كيف أحكم على ما لا أراه بعيني؟
تكلمنا في المقال السابق عن المعرفة وقلنا أنها حضور الشيء في ذهنك على وجه مطابق للواقع. فلو سألتك: (في أي عام قصفت الولايات المتحدة مدينة هيروشيما اليابانية بالقنبلة النووية؟). فلو قلت لي: (حصل ذلك سنة 1945) فأنت عارف بزمن حصول هذا الحديث، لأن هناك معرفة في ذهنك، وهي مطابقة للواقع.
وقلنا أن أسباب المعرفة ثلاثة: (الحواس الخمس، والعقل، والخبر الصادق).
وهنا لسائل أن يسأل: هل يمكن للعقل أن يدرك أمورا لم يشاهدها الإنسان بحواسه الخمس؟
ولو قال قائل: الإيمان بالغيب وهم وقلة عقل، أنا لا أؤمن إلا بما تراه عيناي.. فكيف تجيبوه؟
قضية الإيمان بالغيب قضية أساسية، والله عز وجل بدأ قرآنه الكريم في آياته الأولى بقوله: (الذين يؤمنون بالغيب)، فلكي يبدأ الإنسان بحثه عما وراء هذا العالم، وعن الألوهية والرسالة .. ينبغي أن يقتنع أن هذا البحث ممكن، وأنه مستطيع أن يدرك أمورا تغيب عن حواسه، وأن بعض ما غاب عن بصره يمكنه أن يستدل عليه بعقله.
الغيب هو الذي يكون غائباً عن الحاسة، فمنه الغائب عن إدراكنا المباشر بالحواس، ومنه الذي لا يمكن إدراكه بالحواس ، فمن ثم كان السبيل إليه غير الحواس ، إما عن طريق الخبر (موضوع المقالة القادمة بإذن الله) ، أو العقل (وهو موضوع هذه المقالة). ونحن في هذا المقالة سوف نتكلم على بعض القواعد المتعلقة بالعقل الذي هو سبيل لنا لمعرفة الأمور الغيبية، ونشرحها، ونبرهن عليها بإذن الله.
مقدمة:
لو حصلت سرقة – والعياذ بالله – في بيتك، وأتيت برجل المباحث، فإنه يحاول أن يرى موقع الحادثة ويحاول أن يستدل به على الجاني. فينظر في المعلومات التي بين يديه ويحاول أن ينتقل منها لمعرفة المعلومة التي يجهلها وهي: (من الذي قام بالسرقة؟). يرفع البصمات، ويبحث في طريقة اقتحام البيت، ويسأل عن نوع المسروقات، وعن توقيت السرقة، ويرتب هذه المعلومات في ذهنه بشكل يمكنه من توقع بعض المتهمين.
هذه الطريقة هي التي يسلكها الإنسان في البحث عن أي أمر من الأمور. إنه: يبدأ بالمعلوم، وينتقل منه في خطوات مرتبة، ليصل به إلى المجهول، فالاستدلال لا بد أن يبدأ بمعلومات، وينتقل عبر منهج سليم، ليصل إلى نتائج.
وطالما أننا نتكلم الآن عن العقل.. فإننا سنتكلم عن هذه الثلاثة:
- البداية.. ما هي الأمور التي يبدأ منها العقل؟
- الطريق.. كيف ينتقل العقل من المعلوم إلى المجهول؟
- النهاية.. ما هي النتائج التي يصل إليها العقل وما طبيعتها؟
البداية.. الأمور التي يبدأ منها العقل:
معلومات الإنسان يمكننا تقسيمها لقسمين: تصور، وحكم.
أما التصور فهو إدراك الشيء مفردا من غير ربطه بأي معنى آخر.
وأما الحكم (والذي يسمى أيضا التصديق) فهو ربط بين أمرين.
فإن إدراكك لمعنى (مصر) البلد المعروف هو تصور، أما إدراكك لمعنى أن (مصر تملك نسبة كبيرة من آثار العالم) فهو تصديق أو حكم.
