تعلم العلوم: كيف تواكب التطور العلمي المتسارع؟
من اللحظة التي نستيقظ فيها كل يوم، يؤثر العلم وتَقدُّمه على حياتنا اليومية. المنبه الرقمي وإعادة إطلاق رناته تلقائيًا إن لم ينجح في مهمته من أول مرة، أدوات تحضير الطعام والمشروبات التي تقوم بمعظم الجهد للحصول على نتيجة مرضية لنا بل وسريعة أيضًا، الهواتف الذكية وكل ما تحويه من تطبيقات مبهرة، شبكة إنترنت وأجهزة حواسيب نعمل عليها في كل المجالات، الطرق التي نمشي عليها والبنية التحتية التي توصل لنا كل شيء نحتاجه من كهرباء ومياه نظيفة وغاز فقط بضغطة زر، الأدوية التي تخفف عننا الآلام، وسائل مواصلات من الدراجة للطائرة؛ في كل لحظة أنت تلمس بيدك دور العلوم في خدمة البشرية وتيسير المهام اليومية.
قد يكون جيل الآباء والمعلمين الحاليين أقل حظًا من أطفال اليوم لأن الفرصة لم تحن لهم للتعرف على كل تلك التطبيقات العلمية الحديثة في عمر مبكر مثل الجيل الناشئ، ففي الوقت الذي ترى فيه أن الهاتف الذكي شيء مبهر وعظيم، هو بالنسبة للأطفال بديهي تمامًا وعقلهم لديه القدرة على استيعاب المزيد، فالعالم الذي يرونه هو عالم صغير للغاية، أصبح التطور العلمي فيه في تقدم متسارع وثوري ولكن في نفس الوقت يتزايد مع هذا التقدم المطرد المشاكل والتحديات الكبرى بنفس السرعة.
هل هذا الجيل جاهز للوضع الراهن ومواكبة الثورات العلمية بجانب التحديات المرافقة لها؟ إن الجواب يكمن في التعليم.
ثلاث وجهات نظر للتعليم
يعرف العلم بأنه: «المعرفة الناتجة عن دراسة منهجية ومتأنية لسلوك أو ظاهرة طبيعية بالمشاهدة، والقياس، والتجربة، وتطوير النظريات لتفسير ووصف النتائج المُلاحَظة».
هذا يعني أن دراسة العلوم الطبيعية تبدأ من الفضول والتساؤلات. وفي محاولة إشباع هذا الفضول، تُستخدم كل الأدوات والوسائل المتاحة لدراسة الظاهرة ثم في النهاية الوصول للنتائج التي تُبنى عليها المعلومة النهائية المستخدمة في التطبيقات الحياتية.
«جاك ميلر Jack Miller»، أستاذ بقسم المناهج والدراسات التربوية في جامعة تورنتو، في كتابه «المنهج الشامل The Holistic Curriculum» يقول إن للتعليم ثلاث وجهات نظر:
1. التعليم بالنقل Transmission
وفي هذا النمط من التعليم يكون المعلم هو رأس العملية التعليمية وتنتقل المعرفة منه لعقول الطلاب، فهو يقوم بدور محتكر الحقائق ومهمته هي أن يزود الطلاب بمقدار معين من المعرفة بترتيب محدد، ويقيّم الطلاب وفقًا لقدرتهم على إعادة نقل هذه المعرفة مرة أخرى إلى المعلم أو لكيان مماثل له في صورة اختبارات موحدة للخضوع لقياس المستوى.
2. التعليم بالتبادل Transaction
في هذا النمط يكون التدريس عملية يتم فيها تكوين مواقف تمكن الطلاب من القدرة على التبادل والتفاعل مع المواد المختلفة لبناء المعرفة، هنا الطلاب ليسوا متلقيين دون فعل بل يمارسون أنشطة وتجارب وظيفتها ربط معارفهم السابقة بالمعلومات الجديدة، وهذا النمط من التعليم يتوافق مع فلسفة تعليمية تسمى البنائية والتي ذكرها جون سانتروك في كتابه «علم النفس التربوي Educational Psychology»؛ أي أن كل طالب يبني صرح معرفته كالبناء فوق بعضه، ولأن الخبرات والمعارف السابقة لكل طالب تختلف عن الآخر فكذلك تفسيره وتفهمه للمعاني والمعلومات الجديدة يختلف كليًا، ويقيم الطلاب في هذا النمط على أساس قدرتهم على استخدام المعرفة المتكونة لدى كل منهم لحل مشكلات العالم الحقيقي أو لإنشاء مشاريع وعروض تقديمية.
