كيف تختبئ المواد الكيميائية في حياتنا؟
انظر حولك، هكذا بدأت الكيمياء. في فضول البشر اللانهائي حول ما يحيط بهم.
ثيرالد مولر
لنتفق على أنه من المستحيل أن يخلو مكان ما من المواد الكيميائية، أو أن تستغني عن المواد الكيميائية في حياتك بشكل تام حتى لو حملت خيمة وقررت أن تنضم لقافلة من البدو بعيدًا عن حياة المدنية. ستسير على رمال أليس كذلك ؟ يتكون الرمل من ثاني أكسيد السيليكون «يعرف أيضا باسم سيليكا أو كوارتز» بالاضافة لأملاح الكالسيوم، وخامات الحديد، وخامات والصوديوم والبوتاسيوم والألمونيوم «فيلدسبار» وغيرها حسب مصدر الرمل. وبالطبع حدث ولا حرج على تكوين الخيمة التي سواء كانت اّتية من جلود الحيوانات أو القطن وهو بوليمر طبيعي من السليلوز أو كانت خيمة حديثة مصنوعة من النيلون والبولي إيثيلين وهي بوليمرات مصنعة كيميائيًا.
أفكار خاطئة
اكتسب مصطلح مواد كيميائية سمعة سامة مؤخرا، حيث أصبحت جملة مثل “هذا الطعام يحتوي على مواد حافظة ” كفيلة بإثارة الشك والامتعاض لدى الكثيرين، وأصبحت شعارات مثل «خضراوات أورجانيك» شعارات محببة للناس لأنها تعدهم بأن هذا الغذاء لا يحتوي على مواد كيميائية شريرة تفترس صحتهم وتؤذيهم في سبيل زيادة أرباح الشركات المنتجة. رغم أن بعض المنتجات قد تحتوي أحيانا بالفعل على نسب أعلى مما هو مصرح به من مواد ما، مما يتسبب في تحويلها لمواد ضارة؛ إلا أن هذه الأحيان هي «حوادث» أو «جرائم» وليست قاعدة علمية تربط بين كيميائية الشيء وكونه سامًا. في أغلب الأحوال عليك أن تعي أن القاعدة هي كالاّتي: ليس كل ما هو طبيعي اّمن وليس كل ماهو صناعي خطر، وفي كلا الحالتين فإن المواد، الطبيعي منها والصناعي، هو كيميائي .
تقنيات دفاع
بإمكاننا إعداد قائمة طويلة بالمواد السامة التي تفرزها النباتات والفطريات لتحمي نفسها من الافتراس، والتي قد تتسرب إلى جسم الأنسان بعدة طرق . مجموعة من أخطر المواد الكيميائية مسببات السرطان هي الأفلاتوكسينات Aflatoxins وهي مواد تفرزها فطريات، المعروفة بالعفن، مثل أسبرجيلس فلافس Aspergillus flavus أو أسبيرجلس باراسيتيكس Aspergillus parasiticus. وهي مواد طبيعية تماما وتتسرب بالفعل للمحاصيل التي نستهلكها خاصة الحبوب . كذلك فإن الأغلبية الساحقة من المواد الحافظة المصرح بها لا تمتلك تأثيرات ضارة البتة، بالإضافة إلى أن هذه المواد قد تكون طبيعية أو صناعية على حد سواء فحمض السلسليك مثلا يعد من أشهر المواد الحافظة المستخدمة وهو مركب نباتي له دور في نمو النبات، كما يعمل مبيدًا حشريًا طبيعيا لحماية النبات. في الواقع نحن ندين لمعظم المواد الحافظة بقدرتنا على تنويع غذائنا وبقدرتنا على إنتاج وتوفير الكميات التي يحتاجها البشر بأعدادهم المتزايدة، وبل وندين لهم بقيمة غذائية مضافة أحيانا.