فكيف يبدأ الإنسان في بناء تصوراته؟
إنه يبدؤها غالبا بالمشاهدة الحسية، ثم يعمل العقل في تجريد هذه التصورات، واكتساب تصورات جديدة منها. فالإنسان مثلا يرى فيلا معينا في حديقة الحيوان، فيدرك عقله المعنى الكلي المجرد للفيل، ويرى الإنسان (النار)، ويشعر بمعنى (الإحتراق) في يده، فيتصور بعقله تصورا مجردا هو معنى (السببية) أو (العِلِّيَّة) وهو تصور عقلي، بناه الإنسان بعد المشاهدات الحسية.
وكيف يبني الإنسان أحكامه؟
إن المبادئ التي تستند إليها الأحكام جميعا هي مبادئ عقلية، من أهمها قاعدة تقول أن الشيء هو نفسه (أ = أ) ، ويستحيل أن يكون نفسه وألا يكون نفسه (أ = أ) و (أ ≠ أ) إذ في ذلك اجتماع النقيضين ، وعلى هاتين القاعدتين تتأسس معارف الإنسان جميعا. فلولا قاعدتي: (استحالة اجتماع النقيضين) و (الشيء هو نفسه) لم يمكنك الجزم بأن (1+1=2) إذ يمكن حينئذ أن تكون 2 = 3، فيكون (1+1=3) كذلك. لكن هذا مستحيل لأن 2=2 و3=3 لأن الشيء هو نفسه ، ويستحيل أن يكون نفسه وألا يكون نفسه في آن واحد. فهذه من أهم القواعد العقلية.
وسيأتي الكلام على التناقض في آخر المقال.
فالاستدلال كما ذكرنا يبدأ من المعلوم لينتقل إلى المجهول. وهذا المعلوم إما أن يكون أمورا بدهية أولية، أو يكون أمورا نظرية حصلت بعد تفكير، والأمور النظرية تنبني على الأمور الأولية البدهية. فالإنسان يبدأ بالمشاهدة الحسية غالبا ومنها يبني تصوراته، ويبدأ من قواعد العقل الأساسية -كقاعدتي (الشيء هو نفسه) و(التناقض مستحيل) – فيبني أحكامه.
الطريق .. الطريقة التي يسلكها العقل:
العقل ينتقل من المعلوم إلى المجهول عبر القياس العقلي، فيقول مثلا في المثال السابق عن السرقة: (زجاج النافذة مكسور داخل الشقة، فيلزم أن يكون السارق غالبا قد كسره من الخارج حتى يقع في داخل الشقة، فيترجح أن السارق اقتحم البيت من النافذة). فانتقل العقل من المشاهدة الحسية (زجاج النافذة المكسور داخل الشقة) إلى البحث في لوازمها ليصل إلى طريقة الاقتحام.
فالعقل يقيس أقيسة من نوع:
(أحمد عضو في نقابة المهندسين – كل عضو في نقابة المهندسين فهو مهندس – إذن: أحمد مهندس)
أو من نوع:
لو : س =2
و:2س+3= ص
فـإذن: 2(2)+3 = 7
فإذن: ص = 7
فينتقل العقل من المعلوم إلى المجهول.
وهذا الانتقال العقلي ضروري جدا في المعرفة. بل إن العلوم التجريبية (كالكيمياء والأحياء) لا يمكن الكشف عنها إلا اعتمادا على العقل. فالحواس الخمس ليست كافية في تحصيل كل العلوم التي نعلمها، إذ إن غاية ما يحكم به الحس هو القضايا الجزئية المعينة. فأنت ترى بعينك أنك لو تركت هذا القلم المعين في هذا المكان المعين فإنه يقع، لكن من أين لك أن تعرف أن كل قلم في الدنيا لو تركته في نفس الظروف المشابهة لوقع أيضا؟
لا سبيل للحس للحكم على هذا، ومهما زادت الوقائع التي نثبتها بالحس فهي لا تكفي للحكم بوجوب وقوع القلم على الأرض إذا تُرك، إذ لا يلزم أن ما حدث من قبل سيحدث الآن.
