ميلاد المقدس المسيحي: كيف وُلد المسيح من رحم أيوب؟
في العام 1952 أصدر عالم النفس السويسري «كارل يونج» كتابه «جواب أيوب» (بالألمانية: Antwort auf Hiob) الذي تُرجم إلى العربية تحت عنوان «بين يهوه وأيوب»، والذي يَعتَبِرُ أن دراما «سفر أيوب» قد أحدثت تحولًا جذريًّا في مفهوم المقدس الإبراهيمي، وارتقت بالألوهة من منزلتها الحيوانية الممثلة في الطباع البدائية والغريزية ليهوه، إلى منزلة أسمى ممثلة في شخص «المسيح» من حيث هو تجسيد إنساني للألوهة.
ويتناول هذا المقال القراءة النفسية التي قدمها يونج لسفر أيوب، لا باعتبار أن سردية هذا السفر هي تعبير عن «حدث تاريخي»، وإنما باعتبارها تعبيرًا عن «حدث نفسي» يلتقي فيه الوعي (أيوب) باللا وعي (يهوه) من خلال المعالجة السردية التي قدمها كتبة العهد القديم أنفسهم في ذلك الزمان؛ فسفر أيوب هنا بمثابة المرآة التي تنعكس عليها صورة المقدس المتوترة داخل الأعماق النفسية لهؤلاء الكَتَبَة، أكثر منه تقريرًا بحقيقة تاريخية واقعة.
الهزيمة الأخلاقية للمقدس: يهوه في مرآة أيوب
يَعتَبِر يونج أنَّ نقطةَ التَّحولِ الدِّرامية في شخصيَّة الإله «يهوه» حدثت مع سفر أيوب، ففي هذا السفر تنكشف العقدة الدرامية وتنحل في الوقت نفسه. فأيوب عبد صالح يعاني أشد ألوان العذاب والتنكيل من إله لا قِبلَ له به، فقط لمجرد أن الشيطان قد أوغر صدر هذا الإله نحوه يومًا ما بقوله: «هل مجانًا يتقي أيوبُ اللهَ؟». [1]
إن المفارقة التي يكشف عنها سفر أيوب هي أن إله سفر التكوين عظيم القدرة والذي خلق السماوات والأرض والجبال والبحار والنجوم، هو نفسه الإله الذي يسقط بسذاجة في فخ الشيطان دون أن يكون حتى قادرًا على التَّيقن من قلب عبده وإخلاصه له، فصحيح أن إله العهد القديم إلهٌ «كلي القدرة»، لكنه ليس إلهًا «كلي المعرفة».
يدرك أيوب هذه المفارقة؛ فهو يعترف بضعفه الوجودي اللا متناهي أمام يهوه، لكنه يتمسك بإيمانه به كآخر ما يتبقى له في مواجهته؛ إذ يتضرع إليه بصبر لا ينفد وبثقة لا تتزعزع في «خيريته»، موقنًا أنه هو عونه الوحيد في مواجهته. فأيوب يعرف ربه، ويصر بإيمانه على الرَّبط بين «المطلق» من جهة وبين «الخير» من جهة أخرى. وبالتالي فهو يعرف الخير على أتم وجه، ومن ثم يعرف الشر بالقدر نفسه، وهي المعرفة نفسها التي تَخفى على يهوه.
