية أو صاحبة دور إقليمي. فقد يحدث تقارب أو تباعد والعكس بالعكس. وقد أثبت مثل هذا النوع من الدراسات أن القوى الصغرى ذات المكانة المتميزة قد تملي على القوى الكبرى ذات المكانة الدولية اتباع نوع من السياسات التي قد لا تتفق مع المعلن من سياستها. وأن المصالح قد تحكم العلاقة، وأن المبادئ المعلنة قد تستخدم كشعارات للاستهلاك المحلي في بعض الأحيان.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.