ولم نستفد من رؤيتنا بالحس في واقعة معينة أو وقائع عديدة مهما كثرت أن واحدا ما إذا زدنا عليه واحدا آخر فإنهما يكونان اثنين، أي لا يلزم بمجرد رؤيتها لتلك الوقائع الحكم وجوب هذه القاعدة العامة القطعية التي هي أن (1+1 =2 ) دائما وأبدا، فلابد أن لهذه القضايا أدلة بسببها قطعنا بها، وليست الحواس دليلا عليها، فالشيء الذي يدلنا على هذه القضايا هو ما نسميه العقل.
فما نعلمه من الرياضيات مثلا هو علم مطابق للواقع الخارجي، ونحن نقطع به، وهو ليس مما علم بالمشاهدة الحسية، وإنما علم بالعقل.
فالعقل قادر على إدراك بعض المعلومات بمفرده معتمدا على القواعد العقلية الأولية والتي أصلها أن (حصول التناقض محال) ، وأن (الشيء هو نفسه)، وقادر على أن يحول المشاهدات الحسية التي يشاهدها في التجربة إلى قوانين عامة ونظريات علمية.
النهاية .. طبيعة المعارف التي يصل إليها العقل:
نذكر هنا مسائل مهمة في طبيعة المعارف التي ينتجها العقل. فتأملها.
العقل يحكم على المحسوس وغير المحسوس:
فإن قال قائل:العقل لا يحكم ولا يعمل إلا في الأشياء المحسوسة، ولا سبيل له إلى الحكم على الأمور غير المحسوسة (الأمور الغيبية).
قلنا: بل إن من أهم ما يتميز به العقل في التصورات والأحكام التي يصل إليها أنه قادر على الحكم على الأمور غير المحسوسة، فهو قادر- كما ذكرنا سابقا – على الكلام على: الحقائق المجردة وانتزاعها من الأمور الموجودة المحسوسة، وتلك الحقائق المنتزعة ليست أمورا حسية تدرك بالحواس. فلا يوجد شيء في الواقع والخارج اسمه (المعنى المجرد للحيوان) مثلا، بل الموجود خارج الذهن ليس إلا الحيوانات المعينة. ولكن الذهن يمكنه انتزاع المعنى الكلي المجرد للــ«حيوانية»، ويمكنه أن يحكم عليه أحكاما معينة.
ولا يوجد في الواقع شيء محسوس يسمّى السببيةcausality (بقطع النظر عن الخلاف العلمي/الفلسفي في تحديد معنى السببية)، لكن هذا التصور هو تصور عقلي محض، اكتسبه العقل من مشاهدة الترتب والتعاقب بين الأشياء.
فإن الذي ندركه بحواسنا هو «النار والقطن ، واحتراق القطن عن مس النار له» ، وأما إدراك أن النار سبب لاحتراق القطن ، فليس أمرا محسوسا مشاهدا ، بل هو مستنبط ومجرد من المشاهَد. فالحس إنما يقع على ذات السبب، وذات المسبَّب، فإنه يقع على (النار)، وعلى (القطن الذي يحترق) فيدرك حالتين متعاقبتين: النار والقطن منفصلين، ثم احتراق القطن عقب ملامسته للنار، وأما الصلة بينهما التي نسميها بالسببة، ونعني بها تاثير أحد الأمرين في الآخر، فهذه من إدراك العقل.
ولا يوجد شيء في الواقع يسمى (اللون) بل هناك أشياء حمراء اللون أو صفراء، أما مفهوم (اللون) فهو مفهوم مجرد انتزعه العقل.
