يحدث أن ترفع رأسك للسماء ليلًا، في أثناء رحلة قصيرة للمنزل بعد يوم عمل مرهق وطويل، أو ربما في أثناء زيارة للجدّة في القرية البعيدة عن تلوث المدينة الضوئي، ثم في لحظة ما تسأل نفسك:

أين أنا من كل هذا البراح الواسع؟ هل يسمعني أحد هناك بالأعلى حول تلك النجمة اللامعة هناك؟ ثم، ما هو حجم كل ذلك الكون؟ إلى أية درجة يمكن أن نقول إنه واسع؟ بعد ذلك تمر تلك اللحظة لتنشغل، ربما، بجمع «الأُجرة» في الباص الصغير، أو باستكمال حديثك مع ابن العم الذي لم تره منذ شهرين.

حسنًا، لنتصوّر أننا في ملعب كرة قدم، سوف نضع كرة قدم على الخط الأبيض الذي يمثل حدود الملعب خلف المرمى، ثم سوف نتحرك معًا، بينما نتسامر حول ارتفاع أسعار الدولار ومسلسل «سترينجر ثينجز» وتحدي كيكي، تجاه المرمى الآخر، ثم نضع حبة أرز خلفه على الخط الأبيض، هنا نحن نصنع نموذجًا بسيطًا يمثل المسافة بين الأرض والشمس، إذا كانت الشمس بحجم كرة قدم، نسميها بـ «الوحدة الفلكية – Astronomical Unit»، وتساوي حوالي 145 مليون كيلومتر.

ولو وددنا أن نضع كوكب المشتري، عملاق المجموعة الشمسية، في نموذج مشابه، فسوف يكون بحجم حبة عنب مثلًا، على بعد 5 ملاعب كرة قدم كاملة، زحل سوف يكون بعد 9، وبلوتو، الكوكب القزم، سوف يكون بعد 44 ملعب كرة قدم، في صورة غبار لا يمكن أن تراه العينان المجردتان.

نحن الآن على حدود كواكب المجموعة الشمسية، لكن للوصول إلى آخر المجموعة الشمسية ككل سوف نضطر للسفر ألفي ضعف تلك المسافة لنقترب من بوابات الخروج منها، لاحظ أننا لازلنا «داخل» المجموعة الشمسية.

الآن دعنا نتصور أن الشمس هي كرة قدم موضوعة في مدينة القاهرة، هنا سوف يكون قنطورس المقدم هو كرة يد موجودة في برلين بألمانيا، هذا النجم، قنطورس المقدم، هو فقط أقرب النجوم لنا، في مجرة تحتوي على ما يقترب من الـ400 مليار نجم.


انفجار ليس بانفجار

حسنًا، كانت تلك مقدمة قصيرة تحاول أن تجهزك لهضم ما هو قادم، نحن نعرف أن أكثر الفرضيات التي نمتلكها قبولًا إلى الآن تقول إن الكون كله نشأ من نقطة واحدة غاية في السخونة، توحدت فيها كل قوى الكون الأربعة (الجاذبية، الكهرومغناطيسية، النووية الضعيفة، النووية القوية). قبل 13.8 مليار سنة حدث ما نسميه بالانفجار العظيم (Big Bang) والذي صنع كل ما نراه الآن من النجوم والغاز والغبار والمجرات والشاورما السورية الممتعة ومسلسل «بريكينج باد» وأنا وأنت ودونالد ترمب.

في تلك النقطة سوف يتبادر إلى دماغك أول الأسئلة المحيرة، حيث: إن كان الكون قد نشأ من انفجار، فأين هو مركز هذا الانفجار؟ والإجابة هنا هي «الكون كله». لفهم ذلك دعنا نتخيّل أن الكون هو جنين يتكون الآن في رحم أمه، يبدأ هذا الجنين بخلية واحدة، ثم تتضاعف بدورها لتصبح اثنتين، ثم تتضاعف كل منهما لتصبح أربع خلايا، وهكذا يستمر التضاعف ثم التمايز حتى نمتلك جسد طفل كاملًا بعد الولادة، حينما نسأل عن مركز هذا الطفل، الخلية الأولى، فإنه هو الطفل كله، لأن تلك الخلية، مثل الكون الوليد، تمددت لتصنع كل شيء نراه الآن.