في ظل هذا المعطى يعيد يونج تأويل سيرة يهوه منذ البداية، أي؛ من سفر التكوين، حيث تتحول آيات هذا السفر من آيات افتتاحية تصف عملية خلق إعجازية لـ «إله خالق»، إلى آيات تفضح موقف «إله مفتون» يستعرض قدرته على خلق الكون بكبرياءَ وتغطرس لا مبرر لهما في مواجهة مخلوق ضعيف وهش كالإنسان. إن الإله الذي قرر (في العهد القديم) أن يترك للإنسان مساحة السرد كيما يؤدي فيها دور البطولة تحت إشرافه باسم «النبوة» (انظر المقال السابق)، ما يفتأ يُظهِر اضطرابًا وقلقًا تجاه تأدية الإنسان لهذا الدَّور، ومن ثم ندمًا على خلقه، بل غيرةً وانتقامًا منه في لحظات كثيرة. [2]
ففي البدء -وكنوع من التَّكريم والإعداد لأداء دور البطولة السردي- يخلقُ الإلهُ آدمَ على صورتهِ؛ فصورة آدم تكافئ صورة الله (في كليته). لكن سرعان ما ينزع يهوه عن الإنسان هذه الصورة بتمزيقها إلى نصفين؛ فالإله الذي لا جنس له، يشطُر الإنسانَ إلى ذكر وأنثى (آدم/حواء)، يَقْسِمَهُ إلى نصفين متعارضين لا يبلغان الكمال في واحدٍ أبدًا، بل إن لحظات الجِماع العابرة بين هذين النصفين: آدم وحواء، لا تكافئ الألوهة، لأن فعل الجنس لا يمكن له أن يحاكي فعل الخلق؛ فمن صنعته يد الرَّب، ليس كمن جاء من اتحاد ذكر بأنثى. لذلك يعدُّ أبناء آدم وحواء أقل ألوهة وأكثر بشرية من آدم وحواء نفسيهما. وبالتالي يتدنى هابيل وقايين (أو قابيل بالتسمية الإسلامية) إلى مرتبة وجودية ثانوية. آدم هو «مثال الله وصورته الأولية»، وحواء هي «مثال الطبيعة»، بينما هابيل هو «ابن الله ومثال الخير»، وقايين هو «ظل الشيطان ومثال الشر».
بهذه الطريقة لا يعود الإنسان الذي خلقه يهوه على صورته «واحدًا» كما كان في البدء، بل يتمزق إلى أربعٍ؛ تارة باسم الجنس (ذكر/أنثى)، وأخرى باسم الأخلاق (خير/شر). وزيادة في حط يهوه من مقام ذلك الإنسان، يُضحي بابنه هابيل الذي يُقتَلُ على يد قايين، لينتصر الشر على الخير. وهنا يتحول تكريم آدم (في سفر التكوين) بخلقه على صورة الله إلى مجرد حدث أولي عابر يتبعه الإله بعمليات انشطار متتالية تُسقِط الإنسان في عالم «النقص»، وتباعد بينه وبين «الكمال» الذي يبقى حكرًا على إلهٍ متعجرف.
يتمثَّل «كمال» يهوه في «تناقضه» لا «انقسامه»، إذ تختلط فيه الأضداد، فهو مزيج متخامر يغيب عنه الجوهر الطبيعي والأخلاقي معًا؛ فلا هو بالذكر ولا هو بالأنثى، ولا هو بالخيِّر ولا هو بالشرير. [3]
إنه كليَّة هائلة ممتلئة إلى أقصاها، بلا جوهر، ذو أوجه متلاطمة، يُهيمن على العالم، وتُهيمن عليه نزواته وانفعالاته. فيما يتمثل «نقص» الإنسان في الجانب الطبيعي، والجانب الأخلاقي؛
- الأول، يحدد وجوده في جنس بمعزل عن الجنس الآخر، إما ذكر أو أنثى، ويـ/تبقى «الخنثى» منبوذ/ة وملعون/ة لأنه/ا يـ/تطابق صورة المقدس من حيث اللا جنس أو اجتماع الجنسين معًا.
- الثاني، يمزِّقه بين عالمين عليه الاختيار بينهما؛ عالم الخير أو عالم الشر، ولا معنى للحياة دون التمييز بينهما.