وكذلك من حكم العقل على المشاهد وغير المشاهد حكمك على شيء بأنه مستحيل عقلا، فإن المستحيل هذا هو: ما لا تقبل ذاته الوجود، فهو قطعا أمر غير موجود فضلا عن أن يكون محسوسا، وأنت مع ذلك قادر على الحكم عليه بأنه مستحيل.
فلو قلت لك مثلا:
(هناك في مجرة أخرى كوكبان: كوكب (أ) وكوكب (ب)،
كوكب (أ) هو أكبر من كوكب (ب)، وفي نفس الوقت فإن كوكب (ب) أكبر من كوكب (أ)
فإنك تحكم بأن هذا مستحيل الوقوع، لأنه يلزم منه أن يكون (أ) أكبر من (ب) وفي نفس الوقت بنفس المعنى ليس أكبر من (ب) وحصول الأمرين معا مستحيل. وهذا الحكم بالاستحالة حكمت به على شيء مفترض غير موجود بالفعل، ولم تطلب مشاهدة هذا بعينك لتحكم فيه، فبان لك أن عقلك قادر على الحكم على أمور ليس لها وجود حسيٌ أصلا، فكيف نقول أن العقل لا يحكم إلا على الحس؟!.
بل إنك لتخترع شيئا ليس له وجود – ككثر من المخترعات الحديثة – فإنك تتخيله أولا، ويحكم عقلك أن اختراع مثل هذا الشيء ممكن الوجود ، أي لا يلزم على وجوده محالا عقليا ، فيتصور العقل إمكان وجود هذا الشيء أو عدم وجوده .(انظر.. لقد أصدر العقل حكما بإمكان وجود هذا الاختراع قبل أن يوجد أصلا، فحكم العقل بالإمكان على شيء غير موجود وقت الحكم).
ولولا تخيُلك للشيء، وحكمك العقلي عليه بأن وجوده ممكن، لما أمكنك أن تخترع شيئا أصلا.
وهذا ليس تقليلا من أهمية المشاهدة الحسية، ونحن لا ندعي أن العقل قادر بمفرده على إدراك كل شيء. غاية ما نقوله هو أن العقل متمكن من إدراك بعض الأمور بشكل مستقل، ومتمكن من إدراك أمور أخرى مستعينا بالمشاهدة الحسية أو الخبر.
العقل يفيد علما جديدا:
إن قال قائل: العقل لا يفيد أحكاما جديدة متصلة بالواقع (تركيبية) بل أحكامه كلها ليست إلا شرحا للمفردات اللغوية، فهي معرفة تحليلية لا توجد فيها إضافة جديدة. فقولنا –مثلا-: (الجسم لا يكون في مكانين) الذي تدعون أنه حكم عقلي ليس من المعرفة الحقيقية، لأنه كقولنا (كل أعزب غير متزوج)، وهو لا يفيد علما جديدا بالحقائق، وإنما هو شرح لمعنى لغوي ، فهو شرح لقصد واضع اللغة بكلمة «أعزب» أو بكلمة «جسم».
قلنا: بل العقل يفيد أحكاما جديدة ليست محضر تكرار وشرح لما نعرفه .. فإن العقل قادر على استخلاص حقائق الأشياء، والحكم عليها.
فقولنا (الجسم لا يكون في مكانين) يخالف قولنا (كل أعزب غير متزوج). وذلك لأن قولنا (الجسم لا يكون في مكانين) هو إفادة لمعنى لم يكن حاضرا عند أول التفات الإنسان لمعنى الجسم، فإنه يحصل بعد أن يكون الإنسان رأى الأجسام الموجودة في الكون، واستخلص حقيقة الجسم وأن حقيقته أنه: ما يتحيز في مكان، ثم حكم أن وجود نفس الجسم في مكانين مخالف لحقيقة الجسم، فيكون حصوله مع تحقق معنى الجسم مستحيلا.
