كان العام 63 ق.م في القدس فاصلاً بين تاريخين، بعدما زحف فيه القائد الروماني «بومبي» (106-48 ق.م) ليستولي على أورشليم «بيت المقدس»، ليبدأ تاريخ الحُكم الروماني لفلسطين، بعد أن كانت تابعة للدولة السلوقية إحدى وريثات إمبراطورية الإسكندر الأكبر، والتي تم تقسيمها بعد وفاته على عدد من قادته[1]، منهم سليوقس الأول مؤسس الدولة السلوقية التي ضمّت مساحات شاسعة في الشام وآسيا الصغرى، وبطلميوس الأول «سوتير» مؤسس الدولة البطلمية التي كانت مصر من نصيبها، بجانب ساحل شمال أفريقيا وجُزر البحر المتوسط.

حين دخل الرومان فلسطين وجدوا حالة حضارية نادرة؛ فقد كان سكان القدس في بداية الفترة الرومانية خليطًا من اليهود والإغريق والسوريين والعرب والمصريين، وكانوا يتحدّثون بلغاتٍ مختلفة، وإن كان أكثر السكان يتحدث اللغة الآرامية التي كانت في ذلك الوقت لغة التخاطب في كثير من أقاليم غربي آسيا.

شغلت فلسطين مكانة خاصة بين ممتلكات روما في الشرق، فهي همزة الوصل بين دُرتي المملكة الرومانية في الشرق؛ مصر وسوريا، لهذا ألزمت السياسة الرومانية فلسطين بأن تكون هادئة دائمًا كيلا تُصدِّر أي مُشكلات لجارتيها، لذا جعلها بومبي جزءًا من مقاطعة سوريا الرومانية، لكنه منحها حق الإدارة الذاتية، وعين الرومان أنتيباتر الأدومي Antipater the Idumaeanحاكمًا لها، ثم في سنة 37 ق.م خلفه ابنه هيرودس (73-4 ق.م) الملقب بهيرودس الكبير Herod the Great، وهو أدومي الأصل، وحكم لأكثر من 30 عاما، واتخذ لنفسه لقب ملك اليهود، وفي فترة حكمه كان حليفًا وثيقًا للرومان.

حاكم طاغية ومجنون

كان هيرودس طاغية مستبدًا، ثريًا وقويًا، ويُعاني من جنون العظمة، قمع بقسوة كل بادرة من بوادر السخط وقتل كل خصم محتمل له، وهو أيضًا مَن تُنسب له واقعة قتل كل أطفال بيت لحم الذكور وقت ميلاد المسيح، وفقًا لما ذُكِرَ في الأناجيل، كما قتل كثيرًا من الناس، ومنهم زوجته وثلاثة من أبنائه، ومع ذلك حظي هيرودس بدعم الإمبراطور الروماني «أغسطس قيصر Augustus Caesar»؛ ربما لأنه كان جلادًا استطاع أن يرغم الشعب على الإذعان للاحتلال، كما فرض على السكان ضرائب ثقيلة، وفي المقابل اهتمَّ هيرودس بالجانب المعماري لبلاده؛ فبنَى المسارح، والحمامات العامة، والقصور الملكية، كما بدأ في ترميم معبد أورشليم وتزيينه.

هيرودس الكبير حاكم فلسطين وقت ولادة المسيح

عرفت فلسطين في زمن هیرودوس السخط الشديد ضد التبعية لروما، وحدث مرة رفض فيها الناس علانية تنفيذ أوامر هيرودس بعدما امتنع 6 آلاف من أتباع التيار الفريسي، وهم طائفة يهودية متشددة سأتحدّث عنهم بشكلٍ مفصّل لاحقًا، عن تأدية يمين الولاء لهيرودوس وأغسطس فأعدم عددًا كبيرًا منهم، وفي العام 4ق.م مات هيرودس، وكان موته إيذانا باشتعال انتفاضة مسلحة في الجليل أولاً، ثم جنوبي فلسطين.

