كيف تتعامل مع مريض بالسكري مقبل على غيبوبة؟
يكاد عقلها يذهب أدراج الرياح طلبوا منها – دون جدوى – أن ترتاح بالمنزل سويعات لتستعيد نشاطها بعد هذا اليوم العصيب، ست ساعات طويلة قضتها معتكفة في البرد القارس على باب العناية المركزة التي تحوي فلذة كبدها المسكين الذي لم يكمل عامه الثاني عشر بعد، ما تزال في حالة من الإنكار والصدمة وتأنيب الضمير.
ليومين ظنت أنه يعاني من انفلوانزا شديدة، حتى جاء هذا الصباح المظلم والولد في إعياء شديد، يشرب بجنون، ولا يكاد يخرج من الحمام حتى يعود إليه مسرعًا حتى أصبح كقطعة إسفنجية اعتصرتها قبضة باطشة. بدأت أنفاسه في التصاعد، وكان لها رائحة غريبة تشبه الفواكه العطِنة. زادت آلام معدته كثيرًا، فهرعت إلى جارتها لتطلب من ابنها طالب السنة النهائية بكلية الطب أن يكشف على الولد.
أرعبها – ولا يزال – سؤاله القلِق «هل يعاني من مرض السكر يا خالتي؟!»، ردت بالنفي القاطع….«لا بد من الإسراع به إلى استقبال الطوارئ حالاَ، وأدعو الله أن يكون شكي خاطئًا».. بصعوبة استجمعت شتات نفسها وطلبت والد الطفل، وفي أقل من ربع ساعة كانوا في سيارة تسابق الزمن.. والموت.
ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا
سنحاول في هذه السلسلة أن نتمثل هذه الآية الكريمة، فالوعي الطبي خاصة بالطوارئ واجب وقت لا يحتمل التأجيل، ولا يقبل القسمة على اثنين.
المستهدف ليس الأطباء المختصين، وإن كانت الموضوعات لن تخلو من تذكرة لهم، ومن منا لا ينسى، لكن المستهدف الرئيس هو غير المختص مهما بَعُدَ مجال دراسته وعمله عن الطب. فكلنا قد نتعرض لمواقف صعبة نتعامل فيها مع حالة طارئة في أنفسنا أو في أقرب الناس إلينا، أو حتى لأحد المارة في طريقنا.
ليس المطلوب منا أن نكون أطباء للطوارئ فهذا فرض كفاية، لكن فرض العين أن نمتلك الحد الأدنى من الوعي الطبي الذي بدونه تكون حياتنا وحياة من حولنا في خطر، كان يمكن الوقاية منه بسهولة، أو كان يمكن للثواني الثمينة مبكرًا فعل السحر في نزع فتيله أو على الأقل تخفيف مضاعفاته.
السكر… القاتل الخفي والمعلن
من الصعوبة بمكان أن تخلو الدائرة القريبة لأي منا من مصاب به، داء السكري كما يحلو للبعض ترجمة اسمه diabetes Mellitus، مبحث رئيسي في الطب الباطني، وواسطة العقد في تخصص الغدد الصماء.
قصته باختصار، أن مادة حيوية تفرزها خلايا جزر لانجرهانز بالبنكرياس هي هرمونالأنسولين، المختص الرئيسي بتنظيم السكر واستخدامه بواسطة خلايا الجسم، إذ يمثل وقودها الحيوي. يعاني مرضى السكري إما من نقص إفرازها أو غيابه تماما، أو ضعف استجابة خلايا الجسم لها؛ فتختلَ التفاعلات الخلوية، ويتراكم السكر في الدم، وخارج مناطق استهلاكه داخل الخلايا، فيؤدي مع الوقت إلى تلف الأعصاب، والأوعية الدموية، والكليتين، واختلال جهاز المناعة.. إلخ، وهذا هو دور السكر كقاتل خفي.
لكن هناك عدة حالات طارئة قد تنجم عن مرض السكري، وقد تودي بالحياة في دقائق أو سويعات قليلة، أخطرها الارتفاع الشديد أو الانخفاض الشديد في سكر الدم. وهذه الحالات هي عين ما نريد في هذه الجولة.
الحالة استقرت… لكن قد يموت المريض في أية لحظة!
هذا هو ما فهمته من الطبيب عندما سألته عن حالة ابنها، ما يزال قلبها مُعلَّقًا بين اليأس والرجاء. انفعلت على الطبيب الذي – في رأيها – لم يبذل وسعًا في طمأنةِ قلبها الذبيح وفي شرح الحالة جيدا، كل ما التقطه فهمها منه أن ابنها يعاني من نوع من غيبوبة السكري.. سكري؟! دمعت عيناها بغزارة عندما تردد هذا الاسم المخيف بداخلها.. هذا الفتى الصغير إن نجا من هذه الأزمة، كيف سيتحمل قسوة المرض اللعين، وشكات الأنسولين؟! لقد أنهك والدها هذا الداء اللعين، وهو الذي كان رجلًا عاقلًا صبورًا.