3. التعليم بالتحول Transformation
في هذا النمط تم تخليق بيئة وظروف تساعد على تحول المتعلم على عدة مستويات: العاطفية والمعرفية والاجتماعية والإبداعية والروحية. هنا ليس الطالب فقط هو من يكتشف إمكاناته الجديدة ولكن المعلمين كذلك، فالهدف الذين يسعون إليه لا يتوقف عند مجموعة من المعلومات وحسب، لكن الهدف يتمثل في تطور البشرية بأجمعها وترابط حياتنا كبشر مع الطبيعة حولنا وهذا النمط يتفق مع فلسفة التعليم الشامل.
في هذا النمط يمكن أن يقال إن التعلُّم قد حدث عندما ترابطت (التجارب) و(الأنشطة الحيّة) لتكوّن وعيًا داخليًا يؤدي إلى فهم أعمق للرعاية الذاتية ورعاية الآخرين والبيئة. الإنجاز والتقييم في هذا النمط لا يشبه الصورة التقليدية التي اعتدنا عليها ولكنه يعتمد على القدرة على اكتشاف الذات والاستمرار في تطوير المهارات والقدرات، فيه التقييم لا يعتمد على الإجابات لأنه يعتبر الأسئلة أعلى قدرًا من الإجابات، لذلك الأهداف الشخصية الحياتية لكل طالب هي موضع تقييمه.
في هذا المقال أمثلة حية على تطبيق التعليم بالتحول في مرحلة الطفولة المبكرة:كيف تعلم طفلك العلوم دون أن تعلمه؟
التعامل مع المواضيع العلمية الجدالية
هل مخترع المصباح تيسلا أم أديسون؟ هل نظرية التطور حقيقة أم أنها تناقض الأديان السماوية؟ هل بلوتو الكوكب التاسع في المجموعة الشمسية أم أنه مجرد كويكب من ضمن عدة كويكبات أخرى؟ هل الطاقة لا تفنى أو تستحدث من العدم أم أن الطاقة اللانهائية موجودة بالفعل؟ هل النباتات حقًا تشعر مثلنا أم أنها خرافة؟ هل التطعيمات ضرورة أم أنها خطر على البشرية؟
جدالات علمية في كافة المجالات لا تنتهي، ولأن العلوم تؤثر بشكل مباشر في حياتنا اليومية فالخوض في هذه الجدالات لا يقتصر فقط على العلماء ولكن كافة الناس يجدون أنفسهم مضطرين للانخراط فيها. الجدال والمناقشات العلمية في أصلها ليست مشكلة بل إنها واحدة من أهم أدوات المعرفة، لكن القصور يكمن في أن هذه النقاشات معظمها بنيت على نمط التعليم بالنقل أو التلقين وهو نمط يجعل متلقيه أكثر ما يهتمون به ويتطلعون إليه هو النتيجة النهائية، لذلك تجد أن الهدف من النقاشات غالبًا ما يكون محاولة إثبات كل طرف لصحة معلوماته لأنه اعتاد على الحُكم بناءً عليها.
وليكون الجيل القادم جاهزًا لمواجهة التحديات المرافقة للثورات العلمية المتسارعة، فهو في حاجة ماسة إلى تطوير النمط المتبع في تعليمه لنمط يُقدِّر الفضول والتفكير والمهارات والحدس والحكمة والتساؤل والنقاشات الحية أكثر من تقديره لمستوى الذكاء وقوة الذاكرة. يحتاج إلى تجاوز فكرة «خلاصة المعلومات» فما هو نظرية علمية اليوم من الممكن أن يثبت خرافته غدًا، هذا الجيل يحتاج في تعلمه للعلوم ما هو أكثر من الأنشطة والمشاريع والعروض التقديمية، إنه يحتاج إلى أن يتماهى مع البيئة من حوله وينتمي لكونه (أرضيًا) أولاً.
ستيفان هاردينج Stephan Harding، عالم البيئة وعضو هيئة تدريس مؤسس في كلية شوماخر.