لم يُولِّد هذا التَّعارض بين يهوه (الكامل) وبين الإنسان (الناقص) تنافرًا أو صراعًا، بل ولَّد نوعًا من الاستقطاب والتجاذب بينهما. فاختيار يهوه (وبحسب سفر التكوين) للإنسان وحدهُ من دون كل المخلوقات ليكون على صورتهِ، قد أسس لعلاقة «مرآوية» بين المقدس والإنسان، فكلاهما أصبح يتَكشَّف لنفسه في مرآة الآخر. هذا «التَّعاكس المرآوي» شكل حجر الزاوية في تأسيس نمط نفسي جديد للإيمان يتميز بالحركية (صعودًا وهبوطًا)؛ فالذي يميز يهوه (إله اليهودية) عن زيوس (الإله الإغريقي) مثلًا هو أن يهوه يكترث بحق إلى إيمان الإنسان وإلى ولائه، حتى أن شيئًا لن يثنيه عن ابتلائه ليتيقن من ذلك، بينما لا يبالي إله كزيوس سوى بخشية الإنسان وتبجيله له لا أكثر.
إنَّ انشطار «آدم» إلى «آدم وحواء»، وقتل قايين لهابيل، وتدمير الأرض بالطوفان وغيرها من لعنات وثورات يهوه الجامحة على بني إسرائيل والبشر، جميعها سرديات تعكس وجه يهوه الغادر والشرير تجاه الإنسان، وليست قصة أيوب أكثر من استمرار للنهج السردي نفسه المُتَّبع منذ البداية، إلا أن ما تَتَفتَّقُ عنه هذه القصة من جديد والذي يميزها عن غيرها بالتحديد، هو ذلك المسعى الإيماني اللا متناهي من أيوب للتَّمسك بوجه يهوه الخيِّر (رغم كل هذا الشر والفتك غير المبررَين) والذي يُتَوِّج المساعي الإيمانية السابقة على مخاطبة ذلك الوجه من يهوه بإصرار منقطع النظير. ويصف يونج هذا المسعى على النحو التالي:
«ولعل هذا كان أعظم ما في أيوب، فهو، وعلى الرغم من كافة الصعوبات التي يمر بها، لم يُساوره ريبٌ في وحدة الله. إنَّه يرى وبوضوح تام، أن لله تناقضاته، وهي تناقضات مطلقة، إلى الحد الذي يجعل أيوب موقنًا أنَّه سيُعينه ويُدافع عنه أمام يهوه. وبنفس المقدار من اليقين بالشر الموجود لدى يهوه، فإن أيوب أيضًا موقن بوجود الخير… كل واحدة من هاتين الصفتين هي حقيقة بمقدار الصفة الأخرى… ونظرًا لإدراك أيوب لهذه الحقيقة، فإنه يبقى مصرًا على أن يدافع عن أساليبه أمامه، أي يوضح له وجهة نظره. لأن يهوه وبصرف النظر عن سخطه وغضبه، هو عون للإنسان لمواجهة نفسه، إذا ما تقدم منه الإنسان شاكيًا». [4]
إن الارتباك الذي يكتنف سلوك يهوه تجاه أيوب، يقابله أيوب بإيمان راسخ في خيرية يهوه من الجهة الأخرى. يدرك يهوه في مرآة أيوب أنَّ إلهًا متقلبًا ومزاجيًا وغيورًا لا يُحابي سوى شعبه المختار لا يمكن أن يكون إلهًا أخلاقيًا، وأنَّه إذا أراد أن يكون كذلك؛ فإن عليه أن يتخلى عن انفعالاته العمياء وطباعه الغرائزية التي تجعله أقرب إلى صورة «الحيوان»، من أجل أن يولد من جديد في صورة «الإنسان» بوصفه ذلك الكائن الأرقى الذي كشف له عن عجزه الأخلاقي المدوي، من خلال قدرته الإيمانية على الربط بين «الخير» وبين «المطلق»، ومن ثم التسامي بفكرة الخير، وتحويلها من «عَرَضٍ» إلى «مبدأ» يرتبط وجوده بوجود الإله نفسه.