وهنا يجب التأكيد على أن ميلاد يسوع الحقيقي كان قبل بدء التقويم الميلادي الذي نعرفه اليوم بفترة تتراوح مدتها من أربع إلى سبع سنوات، فقد وُلِد المسيح في آخر عهد هيرودس، الذي كان يقترب من السبعين عامًا حينها، لذلك لا عجب في معرفة أن هيرودس مات سنة 4 قبل الميلاد، رغم أنه عاصر المسيح طفلاً.

هذا الخطأ في التقويم كان سببه فرق حساب سنة ميلاد المسيح، بعدما افترض الراهب الإيطالي ديونيسيوس إكسيجونوس Dionysius Exiguus أن السيد المسيح وُلِدَ عام 754 لتأسيس مدينة روما، ثم لاحظ لاحقًا بعض المؤرخين، مثل المؤرخ اليهودي يوسيفوس، أن المسيح ولد حوالي عام 750 لتأسيس مدينة روما، ورغم اكتشاف هذا الخطا إلا أنه كان من المستحيل تصحيحه حتى لا يُسبِّب ذلك ارتباكًا كبيرًا في تواريخ الأحداث التي سُجلت لاحقًا.

وفي فلسطين، حينها، كانت السامرة منطقة متميزة، وكانت عاصمة مملكة إسرائيل الشمالية، والسامريون فرقة يهودية صغيرة جدًا تقول إن جبل جرزيم المجاور لنابلس هو المكان المقدس والقبلة الحقيقية لليهود وليس القدس، ولهذا سادت بين اليهود والسامريين عداوةً كبيرة، حتى أن السيد المسيح حين أراد أن يُعلّم اليهود التسامح ومحبة القريب، سألوه مَن هو القريب فضرب لهم مثلاً بـ«السامري الصالح» الذي لم تمنعه العداوة من فِعل الخير مع اليهودي المصاب، في إشارة واضحة لمدى تأصُّل العداوة بينهما.

اليهود في زمن المسيح

بسبب الاحتلال الروماني لفلسطين، ظهرت في القرن الأول قبل الميلاد حركة «الزيلوتيين»، أي «الغيوريون»، وهي حركة راديكالية هدفت إلى التخلص من احتلال الرومان، وكان داخل هذه الحركة جناحًا مسلحًا يُسمَّى «السيكاريون Sicarii»، أي حاملي الخناجر، لأنهم لجأوا إلى مقاومة الرومان متبعين أسلوب الاغتيالات الفردية بِاستخدام الخناجر. وكان هؤلاء الزيلوتيون ينتمون إلى الشريحة المهمشة من سكان فلسطين.

وبجانب هذه الحركة أو الجماعة السياسية المقاومة للرومان، كان هناك جماعات وتيارات دينية يهودية أخرى مثل:

الهيرودسيون: كانوا على النقيض من الزيلوتيين، فقد كانوا في ولاء شديد لهيرودس، وكانوا يبذلون جهودًا لإقناع الشعب بموالاة الرومان ودفع الجزية لقيصر.

الفريسيون: فريسي أي «مفرز»، فهم كانوا يعتبرون أنفسهم «مفروزين» عن الشعب، وهم فئة تضم كهنة وعلمانيين، كان لهم نفوذ قوي على عامة الناس، وكان هدفهم الأساسي هو حفظ وحماية الناموس، وذلك بصنع قوانين أكثر صرامة من الناموس نفسه، وكانوا يؤمنون بقيامة الموتى والحياة بعد الموت ووجود الملائكة والشياطين، قدِّر عددهم بـ6 آلاف فرد في زمن هيرودس.

الصدوقيون: هم الطبقة الأرستقراطية بين اليهود، وكان رؤساء الكهنة منهم، وعملهم هو المحافظة على الهيكل والضرائب ومراقبة الخزائن، وكانوا لا يؤمنون بالقيامة ولا الأرواح ولا الملائكة.

وأخيرًا، الكتبة: هم كتبة الشريعة ومفسروها، وهم خبراء الناموس، وعملهم كان مكملاً لعمل الفريسيين.

وبجانب كل هؤلاء كان هناك عامة السكان في فلسطين الذين لا ينتمون لأيٍّ من الطوائف المذكورة أعلاه، ومنهم كان معظم أتباع يسوع.