في الحقيقة، تبدأ المشكلات في الظهور حينما نتصور أن الانفجار العظيم حدث «بداخل» الكون، لكن الحقيقة هي أن الانفجار هو الكون نفسه. يتخذ مصطلح «الانفجار العظيم» طابعًا سينيمائيًّا أكثر من كونه معبرًا عن حالة الكون في لحظة بدايته، فالأمر ليس انفجارًا بالمعنى المفهوم بقدر ما هو تمدد، ظهور للزمان والمكان –الزمكان – كما نعرفه، حتى أن الاستخدام الشائع لصيغة الماضي حينما نقول إنه «حدث» منذ ما يقرب من 13.8 مليار سنة غير دقيق هو الآخر، لنستخدم زمن المضارع قائلين إن الانفجار العظيم «يحدث» منذ 13.8 مليار سنة، لفهم أفضل لتلك الفكرة يمكن لك مراجعة مقال سابق للكاتب بعنوان (أخطاء جوهرية في فهم الكونيات والكوانتم، الجزء 2)


الكون كسطح كرة قدم

الأمر معقد لأن له علاقة بالأبعاد الأعلى، لكن تخيل أن الكون الآن هو سطح كرة ضخمة، إذا وضعت إصبعك على أية نقطة فيها وقلت إن هذا هو مركز سطح الكرة فإنك على صواب، في كل مرة تنقل فيها إصبعك فأنت على صواب؛ لأن سطح الكرة لا مركز له.

بالنسبة للكون فالأمر ذاته يحدث، حينما تمتلك تقنية للقفز إلى المجرة أندروميدا جارتنا والتي تقع على بعد 2.5 مليار سنة ضوئية فنحن ما زلنا في المركز، حينما نقفز من أندروميدا إلى مجرة المثلث فنحن ما زلنا في المركز، حين نصل إلى مجرة السيجار في كوكبة الدب الأكبر فنحن ما زلنا في المركز، في هذا الكون أنت دائمًا في المركز والكون كله يدور حولك.

لهذا السبب، إذا كنت تود عمل رسم توضيحي للكون عبر دائرة على ورقة، فسوف تكون عكس تصورك، سيكون المركز هو أنت الآن، بينما حواف الدائرة، كلها، هي بداية الكون، لحظة الانفجار العظيم، وما تلاها وصولًا لك، لذلك فإنه حينما ننظر عبر تلسكوباتنا إلى أي مكان غير الكون نجد أننا في كل مرة، وإن ابتعدنا مسافة كافية، نقترب من الانفجار العظيم، في أي مكان ننظر إليه.

فلك, فضاء, حجم الكون, درب التبانة

جميلٌ جدًّا، السنة الضوئية هي وحدة مسافة، بمعنى أنه إذا كانت المسافة بيننا وبين قنطورس المقدم هي 4 سنوات ضوئية، فإن ذلك يعني أنه لو انطلق شعاع ضوء من هنا، بسرعة 300 ألف كيلومتر كل ثانية، فسوف يصل بعد أربع سنوات للقنطورس.

هكذا أيضًا يمكن أن نقيس «عرض الكون»، نحن نعرف أن الانفجار العظيم بدأ قبل 13.8 مليار سنة، هذا يعني أنه يمكن لنا قياس عرض الكون عبر تصور أنه إذا كان الكون يتمدد في كل الاتجاهات، فإن 13.8 مليار سنة ضوئية هو فقط نصف قطر الكون، ويجعل ذلك من عرضه 27.6 مليار سنة ضوئية، أليس كذلك؟

ليس بالضبط، في تلك النقطة يظهر إدوين هابلعشرينيات القرن الفائت ليكتشف أن الكون ليس مجرة درب التبانة التي نعيش فيها، ولكن هناك مجرّات أخرى، جزر كونية أخرى تسكن معنا في نفس الكون، ثم يضيف هابل، بذكاء شديد، أنه حينما نرصد تلك المجرات البعيدة نجد علاقة غريبة بين سرعة المجرات والمسافة بينها وبيننا، فكلما كانت المجرة أبعد كانت سرعتها أكبر. لكي نفهم سر تلك الأحجية دعنا نتصور أن هناك ثلاث مجرات فقط في الكون، تقف بجوار بعضها البعض على مسافة سنة ضوئية واحدة بين كل منها، وتقف أنت في المجرة الأولى.

