كيف تنقذ حياة مريض بجلطة في القلب؟
لم يستطِع الرجل الأربعيني أن يتمالك نفسه وهو يعبر باب المستشفى محاطًا بأهله واقفًا على قدميه. اغرورقت عيناه بالدموع، وارتسَمَ على وجهه مزيج من التأثر والرضا عندما قارن في عقله بين حاله الآن، وحاله منذ 3 أيام عندما عبر نفس الباب في الاتجاه الآخر محمولا على محفة الإسعاف.
شعر أنه أفلت من قبضة الموت بأعجوبة. بدأ كل شيءٍ على حين غرة وهو يتنزه مع أسرته. شعر كأن جبلاً ظهر من العدم، وأطبق على منتصف صدره، حتى يكاد يسمع قلبه يصيح «أحد . أحد» !. انهمر عرقه كالمطر، وشعر بغثيان ودوار شديديْن. لم يستطِع أن يتحامل على نفسه، ويتكتَّم على الألم الثقيل الذي يسحق صدره دون هوادة لأكثر من ربع ساعة .. وبدأ يصرخ ألمًا.
شعر بامتنان كبير كلما تذكر الشاب الذي كان يمر بجوارهم في تلك اللحظة، والذي قصدهم عندما سمع صراخه ورآه يسارع بالجلوس على الأرض.
« هل هو مريض بالقلب » هكذا سأل الشاب أسرته، فردوا بالنفي … «أخشى أن تكون ذبحة صدرية أو جلطة بالقلب، أنا لست طبيباً، لكن في دورة الإسعافات الأولية التي أخذتها منذ فترة كان هذا هو السبب الأرجح للألم في منتصف الصدر المصحوب بالعرق الغزير .. ولذا لا ينبغي التأخر ثانية واحدة قبل أن يحدث ما لا يُحمد عقباه».
طلب منه الشاب أن يظل جالسا دون بذل أي مجهود. واتصل ابنه بالإسعاف التي وصلت بعد أكثر من ربع ساعة، وحملته إلى أقرب مستشفى للطوارئ.
ليست هذه جولتنا الأولى مع أمراض القلب، ولن تكون الأخيرة. فنحن الآن في زمن ازدهار أمراض القلب، حتى فاقت الحروب والحوادث في أعداد ضحاياها ومصابيها.
وهذه هي محطتنا الثالثة من سلسلة «ماذا تفعل لو»، والتي تهدف إلى تبصير غير المتخصصين، والأطباء الجدد بكيفية التعامل مع الحالات الطارئة التي يمكن مصادفتها في أي مكان. كانت محطتنا الأولى مع أخطر حالات مرض السكري الذي يعاني منه الملايين. وفي المحطة الثانية واجهنا حالات الإغماء المفاجئة التي قد تصادفنا في طريقنا هنا أو هناك، وبحثنا في أهم السيناريوهات، والتي كان أخطرها على الإطلاق سيناريو التوقف المفاجئ لعضلة القلب Sudden cardiac death. والذي سنبدأ به جولتنا هذه المرة.
طاعون العصر الحديث
ومصطلح أمراض القلب واسعٌ للغاية، ويتمدد كل يوم. لكن الركن الركين لطب القلب هو أمراض الشرايين التاجية المغذية للقلب coronary artery diseases، حيث تغرق حياتنا المعاصرة غير الصحية حتى الثمالة في عوامل الخطر المؤدية إليها. فالطعام غير الصحي كثيف الدهون المشبعة وسعراته الزائدة عن الحد، والسمنة المفرطة، والعزوف عن الرياضة، وانتشار مرضي السكر والضغط، وثالثة الأثافي مرض التدخين.
كل هذا يؤدي إلى تراكم الدهون الضارة في جدران الشرايين وحدوث التصلب المبكر atherosclerosis، والذي هو الآلية المرضية الرئيسة المسببة لأمراض الشرايين التاجية. إذ يُتلف البيئة الداخلية للشرايين، كما يسبب ضيقها، ويؤدي إلى تضخم خلاياها العضلية، فتفقد مرونتها. كما يؤدي إلى فقدان بطانة الشرايين لوظيفتها ونعومتها الطبيعية endothelial dysfunction، فتسبب حدوث الجلطات داخل الشريان.
