كيف نحارب الوحش دون أن نُصبح وحشًا مماثلًا
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
التطرف العنيف هو ظاهرة عالمية ولها أسبابٌ عديدة. قد تحفزها أفكارٌ دينية أو علمانية أو قومية. إنها ترتبط أيضًا بالظروف الاجتماعية والسياسية التي يتشكل فيها رد فعل الأفراد تجاه ما يعتبرونه ظلمًا وقمعًا هائلًا. تلعب الحروب والاقتتال الداخلي والحروب الأهلية والعداوات القبلية والدول الفاشلة والعديد من العوامل الأخرى دورًا في صعود وانتشار التطرف العنيف. هناك أكثر من سبب واحد لظهور التطرف العنيف ونحتاج إلى تبني نهج متكامل لفهم أسبابه والعمل على عدة مستويات لاحتوائه ومنعه.
أسباب ودوافع ظهور التطرف العنيف:
يتطلب مثل ذلك النهج العمل بشكل رئيسي على مستويين: مستوى الأفكار ومستوى الحقائق. التطرف العنيف هو قوة دافعة للعديد من الجماعات الإرهابية من داعش وحزب العمال الكردستاني إلى إيتا والبوذيين القوميين المعادين للمسلمين في ميانمار «بورما». تتطلب مواجهة هؤلاء حرب أفكار يتم فيها رفض محاولات تبرير السبل الإرهابية بالاعتماد على مصادر حقيقية ذات سلطة.في حالة داعش، فضح العلماء والقادة الدينيين المسلمين أيديولوجيتهم المتطرفة وأظهروا مغالطة منطقهم. أحد الأمثلة الجيدة على ذلك الجهد هو خطاب عدد كبير من علماء الدين والأكاديميين المسلمين البارزين إلى أبو بكر البغدادي، قائد داعش، عام 2014. رفض الكثير من علماء الدين وقادة المجتمع الآخرين أيديولوجية داعش المتطرفة ومحاولاتها العقيمة لتبرير أيديولوجيتها البربرية.لكن رفض قاعدة داعش المنهجية ليس كافيًا. يحتاج المرء إلى إظهار مدى تشويههم واختطافهم لرسالة الإسلام الجوهرية. بالفعل، تناقض أيديولوجية داعش وممارستها تمامًا معتقدات وطرق معيشة أكثر من 1.7 مليار مسلم حول العالم. لكن مجموعة صغيرة من المتطرفين ما تزال قادرة على استخدام الدين لتبرير وحشيتها. بالطبع هذه ليست مشكلة تخص بالإسلام فقط. تعرضت اليهودية والمسيحية والبوذية والديانات الأخرى إلى انتهاكاتٍ مماثلة وتفسيراتٍ متشددة. من باروخ جولدشتاين إلى أندرس بريفيك، قام الكثيرون بأعمالٍ إرهابية باسم دينهم و/أو بلدهم و/أو أيديولجيتهم.كيف يمكن مواجهة تشويه الإسلام؟
كيف يتم حماية الدين من هؤلاء الذين يحاولون تشويهه من أجل أهدافهم المتطرفة هو سؤالٌ محوري بالنسبة لجميع المعتقدات. هل المبادئ المقدسة في المصادر الدينية كافية لمنع التفسيرات المتطرفة؟ ما هي المبادئ المنهجية التي تحافظ على المسار الوسطي للإسلام وتعالج أسئلة العدل والسلام والحرية في المجتمعات المسلمة الحديثة؟إن التقليد الإسلامي الفكري والقانوني لديه القدرة على منع التطرف العنيف. يمتلئ التاريخ الاجتماعي والثقافي الإسلامي بأمثلة على كيف يمكن لثقافة السلام والتسامح أن تنمو وتزدهر من بغداد وسمرقند وأصفهان إلى أسطنبول وسراييفو وقرطبة. اليوم، على العلماء والقادة الدينيين المسلمين إيجاد طرقٍ جديدة ومبتكرة لمنع الشباب من السقوط في أيدي المتطرفين العنيفين سواء في العواصم الأوروبية أو المدن المسلمة. المشكلة هي أن تلك الرسالة عادةً ما تضيع وسط تطرفات النظام العالمي القائم. ينقلني هذا إلى معركة الحقائق على الأرض. سببت الحروب والاحتلالات العنيفة في التاريخ الحديث بعض أكبر المآسي الإنسانية في التاريخ الإنساني. إرث الاستعمار والحربين العالميتين واستخدام القنبلة الذرية وانتشار أسلحة الدمار الشامل والتطهير العرقي للمسلمين البوسنيين في التسعينيات والمذابح في أفريقيا، على سبيل المثال لا الحصر، هي من بين الكوارث العالمية التي قادت إلى موت ملايين الأشخاص حول العالم. خلقت التأثيرات طويلة المدى لتلك الأحداث تطرفاتٍ وإفراطات تستدعي «سوبر مان» نيتشه والأرض اليباب لتي إس إليوت و1984 لجورج أورويل. الصفة المشتركة بين تلك الأعمال هي الشعور بالوجود في حالة حرب أبدية.هذا هو نفس الشعور الذي يشعر به السوريون اليوم في وجه الحرب الوحشية والإجرامية التي يشنها نظام الأسد. يستخدم إرهابيو داعش والآخرون الحرب السورية لنشر أيديولوجيتهم المتطرفة وتجنيد أعضاء جدد. أصبحت الحرب في سوريا أداةً جيدة في يد أي جماعة أو دولة ترغب في فرض سياستها على منطقة الشام. إنها خلفية للعبة تنافس عالمية ليست فقط وحشية وغير مسؤولة وإنما مكلفة وخطيرة على أمن الجميع من الشرق الأوسط إلى أوروبا والولايات المتحدة. طالما ظل نظام الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة واستمر داعموه في تدمير سوريا لمصلحتهم، فإن داعش والمجموعات المشابهة سوف تجد في الفوضى والدمار أدواتٍ مناسبة لتشر تطرفهم العنيف.لكن داعش هي العَرَض فقط لمشكلةٍ أكبر – مشكلة تمتد إلى قلب تطرفات العالم الحديث: فشل النظام الدولي، الشعور باليأس والعدمية، المظالم السياسية والاقتصادية، والعلاقة المتوترة بين التقليد والحداثة.مثل جميع الحركات المتطرفة، سواء كانت دينية أو علمانية، قد تسعى داعش إلى تبرير تطرفها باللجوء إلى مصادر أخرى – مصادر إسلامية في حالتها. مثل القرآن أو حياة النبي محمد. كما يشير الكثير من علماء الدين والمفكرين المسلمين، يمكن أن تستخدم منهجية مضللة وأيديولوجية في غير محلها لتشويه أي نص ديني وواقعة تاريخية. تسيء القاعدة وبوكوحرام وداعش استخدام المصادر الدينية لصناعة أيديولوجية متطرفة.قد يقتبس أعضاء داعش آياتٍ من القرآن أو يهتفون الله أكبر. لكن ذلك لا يجعل أفعالهم دينية أو مقدسة. يحذر القرآن نفسه ضد هؤلاء الذين يحاولون التلاعب بأوامر الله لمصالحهم الخاصة. داعش هي مثال نموذجي لمنظمةٍ تسعى إلى السلطة وتستخدم تبريراتٍ دينية لكنها تفشل في النهاية على مستوى الاتساق المنطقي والسلطة الدينية.هل التطرف ظاهرة دينية في ذاته؟
النقطة المحورية هي أن التطرف ليس بالضرورة أو حصرًا ظاهرةