كيف كانت «البوسنة» العثمانية قبل مذابح الصرب
الصحافة الصربية في رسالة إلى رئيس البوسنة علي عزت بيجوفيتش قبيل العدوان الصربي على البوسنة، في إشارة إلى قتل مليوس الصربي للسلطان العثماني مراد الأول بعد معركة قوصوة عام 791هـ/ 1389م.
في الحادي عشر من شهر تموز/يوليو، 1995م، اندلعت مذبحة عُرفت بالمذبحة الأخيرة في القرن الحادي والعشرين. ففي بلدة «سربرنيتسا» الواقعة جنوب شرق البوسنة بمحاذاة حدودية مع «جمهورية صربيا» حاليًا، ذبح الجنود الصرب ما يزيد على 8 آلاف مسلم بوسنوي مدني. لم تكن هذه المذبحة هي المأساة الوحيدة في الحرب التي قامت بين «جمهورية البوسنة والهرسك» المنفصلة عن الاتحاد اليوغسلافي من جهة و«الصرب» من جهة أخرى في الفترة ما بين عامي 1992 و 1995، وإنما تنضمّ إليها مآسٍ أخرى، أبرزها محاصرة العاصمة البوسنية «سراييڤو» وقتل 11,500 شخص من سكانها من بينهم 1000 طفل على يد القوات الصربية.
وفي كل حادي عشر من شهر يوليو/تموز، من كل عام، تحلّ ذكرى مذبحة «سربرنيتسا» البوسنية. في الوقت الذي لا زال حاضر البوسنة مرتبطًا بصلاتٍ قوية مع مكانتها المتميّزة في العصر العثماني طيلة أربعة قرون وأكثر، منذ عام 1463م حتى عام 1878م، تشكّلت فيها هويّتها الحضارية، حتى صارت مركزًا للثقافة الإسلامية القادمة مع الفاتحين العثمانيين، وذلك قبل أن تتعرّض للاحتلال النمساوي المجري فيما بعد.
الفتح العثماني لأراضي البوسنة
بدأت قصة الوجود العثماني في «البلقان» [الروملي بالاصطلاح العثماني] بعد انتقال العثمانيين إلى البرّ الأوروپي عام 1353م، واتخاذهم مدينة «إدرنة» عاصمة لدولتهم عام 1363م، وأصبح الفتح العثماني لأراضي البلقان يمثل أولوية للدولة كي يؤمن عمقًا أرضيًا للعاصمة الجديدة باتجاه الغرب.
وقد وصل العثمانيون إلى أول أجزاء الأراضي البوسنوية عام 1386 واستمرت عملية ضم أراضي البوسنة للدولة حتى عام 1463 لتنضم كلها تحت الحُكم العثماني المباشر الذي كان له الأثر الأول في التغيرات الكبيرة في البنية الدينية والديموغرافيا السكانية للبوسنة.
ببطء وتأنٍ بدأت عملية تحول السكان إلى الإسلام وكانت المراحل الأولى من عملية التحول للدين الجديد تنقسم إلى: هجرة المسلمين إلى هذه الأراضي الجديدة، بالإضافة إلى اعتناق «البوشناق» سكان الأرض الأصليين للإسلام، وعلى المدى الطويل كان اعتناق المسلمين المحليين للإسلام هو المصدر الرئيسي لمسلمي البوسنة، وأصبح أغلب من يتحول عن دينه القديم يتجه إلى الإسلام.
أما الحالة العمرانية للبوسنة فقد شهدت تطورًا كبيرًا جدًا تحت الإدارة العثمانية، فتطورت قرى وقصبات وقلاع لتتحول إلى مدن كبيرة وواسعة مثل «بانيالوكا»، و«فيشجراد»، و«سراييڤو» التي لابد من إفراد حديث خاص عنها.
«سراييڤو» المدينة العظيمة
تعتبر «سراييڤو» عاصمة البوسنة والهرسك وأكبر مدنها، أول مدينة تُنشأ في البوسنة على النمط الشرقي الإسلامي بعد الفتح العُثماني. وقد تحولت تحت هذا الحكم إلى واحدة من أكبر المدن في جنوب شرق أوروپا، وواحدة من أكبر مراكز الثقافة الإسلامية في البلقان. وكان للوقف دور كبير في نشوء المدن الجديدة في البلقان ومنها «سراييڤو».