وانتشار هذه العادات الحياتية الخطرة هبط كثيرا بمتوسط أعمار المصابين، حتى أصبحنا نشهد شبابا في الثلاثين والعشرين نزلاء بعنايات القلب الفائقة لإصابتهم بجلطات حادة في الشرايين التاجية acute coronary syndrome بمختلف درجاتها.
وقد تناولنا قصة جلطات القلب في الشباب في تقريريْن سابقيْن:
مرض العصر .. قلوب شابة في مرمى الموت.
قلوب شابة في مرمى الموت .. هل يعودون من البرزخ ؟
توقف عضلة القلب sudden cardiac death
هذا هو أخطر حالات الطوارئ على الإطلاق. فهي التي ينطبق عليها تمامًا مقولة ( بين الحياة والموت). أسبابٌ مرضية عديدة يمكن أن تنتهي إلى توقف عضلة القلب، وأشهرها في طب القلب، احتشاء – تضرر – عضلة القلب الحاد الناتج عن جلطة تسد أحد الشرايين التاجية للقلب acute myocardial infarction. فنسيج القلب الحساس، المليء بالأنسجة العصبية، عندما ينقطع عنه الدم، يتعرض لاختلالات كهربية حادة قد تؤدي إلى اضطرابات خطيرة في نبض القلب arrhythmia، وأكثرها خطورة الرجفان البطيني Ventricular fibrillation VF وهو من أنواع توقف القلب.
والتعامل السريع مع الحالة كما وضّحنا بالتفصيل في الجزء السابق من السلسلة واجب حيوي.
جلطات الشريان التاجي الحادة acute coronary syndrome
باختصار، تنقسم إلى ٣ أنواع: ( حسب رسم القلب الكهربائي ECG ، وتحليل إنزيمات القلب )
- جلطة تغلق الشريان جزئياً، دون ضرر بنسيج القلب. تسمى ذبحة صدرية غير مستقرة unstable angina.
- جلطة جزئية، لكن يصحبها ضرر بنسيج القلب. تسبب احتشاء ( تضرر ) غير كامل بعضلة القلب NSTEMI.
- جلطة كاملة، ويصحبها ضرر بنسيج القلب. تسمى احتشاء كامل بعضلة القلب STEMI.
وجميعها حالات طارئة، تحتاج إلى المتابعة في عناية القلب CCU، خاصة النوعين الأخيريْن.
العلامة الأولى هي ألم الصدر. خاصة لدى مريض بقصور شرايين القلب، أو يعاني من عوامل الخطر التي ذكرناها بالأعلى.
والألم الذي يهمنا يمتاز بنقطتين أو ثلاثة من الثلاثة التالية، خاصة إذا استمرّ أكثر من ربع ساعة..
- ألم ثقيل أو إحساس بضيق شديد في منتصف الصدر، ويمكن أن ينعكس referred على الكتف الأيسر، أو الأيمن. أو العضد الأيسر، أو الفك السفلي، أو الظهر. وغالباً ما يصحبه عرق أو ميل للقيء أو ترجيع، أو ضيق في التنفس.
- يزيد مع بذل أي مجهود عضلي.
- يقل ولو جزئياً مع الراحة، وأقراص مشتقات النيترات التي توضع تحت اللسان.
أهم التعليمات الواجبة في حالة الاشتباه بهذه الجلطات
- يمنع المريض من عمل أي مجهود، حتى المشي. ويجلس في مكانه، ونختبر استمرار الألم مع الراحة من عدمه.
- إذا مر ٥ دقائق ولم يذهب الألم، يأخذ أول قرص نيترات تحت اللسان، فإذا استمر الألم ٥ دقائق بعدها، يأخذ الثاني، ثم الثالث بنفس الطريقة.
- إذا كان للمريض سابق إصابة بأمراض الشرايين التاجية. قم بإعطائه ٣٠٠ مجم من الإسبرين مضغاً بالفم (٤ أقراص من أسبرين الأطفال). ستجده غالباً ضمن علاجه المعتاد.
- في حالة فشل أقراص النيترات الثلاثة في لجم الألم، أو في حالة توقفه مؤقتاً، ثم عودته خلال فترة وجيزة في نفس اليوم، لابد من طلب الإسعاف لنقل المريض إلى أقرب طوارئ للقلب لعمل رسم قلب، والمتابعة.