فلك, فضاء, حجم الكون, درب التبانة

فكرة هابل السعيدة

لنفترض أنه بعد يوم واحد فوجئت أن المجرة التي تليك في الترتيب قد ابتعدت عنك مسافة سنتين ضوئيتين، وحينما تأملت المجرة الثالثة وجدت أنها قد ابتعدت أربع سنوات ضوئية، بعد ذلك، في اليوم الثالث، سوف تجد أن المسافة بينك وبين جارتك قد ازدادت سنة ضوئية واحدة وأصبحت ثلاثة، لكن العجيب هو أن تلك البعيدة قد أصبحت على مسافة ست سنوات ضوئية، هنا سوف تود أن تحسب سرعة المجرات، المجرة الأولى تجري بسرعة سنة ضوئية واحدة في اليوم، لكن الثانية تجري مسافة سنتين ضوئيتين في اليوم، وهكذا كلما ابتعدت المجرة عنك، يبدو الأمر وكأن سرعتها تزداد.

لكنها في الحقيقة لا تفعل ذلك، المجرات في تلك المجموعة تجري، بالنسبة لبعضها البعض، بنفس السرعة، لكن ما يحدث هو أن الفضاء بين تلك المجرات يتضاعف بنفس القيمة، بحيث تبتعد المجرة المجاورة عنك مسافة سنة ضوئية، بينما تبتعد الثالثة عن جارتها سنة ضوئية إضافية، ما يجعلها بالنسبة لك تبدو كأنها سنتان، وهكذا، بتلك الطريقة، استطاع إدوين هابل أن يؤكد تمدد الكون، إنه السبب في أن المجرات كلما ابتعدت عنّا بدت كأن سرعتها تزيد، هي بالنسبة للمجرة نفسها لا تزيد، لكن تمدد الكون هو ما يرفع سرعتها حينما يضاعف المسافة بينها وبين كل جاراتها.

لفهم فكرة تمدد الكون دعنا نرجع إلى كرة القدم، ولنتصور أنها قابلة للمزيد من النفخ، وبالتالي، الزيادة في الحجم، الآن ارسم بقلم عريض خمس نقط متفرقة على مسافة عدة سنتيمترات بين كل منها، بعد أن يزداد حجم الكرة قس نفس المسافة، هنا سوف تجد أنها ازدادت بسبب تضخم حجم الكرة، هكذا يفعل الكون، كلما تمدد ابتعدت كل المجرات عن كل المجرات، ذلك لأن هناك «فضاءً جديدًا» ينشأ بين كل منها.


عرض الكون!

فلك، فضاء، حجم الكون، درب التبانة

يمكننا، عبر ما نسميه بالانزياح الأحمر المجري «Cosmological Red Shift» أن نقيس سرعة المجرات التي تبتعد عنّا. فمع تمدد الكون يتمدد الضوء الصادر من تلك المجرات ناحيتنا هو الآخر في أثناء سيره ناحيتنا، كما يظهر في التصميم المرفق، وبتمدده يزداد طول موجته، ما ينقله إلى الجوانب الحمراء صغيرة التردد من الطيف الكهرومغناطيسي.

وحينما يصل هذا الشعاع الضوئي المنهك إلينا يمكن ببساطة أن نستخدم معادلة إدوين هابل لتوقع كم التمدد الذي حدث له في الطريق، وبالتالي معدل تمدد الكون. كل ما نحتاجه لقياس عرض الكون، إذن، هو أن نعرف المسافة بيننا وبين جرم ما، يقع على مسافة كبيرة جدًّا وقريبة من الانفجار العظيم، لتكن 300 ألف سنة فقط بعد الانفجار، بعد ذلك نفحص الانزياح الأحمر المجري الخاص به لمعرفة قدر التمدد، ونجمع النتائج معًا لنصل إلى نصف قطر الكون اليوم.