سمعت الطبيب أيضًا يصف الحالة بكلمة (التحمض الكيتوني) … تذكرت الآن متي سمعت هذه الكلمة المرعبة سابقًا.. كان هذا منذ خمسة عشر عاماً عندما كان والدها في العناية المركزة في مرضه الأخير..
وهنا شعرت بدوار مخيف يزلزل كيانها المتصدع …
إن الحياةَ دقائقٌ وثوانِ
والآن جولة سريعة على بعض نماذج الحالات الطارئة لمرضى السكري، وكيفية تعاطينا كأناس عاديين أو أطباء مبتدئين معها.
1. الانخفاض الشديد لسكر الدم hypoglycemia
أخطر طوارئ السكري، وأسهلها في العلاج إن اكتشفت مبكرًا جدًا. ثوانٍ قليلة تُحدث فارق السماء والأرض في مصير الحالة. دائما السبب جرعة زائدة من الأنسولين أو حبوب خفض السكري، أو تناول الجرعة المعتادة دون إفطار، ويتم تشخيصها بنقص سكر الدم العشوائي «الجلوكوز» عن 70 مجم٪، وتزداد الخطورة بشدة إذا نقص عن 40.
الأعراض الأولية: العرق الغزير، وتسارع نبض القلب والتنفس، والشعور بالغثيان، والدوار. إذا صادفك مريض سكر يشكو من هذه الأعراض، فأعطِه سكريات سريعة الامتصاص ( عصير بالسكر العادي – قطعة من الحلوى أو الشيكولاتة – ماء محلى بالسكر … إلخ) فوراً.
المفارقة أن تلك الأعراض تشبه نسبيًا أعراض الزيادة المفرطة في سكر الدم! لكن لأن انخفاض السكر هو القاتل الأسرع، فيؤول الشك إلى اتجاهه، فإذا لم يتحسن المريض بإعطائه العلاج الأولي، اذهب به إلى أقرب مشفى ل قياسالسكرالعشوائي.
مريض انخفاضالسكر إن تركته دقائق، قد يبدأ بفقدان الوعي تماما وحينها ستزداد صعوبة مهمتك للغاية، ويكون حتما عليك نقله فورًا إلى أقرب مشفى ليُعطى الجلوكوز المركز 25٪ وريديا، وأقل من عشر دقائق من النقص الشديد للجلوكوز – الوقود الأهم للمخ – قد تسبب ضررًا دائما بالمخ irreversible brain insult، ودقائق قليلة أخرى قد تساوي الوفاة الحتمية. في المقابل، يتحسن المريض كمفعول السحر في دقائق قليلة إذا تمَّ التدخل مبكرًا.
لا تحاول أبدًا أبدًا إعطاء أي شيءٍ بالفم لمريض في غيبوبة كاملة أو حتى في بدايتها طالما لم يعد متعاونا قادرًا على تنفيذ أوامرك بالمضغ والبلع الجيد.. إلخ، إذ قد يصب هذا في الجهاز التنفسي، ويسبب التهابًا رئويًا شديدًا aspiration pneumonia.
نصيحة للقاطنين في أشباه دول: وأنت في طريقك إلى المشفى بهذه الحالة، اطلب من أحد أصدقائك أن يلحق بكم بعد شرائه زجاجة جلوكوز مركز من صيدلية كبيرة، خاصة لو كان وجهتك إحدى المشافي العامة.
لمسة لطيفة في أوروبا والدول المتقدمة: يتواجد الجلوكاجون -أمبولات للحقن العضلي تحتوي هرمون الجلوكاجون المضاد لنشاط الأنسولين- في حقيبة الإسعافات الأولية الواجب تواجدها في عربات الإسعاف، والأماكن العامة.. إلخ. . يمكن لأي شخص إعطاءها للمريض، وتستطيع في دقائق علاج الحالة، أو على الأقل منحها وقتًا إضافيًا.
2. الارتفاع الشديد في سكر الدم Hyperglycemia
من أهم الطوارئ الطبية وأشيعها، لكنها قد تمنحك دقائق أكثر للتعامل. ويعتبر السكر العشوائي زائدًا إذا تجاوز 200 مجم٪.
هناك عدة درجات، فمثلا قد يرتفع السكر العشوائي فيتجاوز قياسه 500 أو 600 دون ظهور أعراض على المريض،سوى زيادة في إدرار البول. لكن في أحيان كثيرة أخرى، تتطور الحالة إلى أحد نوعينخطيرين؛ نوبة التحمض الكيتوني DKA Diabetic Keto-Acidosis أو غيبوبة ارتفاع السكر، وأسموزية الدم دون تحمض كيتوني Hyper-osmolar non ketotic coma.