لذا تجرى العادة أن يقرأ شخص ما رمز ” E260″ مثلا وما يلبث أن يصاب بالقلق ويصب لعناته على العصر الحديث البائس وتسبب المصانع في تدمير صحة البشر بسبب الجشع وهو في الواقع يقرأ الرمز المشير إلى “الخل” حيث يتم وضع رموز لترتيب كل المواد المصرح باستخدامها كمواد حافظة في الإتحاد الأوروبي، بحيث أنه بدلًا من كتابة حمض خليك Acetic Acid يتم كتابة E260 لتعني نفس المعنى. بل بإمكانك أن تجد الأدهى من ذلك حيث أنه حتى وإن كُتب على العبوة ” Acetic acid” بالفعل، ستجد من يخاف من هذا المصطلح بسبب رعبه العام من الكيماويات ممزوجا بعدم درايته بأن Acetic تعني خليك أو خل وهو أمر شائع لا يمكن حله إلا بعلاج هذه الصورة الخاطئة عن المواد الكيميائية والتخلي عن نظرية المؤامرة والبروباجندا النفسية لصالح الفهم والبحث ذي الأساس العلمي.
«في عام 1997 قام طالب يدعى ناثان زوهنر يبلغ من العمر 14 عامًا بعمل عريضة يطالب فيها بمنع مركب كيميائي ادعى أنه سام وأنه يتسرب إلى كل نواحي الحياة اليومية . كان اسم هذا المركب أول أكسيد الهيدروجين أو Dihydrogen monoxide أو ببساطة DHMO. من بين 50 طالبا حاورهم زوهنر بخصوص العريضة، طالب واحد فقط تعرّف على أن هذه المادة ليست إلا الماءH2O»
الآن لنتجول في أعماق بعض المواد الكيميائية المألوفة لديك دون أن تدري. وكتدريب على علاج الرهاب الكيميائي سنبدأ بالاسم العلمي ثم نبين استخدامه المعروف.
2- هيدروكسي-1،4 نافثوكوينون – 2-Hydroxy-1,4 Naphthoquinone
يبدو الاسم لمن لم يسبق له دراسة الكيمياء كتعويذة من فيلم هاري بوتر ولكن هذا ببساطة هو اسم الصبغة التي نعرفها باسم “الحناء” . لهذا المركب عدة أسماء من بينها «حمض الحناء Hennotannic acid» و «اللوسونLawsone».
وبما أننا نتحدث عن الحناء فيجب التنويه على أن الحناء الاّمنة هي الحناء البنية. أما الحناء السوداء التي يستخدمها بعض الناس لعمل بعض الأوشام المؤقتة، خاصة قرب الأماكن السياحية، فإنها قد تتسبب في حساسيات شديدة واهتياج للجلد وندوب قد تبقى مدى الحياة، لذا علينا تجنبها تمامًا. وعلى الرغم من كونها مادة طبيعية وآمنة في أغلب الأحيان، إلا أن الحناء ليست منعدمة التأثير السلبي. حيث يبلغ احتمال الوفاة حالة بلعها 31% لقدرتها على التسبب بفشل كلوي. كذلك بإمكانها إصابة بعضهم بتهيج في الجلد وفي بعض الأحيان النادرة الربو. بالطبع عادة ما يتم تجاهل كلمة «نادرة» إذا كنا نتحدث بنفس المعدلات ولكن عن مادة صناعية.