فذلك كله عبارة عن حركة عقلية للبحث في معاني الأشياء، والحكم عليها بأحكام لم نكن نعرفها عن تلك الأشياء ، هي ثمرة النظر العقلي، فهي معان جديدة نكتسبها ونحكم بها وننظر في تحققها في الواقع وعدمه ، وليست تكرارا لما نعرفه أو شرح له.
العقل لا يلزم أن يعتمد على الحواس في أحكامه:
فإن قال قائل: (الحكم على الشيء فرع عن تصوره، والإنسان لا يتصور إلا ما رأى أو سمع أو اطلع عليه بحواسه، فمن رأى كل درجات اللون الأزرق إلا درجة واحدة، وعرضت عليه كل الدرجات إلا هذه الدرجة، فإنه لن يمكنه أن يتصور هذه الدرجة، فالعقل لا يمكنه أن يحكم على شيء بمجرده، ولا يمكنه الحكم على شيء إلا بعد الحس.فهو مفتقر إلى الحواس ليعمل).
قلنا: هناك فرق بين التصور، وبين التخيل.
فالتصور هو: إدراك المعنى المفرد.
والتخيل نعني به: حصول صورة للشيء في الذهن.
فالإنسان لا يعمل خياله إلا فيما رآه بالفعل، وهذا شرحناه في مقالتنا السابقة عن مصادر المعرفة، لكن الإنسان بالعقل يتصور المجردات بمعنى أنه يمكنه أن يتصور أن هناك درجة من اللون الأزرق لم يرها، وهي بين الدرجة الفلانية والفلانية، ثم العقل يتمكن من التحرك بين هذه المجردات، والحكم عليها.
والقائل بهذا يلزمه أن ينكر النظريات العلمية، والكثير من المعارف والحقائق.
فالعالم مثلا:
إما قديم أي لا بداية له
وإما حادث أي له بداية (مسبوق بعدم)
والأمر منحصر بين أحد هذين الاحتمالين، والإنسان لم يشاهد شيئا قديما من قبل فلا يتخيله، ولم يشاهد العدم المحض من قبل فلا يتخيله ، بل هو أصلا ليس وجودا كما سبق ، ولكنه قادر على تصوره والحكم به على أمور . مع ذلك العقل يحكم أن العالم بالضرورة إما قديم أزلي لا بداية له، أو حادث له بداية مسبوق بعدم، مع كونه غير قادر على تخيُّل كل من الاحتمالين ، ولكنه قادر على تصور المعنيين ، ثم الحكم على العالم بأحدهما.
فما سبق أمثلة لأشياء لم نشاهدها، ولا نستطيع تخيُلها، لكن كلها لها حقائق ثابتة، والعقل متمكن من تصور بعض تلك المعاني ثم الحكم عليها.
العقل يحكم باستحالة التناقض:
ذكرنا أن العقل يحكم باستحالة التناقض.. فما هو التناقض العقلي المقصود هنا؟
التناقض هو: ثبوت قضية ما ونفيها بنفس المعنى على نفس الوجه، فيكون الإثبات والنفي واقعين على نفس الشيء.
فلو قلت لأخيك الأصغر مثلا: (القميص الأخضر في غرفتي)، وقلت له في نفس الوقت: (القميص الأخضر ليس في غرفتي).. فلو كنت تقصد نفس الغرفة ونفس القميص ونفس الوقت فهاتان القضيتان متناقضتان، لا بد أن تكون إحداهما صحيحة والأخرى كاذبة. وذلك لأن ثبوت كل قضية من القضيتين هو في نفسه ليس إلا نفيا للأخرى، فكيف يثبتان معا؟!.
فلا معنى لقولك (القميص الأخضر ليس في غرفتي) إلا نفيك لقولك: (القميص الأخضر في غرفتي)، فالإثبات والنفي واقعان هنا على نفس المعنى (وهو كون القميص في غرفتك).. فكيف يجتمعان؟!