فلسطين وقت الميلاد

خريطة فلسطين زمن السيد المسيح

سادت في البلاد حالة من التذمر، بسبب كثرة الضرائب التي فرضتها الإمبراطورية الرومانية على الأهالي، وقامت قبل ميلاد المسيح مباشرة، بأيامٍ قليلة، ثورة مناهضة للاحتلال، قادها شخص يُدعَى يهوذا الجليلي بعد الاكتتاب الشهير، وهو التعداد السكاني، الذي تمَّ فيما بين عامي 7-4 ق.م حين أصدر أغسطس قيصر أوامره بالإحصاء العام.

ظنَّ أهل فلسطين أن هذا الإحصاء ستتبعه ضرائب جديدة فأحجموا عن المشاركة فيه بفاعلية، كما رفضوا أيضًا عبادة الإمبراطور التي حاول الرومان فرضها عليهم، فاشتعلت في فلسطين ثورة كبيرة قتل فيها الآلاف من المحتجين[2].

تخوف الشعب الفلسطيني من كثرة الضرائب الرومانية وتنظيمه الثورات ضدها خلق حالة من التوجس لديهم تجاه أي رسوم مالية يُقدِّمونها إلى روما، وهي الحالة التي استغلّها الفريسيون، وحاولوا بها اقتناص خطأ للسيد المسيح، من خلال سؤاله أمام الناس عن موقفه من تلك الضرائب، فنقرأ في إنجيل متى:

حينئذ ذهب الفريسيون وتشاوروا لكي يصطادوه بكلمة، فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيرودسيين قائلين: «يا معلم، نعلم أنك صادق وتعلم طريق الله بالحق، ولا تبالي بأحد، لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس، فقل لنا: ماذا تظن؟ أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟» فعلم يسوع خبثهم وقال: «لماذا تجربونني يا مراؤون؟ أروني معاملة الجزية»، فقدموا له دينارا، فقال لهم: «لمن هذه الصورة والكتابة؟» قالوا له: «لقيصر» فقال لهم: «أعطوا إذا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» فلما سمعوا تعجبوا وتركوه ومضوا.

كم مسيحًا قبل المسيح؟

المسيح في الفكر اليهودي هو الممسوح بالزيت المبارك، وهو طقس المباركة أو النذر، حيث ينذر الشخص الممسوح لهداية الناس، فيصبح مسيحا، وكان الأحبار والأنبياء يُسمَّون من أجل هذا مسحاء الله، وتنهى التوراة عن المساس بهم كما جاء في الإصحاح السادس عشر من سفر أخبار الأيام الأول: «لا تمسوا مسحائي، ولا تُؤذوا أنبيائي»، وكان ملوك اليهود أيضا يمسحون ويأخذون ذات اللقب «مسيح».

أما المسيح المخلص، فكان الإيمان به على أشده في الفكر اليهودي خلال هذه الفترة، وكان اليهود في انتظار المسيح المخلص الموعود، وفقًا لنبوات العهد القديم، وفي سبيل ذلك، كانوا في حالة ترقب دائم لظهور أنبياء بينهم، ولا يعتبرون ظهورهم أمرًا غريبًا، وأسفار العهد القديم تمتلئ بنبوات كثيرة تعد بقدوم المسيح أو المسيا الذي يخلص الشعب، وكانت له صور كثيرة في أذهانهم، منها أنهم تخيلوه ملكًا تخضع له الملوك، وتدين الأمم لسلطانه، وكثيرًا ما كانت تجوب دروب فلسطين وطرقاتها أعداد من الدعاة والواعظين يُبشِّرون بقرب مجيء (المسيا – المخلص: مسيح الرب)، كما تجاسَر البعض وأعلن أكثر من واحدٍ أنه هو المسيح المنتظر، وأن مياه نهر الأردن تنشق أمامه، ومن يتبعه ينال الخلاص، دون أن تُحقِّق هذه الدعوات زخمًا يُذكر.