تشترك الحالتان في الإدرار الشديد للبول لزيادة سكر الدم، وزيادة إخراج الكلى له، مما قد يؤدي إلى الجفاف الشديد، وهبوط الدورة الدموية، واختلالات خطيرة في أملاح الدم خاصة البوتاسيوم و الصوديوم، ولا نحتاج هنا للخوض في تفاصيل فنية للتفريق بينهما.
من أشد مخاطر نوبة التحمض الكيتوني أنها قد تكون أول عرض يظهر على الأطفال المصابين بالسكري، وعنصر المفاجأة هذا قاتل. والنوع الآخر غير الكيتوني تشتد خطورته في كبار السن المصابين بالسكري، وقد يقتلهم بالجفاف الشديد في سويعات.
السبب إما نقص في العلاج بالأنسولين أو الأقراص، أو تناول وجبة سكرية دسمة، أو الحالات المرضية كالانفلوانزا، والتهابات مجرى البول.. إلخ، أو التوتر النفسي، أو العمليات الجراحية والتي ترفع سكر الدم رغم أنف الجرعات الدوائية المعتادة.
علاج هذه الحالات لا بد أن يكون في طوارئ مجهزة، وملحق بها عناية مركزة. دورنا تنمية حاسة الشك الطبي، ونقل الحالة مبكرًا، أو استدعاء الإسعاف أيهما أسرع (والإسعاف ما توفر هو الأفضل قطعًا)، ولن نستطيع مبدئيًا إلا التعويض بالسوائل غير السكرية إذا كان الشخص لا يزال واعيًا، لحين النقل إلى المشفى، ويمكن إعطاؤه جرعة الأنسولين المعتادة إن كان نسيها.
ظهور إدرار شديد للبول مع جوع وعطش ملحوظين، يسترعي الشك المبدئي في إصابة الشخص بمرض السكري، ظهور هذه الأعراض وتفاقمها المفاجئ لدى مريض بالسكري بالفعل يسترعي الشك في الحالات الخطيرة المذكورة هنا، وعلى الفور لا بد من نقل المريض إلى أقرب مشفىً للطوارئ خاصة لو صاحبها غثيان شديد أو دوار أو بدايات غيبوبة وفقدان للوعي.
وللوقاية، يفضل متابعة علاج الأطفال وكبار السن المصابين بالسكر، لأن نسيان جرعة، أو عدم التركيز، قد يسبب كارثة. وعلاج أية أدوار برد أو التهابات مبكرًا، وبانتباه شديد لبداية ظهور الأعراض الخطيرة.
نصيحة للقاطنين في أشباه دول: اطلب من نفس صديقك أن يسبقك إلى المشفى ومعه أكبر قدر ممكن من زجاجات المحاليل المعتادة (المحلول الملحي – الجلوكوز 5% )!
3. عندما يضع مريض السكر يده على صدره ألما
حينها تحسس مفتاح سيارتك فورًا واهرع به إلى أقرب طوارئٍ للقلب، أو طلب الإسعاف فورًا إن كان سيسعفك فعلًا! خاصة لو صاحب ألم الصدر عرق غزير وضيق تنفس أو قيء… إلخ، فهو ذبحة صدرية أو جلطة في شرايين القلب إلى أن يثبت العكس، وهي من أهم أسباب وفيات مرضى السكري، خاصة المدخنين، ولهذه الحالات مقال تفصيلي آخر. احرص على النقل الصاروخي للمريض، وألا يتحرك أبدًا أو يبذل أي مجهود مهما بدا بسيطًا حتى يُطمَأنَّ عليه.
4. فقدان الوعي المفاجئ لمريض السكري هو مبدئيًا جلطة بشرايين المخ
خاصة لو صاحبه ضعف أو شلل مفاجئ في أي طرف انقله فورًا إلى أقرب طوارئ أمراض عصبية، ويفضل أن ينقل نائما على جانبه الأيسر حتى لا يصل لعابه أو ما في معدته في حالة القيء.. إلخ إلى جهازه التنفسي، ويحدث الالتهاب الرئوي. وأيضًا لكل هذا رحلة أخرى معنا.
لا تصدق حتى الآن أنه ما يزال للنهايات السعيدة مكانٌ في عالمنا، هي الآن بجوار طفلها في طريقه لمنزله بعد ثلاثة أيام فقط من الكارثة، أخدت تدعو للأطباء وخاصة ابن جارتها بالخير ألف دعوة في الثانية!
حفظت عن ظهر قلب تعليمات الخروج فيما يخص طعامه الطفل ونشاطه، والأهم.. جرعات الأنسولين ومواعيدها الدقيقة، وكذلك أعراض نقص أو زيادة السكر ستحتضن طفلها عدة أيام متواصلة، وستشرح له بمنتهى الهدوء حالته دون أن ترعبه، وستتعهد أمام الله ألا تتكرر له هذه المحنة مجدداً.