ثم إن كون اجتماع النقيضين أمرا محالا ونحو ذلك من الأحكام العقلية القطعية ليست أمورا نسبية يمكن أن تكون على غير ذلك، بل هي أمور قطعية يقينية راجعة للاستحالة الذاتية التي بناء عليها لزمت الاستحالة العقلية؛ فحصول التناقض في نفسه في الواقع والخارج غير ممكن، ثم حكم العقلُ باستحالة حصول ذلك الأمر.
وليس الأمر أننا نعجز عن إيقاعهما وهناك من هو أقوى منا فيقدر على ذلك، ولا لأن قوانين العالم هذا لا تسمح بذلك، بل إن هذه الاستحالة لما يلزم عن اجتماع النقيضين من المحال العقلي لما بين الحقيقتين من تنافٍ، فلا معنى لحصول الشيء إلا عدم نفيه، ولا معنى لنفيه إلا عدم حصوله، فكيف يمكن في نفس الأمر أن يوجد وينتفي. فإن الحكم العقلي ليس مخترعا اختراعا من قبلنا، بل هو حاكم على حقيقة الأمور، ولكل أمر حقيقة متقررة خاصة به، بناء عليها يكون حكم العقل.
فإن قال قائل:
(بل وقوع النقيضين ممكن، وإنه يحصل بالفعل في الجسيمات دون الذريةsub-atomic particles التي تدرسها فيزياء الكم quantum physics، وبالتالي فإن الحكم العقلي الذي تدعونه قد كذبه الواقع المشاهد.
نقول: هذا غير صحيح. ولا يلزم من أبحاث ميكانيكا الكم خرق قانون استحالة اجتماع النقيضين، بل إن ذلك مستحيل، ولم يقع. وسنناقش هذه الدعاوى حول ميكانيكا الكم وعلاقتها بالحكم العقلي باستحالة اجتماع النقيضين في الوجود في مقالة مستقلة ستأتي بإذن الله، فليتابع معنا من يهتم بهذا الموضوع.
وإن قال قائل: (كيف تقولون أن التناقض مستحيل مع أن الإنسان كائن متناقض، يشعر بالشيء وعكسه، ويفعل الشيء وضده، بل إن التناقض هو أحد محركات الفعل الإنساني كما قال بعض الفلاسفة).
قلنا: (ليس هذا هو التناقض الذي نقصده، بل التناقض الذي نعنيه والذي هو مستحيل الوقوع هو: ثبوت الشيء ونفيه بمعنى واحد في وقت واحد. فنقول مثلا: (محمد له أخ شقيق، وليس له أخ شقيق ، في نفس الوقت ، بنفس المعنى) فنكون قد حكمنا على الأخ الشقيق هذا بالوجود والانتفاء معا، مع أن انتفاءه ينفي وجوده، ووجوده ينفي انتفاءه، فلا يمكن أبدا حصولهما معا.
وكقولنا (2=2) وفي نفس الوقت (2=3).. فهذا مستحيل.
أما اضطراب الإنسان في نوازعه ومشاعره وأفكاره فهذا ليس محل كلامنا، فالإنسان قد يفرح ويحزن على نفس الشيء من وجه ويحزن من وجه، فقد يفرح لهلاك أحد الظلمة بسبب ارتفاع ظلمه عن الناس، وقد يحزن لهلاكه لكونه مات ولم يتب عن أخطائه. والإنسان قد لا يلتزم بقانون خلقي واحد، فيطوع مبادئه حسب أهوائه، فهذا ليس التناقض المستحيل الوقوع الذي نعنيه، وإنما ذلك ممكن وواقع.
رابعا: العقل يحكم بثلاثة أحكام (مستحيل)، (ممكن)، (واجب):
أحكام العقل الأساسية هي (الوجوب والاستحالة والإمكان).
معنى الوجوب: (هو عدم قبول الانتفاء).