- إذا لم يتوافر الإسعاف، لابد من نقل المريض بأسرع وسيلة مريحة ممكنة إلى الطوارئ. لأن كل دقيقة تأخير تساوي تلف آلاف من خلايا القلب. وأي حركة ولو بسيطة، قد تضاعف تلف القلب. والأخطر أنه قد يحدث في أية لحظة اختلال جسيم في نبض القلب arrhythmia نتيجة الاضطراب الكهربائي في نسيج القلب المحروم من الدم نتيجة الجلطة، مما قد يؤدي إلى توقف عضلة القلب، والذي إذا حدث خارج المستشفى، خاصة في غياب وعي بالإسعافات الأولية، فإنه كارثة محققة على حياة المريض.
- إذا أصبح المريض غير مستجيب وفقد الوعي تماماً أثناء نقله، قم باستشعار النبض الوداجي carotid pulse في الرقبة، فإذا كان غائبًا، فهو توقف في عضلة القلب cardiac arrest .. ابدأ فورًا – كما بيّنا في الجزء السابق – الانضغاطات الصدرية لإنعاش المريض، لحين وصوله على وجه السرعة إلى الطوارئ.
- بعد دخول المريض إلى عناية القلب المركزة CCU، واحتاج الأطباء منك أن تكون صاحب القرار الطبي (المريض والدك مثلاً) في تدخل عاجل (كإدخاله إلى وحدة القسطرة العاجلة 1ry PCI في حالة الاحتشاء الكامل للقلب مثلاً) لأن حالته لا تسمح أن يأخذ هو قراره بنفسه. فاستجمِع أقصى ما عندك من سرعة تصرف، ولا تطيل التردد. فكل دقيقة في هذه اللحظات تساوي عمراً ومالاً وأعصاباً ووجوداً.
بعد استقرار حالة المريض وخروجه من العناية، فواجب الوقت هو الوقاية من تكرار حدوث هذه الجلطة الخطيرة، ومساعدته في ذلك تكون بالتالي
- تشجيعه على الرياضة المعتدلة التي تقوي القلب ولا ترهقه.
- مساعدته في إنقاص الوزن، وفي اتباع نظام غذائي صحي كما أوضحنا في تقرير : طعامك .. الداء والدواء.
- التأكد من تعاطيه أدوية القلب بانتظام، وبالجرعات المحددة، خاصة إذا كان من كبار السن، الذين يُخشى عليهم من النسيان، أو اختلاط الأمور. فروشتة العلاج ما بعد جلطات القلب غالباً ما تحوي ٥ أو ٦ أصناف دوائية على الأقل. والخطأ في جرعة بعضها قد يؤدي إلى فشل حاد في وظائف القلب أو سيولة زائدة بالدم، أو بطء شديد بضربات القلب …. الخ.
لن ينسى باقي عمره اللحظات الأولى لدخوله العناية. كان الرعب يهز كيانه كله. فجأة ساد الظلام وغاب تماماً عن الوعي. لا يتذكر ما حدث. لكن يتذكر إفاقته بعد دقائق، ووجه الطبيب والممرضات متسمّر على وجهه، بينما ألم صدره تحول إلى حريق مندلع.
عرف فيما بعد أن هذا الحريق كان من أثر الصدمات الكهربائية التي أنقذت حياته من الرجفان البطيني الذي أوقف قلبه!
وكانت أصعب اللحظات بعدها وهو في وحدة القسطرة العاجلة معلقاً بين الموتِ والحياة. وكان أغرب ما مر به في حياته رؤية شرايين قلبه على الشاشة، يبحر خلالها الأطباء بأجهزتهم الدقيقة!
بعد حوالي ساعة، استجمع شتات نفسه عندما أخبره الطبيب أن الشريان المسدود تم فتحه بنجاح، وتركيب دعامة داخله للحفاظ عليه. وسعد أكثر عندما سمع الأطباء يمتدحون سرعة تصرف أهله بإحضاره إلى الطوارئ سريعاً، مما زاد فرص نجاته، وفرص الحفاظ على عضلة القلب من أن تصاب بالضعف والفشل المزمن.
غمَره الامتنان مرة أخرى تجاه الشاب الذي لا يعرفه والذي طوّقه وأسرته بجميل العمر بكل ما تحمله الكلمة من معان.