ربما يبدو صحيحًا أن يهوه كاملٌ، وأن الكمال يتفوق على النَّقص في فكرة «الإطلاق»، لكن فضيلة النقص على الكمال تكمن في قدرته على «التَّطور». ومثلما أن وجود يهوه قد فتح لأيوب بابًا لمعرفة «المطلق»، فقد فتح إيمان أيوب ليهوه بابًا لمعرفة «الخير» في المقابل. الآن فقط هُزم يهوه أخلاقيًا، وسيغادر طبيعته الحيوانية، لأن القوة وحدها لن تجعل منه سوى «ملكًا للغابة»، ليرتقي بتوجُهِهِ نحو طبيعة الإنسان «سيد الأرض»، حيث ستجعل معرفة الخير منه «سيد الكون». الآن أصبح ممكنًا للإله أن يترقَّى! الآن أصبح ممكنًا للإله أن يتأنسن! لكن كيف؟
أنسنة الإله: ميلاد يسوع المسيح
كان آدم معادلًا لصورة الله في العهد القديم، إلا إنه لم يَتَعَدَّ كونه في جميع الأحوال نسخة مشتقة من الإله لا أكثر، يَتْبَعُ الإلهَ أكثر مما يَتْبَعَهُ الإلهُ، وانقساماته اللاحقة إلى ذكر وأنثى وخير وشر (كما مثلتها أساطير العهد القديم) هي انعكاسات لتناقضات يهوه الداخلية – كما رأينا سابقًا.
ستنقلب هذه الآية الآن رأسًا على عقب ويصير على يهوه بعد اعترافه بالهزيمة أمام أيوب أن يجعل الإنسان نصب عينيه، وأن يشتقَّ لنفسه وجودًا جديدًا من خلاله، وأن يتجسد فيه لحمًا ودمًا ليفارق نفسه القديمة بلا رجعة. وقد مثل «المسيح» ذلك المخرج. فالمسيح ليس معادلًا لصورة الله كآدم، لكنهُ هو الله نفسه في صورة بشر.
كان آدم نسخة من الله، لكن المسيح (الله) هو نسخة من الإنسان، فالأصل هذه المرة هو الإنسان والاشتقاق هو الله. بهذا المعنى يتحول «الإيمان المطلق» لأيوب في خيرية يهوه والصاعد إليه، إلى «الخير الإلهي غير المشروط» من المسيح تجاه جميع البشر والنازل إليهم. وتتحول بطولة الإنسان بالوكالة (النبوة) في السرد التوراتي إلى بطولة مطلقة في السرد الإنجيلي يكون الإنسان فيها هو الإله نفسه.
هذا التعاكس بين الإنسان والإله على سطح مرآة السرد في العهد القديم يمثل أيضًا تعاكسًا سيكولوجيًا بين الوعي واللا وعي؛ حيث تتشكَّل مع سفر أيوب معالم مركز جديد للشخصية الدينية الإبراهيمية، فتتحول قصص الأنبياء والصالحين (في الوعي اليهودي) من متفرقات سردية نشأت بإزاء الماضي (الأساطير البابلية والمصرية والكنعانية القديمة)، إلى وحدة سردية تستشرف معالم مستقبل مُنتَظَر يتضح بجلاء كلما خطونا خطوة نحو الأمام. فالآن يمكن لروح الله المبثوثة في أبطال العهد القديم أن تُرى، وأن تتحول أحداثه إلى «بشارات» تمهِّد لميلاد المسيح. فالمسيح هو غاية العهد القديم اللا واعية التي سيطرت على كَتَبَتِهِ وابتلعتهم دون وعي منهم، إلى أن جاءت لحظته كإشراقة صوفية تَفَجَرَ عنها الرُّوح، وتَمكَّن الوعي أخيرًا من الإمساك بها بعد طول انتظار.
إن ميلاد إله أخلاقي يعرف الخير والشر بالسهولة نفسها التي يخلق بها الكون لا يمثل فقط ميلادًا جديدًا للمقدس، وإنما أيضًا ميلادًا جديدًا للوعي الإنساني. والتسامي بمبدأ الخير والحب غير المشروط لجميع البشر هو مركز ذلك الوعي. لقد صار العهد القديم الآن عهدًا جديدًا.
- سفر أيوب، 1: 9.
- «فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ، وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ»، سفر التكوين، 6: 6.
- كارل يونج، بين يهوه وأيوب، دار الحوار، ص31.
- كارل يونج، بين يهوه وأيوب، مرجع سابق، ص31.