ومعنى الاستحالة: (هو عدم قبول الثبوت).
ومعنى الإمكان: (هو قبول الثبوت والنفي).
فطالما أن التناقض مستحيل الوقوع، فما ترتب على وجوده تناقض فهو مستحيل، وما ترتب على عدمه تناقض فهو واجب، وما لم يترتب على وجوده ولا عدمه تناقضا فهو ممكن.
مثال الواجب: يجب أن يكون الجسم متحركا أو ساكنا ، فكونه أحد الأمرين لا يصدق العقل بعدمه عن الجسم.
مثال المستحيل: كون الجسم متحركا ساكنا في وقت واحد، فهذا لا يصدق العقل بوجوده للجسم.
مثال الجائز: كون الجسم متحركا في وقت أو ساكنا في وقت آخر، فهذا يصدق العقل بوجوده وعدمه
والمراد كما هو ظاهر: الحركة والسكون بنفس المعنى ونفس الاعتبار، فأنت قد حكمت بعقلك في الأمثلة الثلاثة من غير أن ترى أو تجرب هذه الأشياء التي حكمت عليها. فحكمت على الأول بالاستحالة، وعلى الثاني بالإمكان، وعلى الثالث بالوجوب.
ولسائل أن يقول: (إننا كثيرا ما نحكم على أشياء بالاستحالة ثم يتبين لنا خطأ هذا الحكم. فإنك لو أتيت بإنسان عاش قبل ألف سنة من الآن وأخبرته أن بإمكانه أن يمسك شيئا معدنيا في مصر فيسمعه في نفس اللحظة شخص في الصين لقال أنك مجنون ولحكم على كلامك بالاستحالة. مع أن هذا قد حدث بالفعل في الهواتف النقالة مثلا)
والجواب على هذا يُحتم بيان بعض الأمور : وهي التفرقة بين : المحال العقلي ، والمحال العادي ، والأمر البعيد جدا في الوقوع حتى إنه ليظن البعض أن وقوعه مستحيل.
وسبق أن ذكرنا أن المحال العقلي هو: الأمر الذي يلزم من وجوده محال كوقوع التناقض (أي إثبات شيء ونفي نفس الشيء بنفس المعنى). والمحال العادي: هو الذي في وقوعه مخالفة للسنن الكونية المستقرة والقوانين الفيزيائية والكميائية وغيرها.
فلو فكرت.. لوجدت أن فكرة الهاتف النقال لا يلزم منها أي محال عقلي، ولا تخرق قانونا قطعيا من قوانين الحياة ، وإنما هي أمر عجيب بالنسبة للإنسان الذي عاش قبل ألف سنة لجهله بقوانين الكون وأسبابه، فكما يقولون: (إذا عُرف السبب بطل العجب).
وليس من باب المستحيل العقلي مثلا وجود جَمَلٍ يطير؛ لأنه لا يلزم عليه محال عقلي (وإن كان لا يوجد بالفعل جمل يطير)، وليس من باب المحال العقلي وجود إنسان لا يموتimmortal وإن كان هذا لا يحصل، وإنما ذلك كله العقل المحض يجوز تجويزا عقليا أن يكون الأمر على خلاف ذلك الواقع ، ولكن الواقع المشاهد المستقر في الدنيا أنه على هذه الصورة الواقعة المشاهدة ، وأنه فعلا لا يتخلف أبدا.
وأما ما كان نادرا جدا وبعيدا جدا ، لكنه لا يخرق قوانين الكون لا نحكم باستحالته ، لا عقلا ، ولا بالنظر إلى تلك القوانين ، وإنما وقوعه نادر وبعيد لا أكثر ، فهو ليس مستحيلا أصلا ، والذي يحكم باستحالته مخطئ ، ومنه كما سبق مثال الكلام في الهاتف.