يرتبط اسم المدينة [سراي بوسنة أو سراييڤو] بـمؤسسها «عيسى بك»، الذي شكّلت أوقافه الخاصة النواة الرئيسية للمدينة، ومن بين أوقافه: جامع باسم السلطان «محمد الفاتح» أنشأه في 1457م، وحمامًا -بقي حتى 1889م-، وجسرًا على نهر «ميلياتسكا»، وخان [فندق]، وبيزستان [سوق مغطى للبضائع والمنسوجات] يحتوي على محلات كثيرة، وتكية في قرية «بروداتس» المجاورة التي خُصصت [حسب الوقفية] لنزول «الفقراء والمُسلمين من السادات والغزاة وأبناء السبيل» وتقديم الطعام لهم، وأوقف عليها العديد من الطواحين والكثير من الأراضي. والجدير بالذكر أن وقفية «عيسى بك» قد كُتبت بالعربية وهي اللغة الجديدة التي دخلت البلقان مع العُثمانيين، وأصبحت من لغات الثقافة الإسلامية التي ساهم بها «البشانقة» بما ألفوه بعد انتشار الإسلام هناك.
أخذت هذه النواة العُمرانية (الجامع – الحمام – السوق – التكية) تكبر بسرعة، فنمى حي جديدة حول الجامع، وحي ثانٍ حول التكية، وثالث حول السراي، ومع مرور الوقت، وصلت هذه المدينة إلى عصرها الذهبي في النصف الأول من القرن السادس عشر، على يد الوالي «خسرو بك»، مع كثير من المباني الجديدة التي أوقفها لتطوير المدينة مثل مسجد «خسرو بك»، مدرسة، مكتبة، تكية، خان، بيزستان، حمام، وغيره، بالإضافة إلى كثير من الولاة الآخرين الذين ساهموا بوقفياتهم في نمو المدينة، مما عمل على تنشيط التجارة ونشوء كثير من الحرف بشكل سريع، حتى تحولت المدينة إلى واحدة من أعظم مدن جنوب شرق أوروپا.
وبناء على وصف الرحالة العثماني الشهير «أوليا چلبي» للمدينة عندما زارها عام 1660م، فإنه يتضح مدى اتساع المدينة وضخامتها، فقد ذكر بأنها تحتوي على 600 حي سكني، 17000 منزل، 77 جامع و 100 مسجد، العديد من المدارس، 180 مكتب لتعليم الصبية، 47 تكية، 300 سبيل، 700 بئر، 5 حمامات، 3 كروانسراي [نزل للمسافرين والقوافل]، 23 خان، 1080 متجر، بيزستان، 7 جسور على نهر «ميلياتسكا»، كنيسة كاثوليكية، وكنيسة أرثوذكسية، وغيرها.
بوسنويون أقاموا صرح الدولة العلية
يَحفَل التاريخ العثماني بمئات الأسماء البوسنوية التي خدمت الدولة وساهمت في تشييد مجدها وإعلاء اسمها(*)، فظهر العُلماء الموسوعيون والشعراء الكبار ورجال الدولة الأكفاء والقضاة العادلون الذين تولوا منصب القضاء في مدن كثيرة تمتد من إسطنبول وإدرنة ومرعش حتى حلب ودمشق ومكة والقاهرة.
ولعل سَردًا سريعًا لبعض الشخصيات البوسنوية الكبيرة أو ذات الأصل البوسنوي التي ساهمت بصماتها في كتابة صفحات من تاريخ الدولة، يخبرنا عن مدى عظمة ما أضافوه وقدَّموه من أعمال، فنبدأ بالصدر اﻷعظم [رئيس الوزراء] الكبير وأحد رجال الدولة العظام «صوقوللو محمد پاشا» [1506-1579] الذي خدم في مواقع كثيرة من الدولة وصولًا إلى الوزارة العظمى في عهد السلطان «سليمان القانوني» وابنه السلطان «سليم الثاني» وحفيده السلطان «مراد الثالث» فوصلت مدة صدارته إلى 16 عامًا تقريبًا أدار فيها الدولة بأحسن ما يكون، وضم إلى أملاكها جزيرة «قبرص». إلا أن الدولة في عهده مُنيت بهزيمة بحرية ساحقة في «معركة ليپانتو» [اينى بختى] عام 1571م. وقد أمر ببناء المساجد والجوامع والمدارس والجسور التي ما زالت قائمة إلى الآن منها جامعه الشهير في إسطنبول، وجسر يحمل اسمه بمدينة «فيشجراد» بالبوسنة تم ضمه إلى قائمة «اليونسكو للتراث العالمي» عام 2007م.