فلك، فضاء، حجم الكون، درب التبانة

وهذا هو ما فعله العلماء بالضبط، لنصل إلى رقم ما يقع حول الـ 46.5 مليار سنة ضوئية، إنه مجموع مسافة الانفجار العظيم (13.8 مليار سنة)، مضافًا إليه المسافة التي تمددها الكون في أثناء تلك الفترة، ما يعني أن في النهاية قطر الكون المنظور هو 93 مليار سنة ضوئية، وليس كما يظن البعض (27.6).

لا يزال الكون يتمدد بشكل متسارع، في الحقيقة لا نعرف بعد سبب ذلك، لفهم تلك النقطة أمسك بكرة وألق بها للسماء، سوف تتباطأ تدريجيًّا ثم تقف وتعود إليك، هكذا كان المفترض للكون أن يفعل بعد الانفجار العظيم، كان من المفترض أن تهدأ سرعته شيئًا فشيئًا، أما ما يحدث الآن فيشبه أن تلقي بالكرة للسماء فتجد أنها كلما ابتعدت جرت بشكل أسرع! ما الذي يدفعها؟ّ

فلك, فضاء, حجم الكون, درب التبانة

لا نعرف بعد، نتصور أن هناك ما نسميه بالطاقة المظلمة هو ما يتسبب في ذلك، لكن لذلك مقال آخر. دعنا نتعرف على حقل هابل العميق جدًّا Hubble ultra-deep field، في الفترة ما بين 24 سبتمبر/أيلول 2003 و 16 أبريل/نيسان 2004 كانت مهمة التلسكوب هابل هي التقاط صورة غاية في الدقة لمنطقة محددة في كوكبة الكور Fornax، منطقة غاية في الصغر بحيث إنها تشغل فقط جزءًا صغيرًا من مساحة القمر كما نشاهده في سماء الليل، رغم صغر تلك المساحة فإن صورة هابل احتوت على 13000 مجرة، هذا الجزء الصغير للغاية من سماء الليل يحتوي على هذا الكم المهول من المجرات، ما بالك بالكون كله.

حقل هابل العميق جدًّا، تحتوي تلك الصورة على ما يقرب من 13 ألف مجرة

الكون المنظور هو فقط الجزء من الكون الذي نتمكن من رصده، الجزء الذي يمكن لإشعاعه أن يصل إلينا، نحن نعرف أن هذا الجزء من الكون يحتوي على تريليوني مجرة، دعنا هنا نحاول فهم ما تعنيه كلمة «تريليون»، لنتصوره بالثواني، متى كنّا منذ تريليون ثانية؟ سنة 30 ألف قبل الميلاد! التريليون ثانية هو حوالي 31500 سنة، عمر الحضارة البشرية هو حوالي 7000 سنة فقط، لذلك فحينما نتحدث عن تريليوني مجرة فنحن أبعد ما يكون عن القدرة على هضم ما تعنيه تلك الأعداد والمساحات.

من نحن؟ ما هو موضعنا في هذا الكون؟ هل نحن وحيدون هنا؟

إن أسئلة كتلك التي تجول بخاطرك أثناء رحلة قصيرة بالميكروباص هي نفسها الأسئلة التي تطرحها أعظم العقول في الجوانب المعرفية المتعددة بداية من الفلسفة، مرورًا بالعلم، بل الأدب والشعر، إنه ليس سؤالًا بالمعنى المفهوم بقدر ما هو شعور بالوحدة والخوف يعتري كل إنسان منّا، لكن – صدق أو لا تصدق – فإن تلك المشاعر التي تبدو سلبية للوهلة الأولى هي ما تسبب في كل ما نعرفه إلى الآن في «الحضارة» إن جاز التعبير، أليس ذلك غريبًا!