و كما هو واضح للمتأمل أنَّ الأغلب الأعمَ من حكمنا على الأشياء هو أنها ممكنة من حيث العقل، وهذا الممكن عقلا قد نعلم بالتجربة، والحس، والخبر، و غيرها من طرق المعرفة وقوعَه أو عدمَ وقوعِه. أما المستحيل العقلي فلا يقع، والواجب العقلي لا يتخلف.
فالمستحيل العقلي الذي يلزم على وجوده تناقض عقلي يستحيل أن يوجد.. لا الآن ولا في المستقبل، لا في كوننا ولا في أي كون آخر إن كانت هناك أكوان أخرى. أما الشيء المخالف لقوانين الفيزياء أو الكيمياء فإنه من حيث الحكم العقلي المجرد ممكن الوقوع، وإنما عرفنا أنه لا يقع في كوننا هذا بعد خبرتنا بالكون ، وهو بخلاف البعيد الغريب النادر المستبعد الذي لا يخالف قوانين الكون ، فهو وإن كان لا يقع أو يُستبعد وقوعه ، لكنه ليس محالا أصلا . فتنبّه لهذا الفرق المهم.
الذي يُسأل عن سببه هو الذي يجوز أن يكون أو لا يكون، ثم وجدناه كان
فمن وقعت عليه تفاحة إنما يسأل عن سبب وقوعها أصلا؛ لأن وقوع التفاحة من باب الممكن العقلي، فإنه بالنظر العقلي المحض يجوز أن تقع التفاحة، ويجوز ألا تقع، فلما علمنا ذلك وكان متصورا أن التفاحة إذا تركت في الهواء ترتفع، أو تظل مكانها معلقة في الهواء حيث تُركت ، ولكنا علمنا مما رأينا وشاهدها من هذا العالم وقوانينه أنها جزما تقع. فلمّا كان وقوعها ممكنا وكذا عدمُه كان ذلك سببا لسؤالنا عن سبب وقوعها دائما وجزما ، ومن ذلك وصلنا بالبحث والنظر العلمي لنظرية الجاذبية التي تفسر ذلك الوقوع.
فالحكم العقلي المحض هو الدائرة الأوسع في التفكير.
والمعلومات الدينية لها أصول وفروع. فأما أصولها (كوجود الله وبعض صفاته وصدق الرسل فيما يخبرون به عنه) فنعرفها بأدلة مركبة من العقل والمشاهدة الحسية. وأما الفروع (كالأوامر والنواهي والأحكام الشرعية) فنعرف ثبوتها بالخبر الصادق، الذي هو مركب من السمع والعقل ، ونُعمل عقولنا في فهم معانيه.
وسيأتي الكلام عن الحقائق الدينية مفصلة بإذن الله في مقالات لاحقة.
فخلاصة ما نريد أن نقوله في هذا المقال:
أن الغيب معناه ما غاب عن الحواس الخمس، ويمكن إثباته عن طريق العقل أو الخبر الصادق. وتكلمنا عن العقل فقلنا أنه يبدأ من أمور أولية بدهية مركوزة فيه كعلمنا أن الشيء هو نفسه، وأن إثبات الشيء ونفيه مستحيل، وأن الجزء أصغر من الكل، وهكذا.
وينتقل العقل عبر القياس العقلي من المعلوم وما يلزم عليه لكي يكشف عن المجهول. والمعارف التي يعمل فيها العقل منها: المحسوس ومنها غير المحسوس، وأن أحكام العقل تفيد معلومات حاصلة في الواقع، ويمكن للعقل أن يصل إليها استقلالا عن الحواس، وأن من ضمن معارف العقل علم الرياضيات مثلا. وذكرنا أن العقل يحكم باستحالة التناقض (وهو إثبات الشيء ونفيه في وقت واحد)، وأنه يحكم على الأشياء إما بأنها واجبة (أي: لا تقبل الانتفاء)، أو مستحيلة (أي: لا تقبل الثبوت)، أو ممكنة (أي: تقبل الثبوت والانتفاء)