ثنائي فيرولويل الميثان – Diferuloylmethane
أو يمكننا أن نناديه بالكركمين Curcumin، وهو المكون الأساسي للكركم والمسئول –مع مشتقات منه– عن اللون الأصفر المميز للكركم. بجانب كون الكركم من البهارات المنتشرة الاستخدام –خاصة في الهند وجنوب اّسيا- إلا أنه يتميز بخواص مضادة للسرطان تجعله مادة فعالة ضمن المواد الواقية من السرطان وعاملا مساعدا لتقليل نمو الأورام؛ حيث يقوم الكركمين بوقف نشاط إنزيم APN وهو إنزيم من عائلة إنزيمات الزنك يلعب دورًا أساسيا في عملية تكوين الورم لتفرعات خاصة به من الأوعية الدموية الخاصة بالجسم مما يضمن له إمدادات الدم التي يحتاجها لينمو. تعرف عملية التفرع تلك باسم Angiogenesis وهي عملية طبيعية تحدث خلال النمو سواء في الأجنة أو بعد الإصابات، إلا أن إيقافها هو شرط حاسم للتحكم في الورم الخبيث. ولأن الكركمين مادة اّمنة بلا أعراض جانبية وطالما تم استهلاكها من قبل البشر ولها خواص مضادة للأكسدة ومضادة للالتهاب ومساعدة للجهاز المناعي بالإضافة لقدرته على خفض تكتل الصفائح الدموية وفرط تشحم الدم Hyperlipidemia فهو يعتبر مادة مثالية للقيام بمثل هذا الدور خلال العلاج أو الوقاية.
سيز-3-هكسينال
للحدائق والملاعب والحقول والمساحات الخضراء العشبية الممتدة رائحة مميزة. بعضنا يشير إليها برائحة الانتعاش ومعظمنا يشير إليها ببساطة على أنها رائحة النقاء والهواء النظيف.
الحقيقة هي أنها ليست رائحة ناتجة عن “انعدام” التلوث فقط حيث أنك لن تتمكن من شم نفس الرائحة وسط الصحراء مثلًا . يساعدك انعدام التلوث وغياب الروائح الكثيرة المتداخلة على تمييز رائحة مركب الهكسينال وهذا المركب هو المسئول عن رائحة المساحات الخضراء الممتدة . ولكن ماهو مصدر الهكسينال؟
عادة ما يتم قص الأعشاب لتسويتها في الحدائق والملاعب وكذلك للتخلص من الأعشاب غير المرغوب بها في الحقول. عند قطع الأعشاب يتم تكسير الدهون Lipids المكونة للغشاء الخلوى لخلايا النبات. هنا تتحول هذه الدهنيات إلى أحماض دهنية طويلة مثل حمض اللينوليك Linolic acid وحمض ألفا لينوليك، ثم تتم أكسدتها بفعل الإنزيمات ليأتي بعد ذلك إنزيم اّخر يعرف باسم هيدروبيروكسيد لييز Hydroperoxide lyase ليكسر هذه الأحماض لجزأين، يمتلك أحدهما 6 كربونات والاّخر 12 كربونًا. في أغلب الأحيان يكون الجزء ذو الستة كربونات هو سيز-3-هكسينال، لكن يتم إنتاج جزيئات أخرى معه أيضا، مثل ترانز-2-هكسينال وسيز-3-هكسينول . بإمكان الإنسان تمييز هذه الروائح بتركيزات منخفضة خاصة سيز-3-هكسينال، ولكنه مركب غير ثابت لذا يتحول بعد فترة الى ترانز-2-هكسينال الأكثر ثباتًا، كذلك يتم استخدام سيز-3-هكسينول في صناعة العطور عند الرغبة في إضفاء رائحة عشبية منعشة عليه.
يطلق على الثلاثة جزيئات المذكورة لقب «مركبات ورق الشجر التطايرة Green leaf Volatiles أو GLVs»، وذلك لأنها تنتج عموما عند قطع أي أعشاب أو أوراق شجر أو نباتات.
كانت هذه بعض الأمثلة على أن المواد الكيميائية هي مكونات كل شيء وأي شيء حولنا، من الجزيئات الكامنة في عمق أنوية خلايانا (الحمض النووى DNA) إلى اعتماد رؤيتنا على جزيء الريتينال وتفاعلاته وحتى روائح الأشجار والأعشاب وتكوين الرمال والهواء ذاته. بإمكان الكيمياء إذن أن تخبرنا الكثير عن أنفسنا وعن البيئة المحيطة بل وحتى عن سحب الغاز والنجوم البعيدة في الفضاء العميق.