ومن العلماء البوسنويين الموسوعيين «نصوح السلاحي» [ت 1564م]. هذا الكاتب والمؤرخ والجغرافي والرياضي وراسم المنمنمات الكبير الذي عاصر اثنين من كبار سلاطين آل عثمان وهما السلطان «سليم الأول» والسلطان «سليمان القانوني»، حيث صاحبهما في حملاتهما العسكرية وأرخ لهما. ومن أبرز مؤلفاته، مجموعة من الكتب التي تؤرخ لفتوحات السلطان «سليمان القانوني»، إلى جانب ترجمته لكتاب «تاريخ الطبري» مع إضافة ملحق إليه من كتابته، ومجموعة من الرسومات الطوبوغرافية لمدن الأقاليم العثمانية، ومؤلفات في الرياضيات والحساب، وقد نظمت اليونسكو في عام 2014م مؤتمرًا لإحياء ذكرى مرور 450 عامًا على وفاته.
ومن مشاهير رجال العلم البوسنويين العُثمانيين المؤرخ المدقق «إبراهيم بچوي» [1572-1650]، صاحب الكتاب الشهير «تاريخ بچوي» الذي يمثل واحد من أهم كُتب التواريخ العثمانية التي غطت تاريخ الدولة لمدة 120 عامًا [1520-1640] ابتداءً من عهد السلطان «سليمان القانوني» حتى عهد السلطان «مراد الرابع»، وقد صدر الكتاب بترجمة عربية عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة في مجلدين كبيرين.
أما خاتمة العلماء الذين نذكرهم في هذا السرد السريع فهو العالِم الموسوعي «حسن كافي الأقحصاري» [1544-1616]، وهو فقيه أصوليّ قاضٍ نحوي أديب شاعر، وأكثر علماء البوسنة الذين تركوا آثارًا علمية باللغة العربية، حيث شكَّلت معرفته إتقانه للغات الثلاثة: العربية والفارسية والتركية لدرجة مكنته من قرض الشعر بهم. وصل عدد مؤلفات الرجل [المكتوبة بالعربية في أغلبها] والتي تَنوعت ما بين كتب ورسائل إلى 17 كتاب ورسالة في العقيدة والنحو والمنطق والفقه والبلاغة والتراجم، برز من بينهم كتاب «أصول الحُكم في نظام العالم» وهو من نوع الكُتب التي عُرفت في التاريخ العثماني بُكتب النصح «نصحة نامه» التي تُقدم إلى السلطان ورجال الدولة لوضع علاج مناسب للأعطاب والمشاكل التي تواجه الدولة، وقد تُرجمت هذه الرسالة إلى الفرنسية والألمانية والمجرية والصربية-الكرواتية في القرن التاسع عشر والعشرين.
الإرث الإسلامي المجيد في البوسنة
غدت البوسنة في العهد العثماني مركزًا ومنارة للثقافة الإسلامية في البلقان، فبعد توطيد الحكم العثماني فيها شرع الولاة في بناء المُجمَّعات [الجامع الملحق به مدرسة وتكية] التي ضمت الكثير من المدارس التي أصبحت مقصدًا لكل راغب في تلقي العلوم، ويأتي على رأس هذه المدارس مدرسة «الغازي خسرو بك» بمدينة «سراييڤو» الذي أسس في وقفية خاصة به لجامع كبير ومدرسة أتبعها بمكتبة ملحقة بها عام 943هـ/ 1537م، وقام بتزويدها بمجموعة كبيرة من الكتب والمخطوطات، فتحولت بعدها هذه المدرسة(**) [التي ما زالت تؤدي رسالتها إلى الآن] إلى أكبر مدارس البلقان رغم كونها المدرسة الثالثة التي تم تأسيسها بالمدينة. وبمرور القرون تراكمت المخطوطات بمكتبة المدرسة باللغات الشرقية الثلاث بالإضافة إلى اللغة البوسنوية المكتوبة بالحرف العربي؛ نتيجة إقبال العلماء المحليين على اقتناء ونسخ المخطوطات ثم التأليف بهذه اللغات، وتحولت المكتبة حاليًا إلى أشهر وأغنى مركز يضم مخطوطات للتراث الإسلامي في جنوب شرق أوروپا بعدد تجاوز 10 آلاف مخطوط احتوت على المعارف الإسلامية المتنوعة من موسوعات وكتب للعقائد، والفقه، والحديث، والتفسير، والجغرافيا، والطب، والتاريخ، وغيرها.