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنه لم يكن في ذلك ثمة تصورات واحدة عن شخصية مسيح الرب ودوره، فقد تخيلوه إما قائدًا عسكريًّا ظافرًا، أو ملكًا من سلالة داود، وإما «ابن الإنسان» مرسلاً من فوق، كما جاء في سفر النبي دانيال، وهو الذي يعني مجيئه نهاية هذا الجيل، وقيام يوم الحساب الإلهي، الذي يتلوه «سماء جديدة وأرض جيدة» وكان هذا التصور عن المسيا، هو الأكثر شيوعًا في القرن الميلادي الأول في الأوساط الشعبية الفلسطينية[3].

الحياة في الجليل

في هذه الأجواء الصاخبة، عاشت عائلة يسوع، المكونة من أمه مريم ويوسف النجار خطيبها، في مدينة الناصرة، في مقاطعة الجليل، وكانت قرية صغيرة تراوح عدد سكانها بين 100 و200 فرد، وهو عدد بالغ الضآلة إذا ما قُورن بسكان القدس الذين اقترب عددهم حينها من 25 ألف نسمة. معنى الجليل «الدائرة». وفي هذا الوقت كانت الجليل جزءًا من أقاليم الشاطئ الشمالية التي عُرفت في التاريخ القديم، أي زمن العهد القديم، بِاسم كنعان، وقد أطلق عليها اليونان اسم «فينيقية».

اشتهرت كنعان قديمًا بالموانئ الجيدة لوقوعها على طريق التجارة من البحر الأبيض إلى خليج فارس إلى أقصى المشرق، ومنها موانئ صيدا وصور وحيفا، ولذلك كانت الجليل مليئة دائمًا بالسياح، وتوثقت صلاتها بجميع الحضارات الإنسانية، وراجت فيها الصناعات والمعارف العلمية والنظرية، ولا سيما المعارف التي لها علاقة بالملاحة كفن بناء السفن، ورصد الكواكب، والكتابة، حتى أن تجار الفينيقيين وملَّاحيهم هم الذين نشروا الأبجدية في بلاد البحر المتوسط، ومنها انتقلت إلى سائر الأمم الأوروبية.

وبسبب هذه الطبيعة الخاصة لمنطقة الجليل، كان اليهود المقيمون فيها يختلفون في عاداتهم وطباعهم عن باقي اليهود، وسبَّب هذا كراهية متبادلة بينهم وبين باقي أبناء ملتهم في عموم فلسطين، وهذا سبب المقولة التي جاءت على لسان أحد تلاميذ المسيح قبل إيمانه في إنجيل يوحنا، والتي استنكر فيها ظهور المسيح في الناصرة، قائلاً: »أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟».

إلى بيت لحم

هي قرية صغيرة تبعد عدة كيلومرات عن أورشليم، وكان حولها مراع شاسعة يسرح فيها الرعاة بأغنامهم، ومعنى الاسم بالعبرية «بيت الخبز»، وفيها حدثت مذبحة الأطفال الأبرياء الذين قتلهم هيرودس الملك، حين أخبره المجوس أن النجوم تشير إلى أن ملك اليهود المنتظر قد ولد بها.

وقبل وقت الميلاد بعدة أيام ذهب يوسف النجار ومعه مريم إلى مدينة بيت لحم، حيث الجذور العائلية القديمة، بغرض المشاركة في الاكتتاب، المشار إليه سابقًا في عهد أغسطس قيصر، والذي كان يجري في كل أجزاء الإمبراطورية، وكما يذكر إنجيل لوقا: »وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد«، فهناك إذن في بيت لحم، أرض الجذور، ولدت مريم يسوع، وكان الميلاد الذي غيّر وجه الكُرة الأرضية، ويحتفل البشر بمناسبته كل عام.

فسيفساء بيزنطية من العصور الوسطى تصور ماري ويوسف يسجلان في التعداد السكاني
المراجع
  1. مصر من الإسكندر الاكبر إلى الفتح الإسلام، تأليف: دكتور مصطفى العبادى
  2. حياة المسيح، عباس محمود العقاد
  3. المسيحيون الأوائل والإمبراطورية الرومانية – خفايا القرون، تأليف: إ. س. سفينسيسكايا، ترجمة: حسان مخائيل إسحق