أما ثاني أكبر المراكز الثقافية الإسلامية بالبوسنة فيتمثل في «معهد الاستشراق» بسراييڤو الذي تأسس عام 1950م، بغرض جمع المخطوطات باللغات الشرقية وتحقيقها ونشرها، فأخذت إدارة المعهد في جمع هذه المخطوطات المُبعثرة من أنحاء البلاد المختلفة، وعند إعلان البوسنة استقلالها عن يوغوسلافيا عام 1992م كان عدد المخطوطات الموجودة بمكتبة المعهد قد وصل إلى 5236 مخطوط بالعربية والفارسية والعُثمانية والبوسنوية مما رفعها إلى مصاف المجموعات المهمة في البلقان، إلا أن الحرب الصربية الهمجية التي قامت في نفس العام وعلى إثر قصف صربي مكثف على موقع المكتبة، تحولت المكتبة وما بداخلها من كنوز تراكمت منذ الفتح العثماني إلى أشلاء وحُطام، ولم ينجُ منها إلا 564 مخطوط فقط، أي 10% من مجموع هذه الكنوز قبل الحرب كان أقدمها يعود إلى عام 413هـ وهي «الفتاوى من النوازل» للسمرقندي.
أما الظاهرة الثقافية الهامة التي تلفت النظر فهي ظهور نوع من الكتابة الأدبية في البوسنة العثمانية تعُرف باسم «الألياميادو» وهي كتابة اللغات الأوروپية بحروف عربية، فكُتبت اللغة الصربوكرواتية السلاڤية [أو البوسنوية كما يقال عنها حديثًا] بالحروف العربية كمحاولة لكتابة لغة السُكان المسلمين بحروف لغة القرآن وهي نفسها حروف العثمانية والفارسية والعربية لغات الدولة الثلاث بجانب الخط «البوسانتشيكي»، وعرف هذا الخط باسم «عربيتسا» وتداول استخدامه بين علماء وشعراء وشاعرات البوسنة فظهرت الأعمال الشعرية ذات الطابع الديني والقصائد ذات الموضوعات الأخلاقية والاجتماعية وفق الأوزان الشعرية العربية الكلاسيكية.
ومن ضمن الأعمال التي ظهرت بهذا الخط قاموس «صربوكرواتي-عثماني» يُمثل ثاني أقدم معجم في أي لغة سلاڤية جنوبية، كُتب بواسطة الشاعر «محمد خفاجي الأسقفي البوسنوي» عام 1631م. نجد كذلك من ضمن الأعمال التي كُتبت بهذا الخط كتاب يُسمى بـ «الكتاب البوسنوي في علم السلوك» وهو عمل يتضمن 54 من الواجبات الدينية التي يجب على كل مؤمن أن يعرفها ويؤمن بها ويؤديها. وقد قام بتأليف العمل المؤلف والشاعر «سيد عبد الوهاب إلهامي» ونُشر بعد وفاته عام 1821م، بعشر سنوات.
(*) لمعرفة تفاصيل عن مجموعة واسعة من العلماء والشعراء البوسنويين، بإمكانك الرجوع لكتاب «الجوهر الأسنى في تراجم عُلماء وشُعراء بوسنه» لمحمد بن محمد بن محمد الخانجي، وهو من الكتب التي أفردت الحديث بالعربية لعلماء وشعراء وكُتاب البوسنة منذ العصر العثماني حتى العصر الحديث. (**) يُقصد بالمدرسة هنا نوع جديد من المؤسسات التعليمية التي ظهرت في البلقان بعد الفتح العثماني، وتناظر حاليًا المعاهد المتوسطة والعليا.
- الجوهر الأسنى في تراجم عُلماء وشُعراء بوسنه، محمد بن محمد بن محمد البوسنوي الخانجي، تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو، هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، الجيزة، الطبعة الأولى، 1992.
- البوسنة ما بين الشرق والغرب، محمد م. الأرناؤوط، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2005.
- التراث المغدور: اغتيال ماضي البوسنة، روبرت ج.دنيا و جون ف.أ.فاين، ترجمة أحمد محمود، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 1998.
- الإعلان الإسلامي، على عزت بيجوفيتش، ترجم وتقديم محمد يوسف عدس، مكتبة الإمام البخاري للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، القاهرة، 2009.
- البوسنة، نويل مالكوم، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1997.
- م. الأرناؤوط: «دور الوقف في نشوء المدن الجديدة في البوسنة (سراييڤو نموذجًا)»، (مجلة أوقاف)، (8)، ربيع الأول 1426هـ/ مايو 2005، 47- 56.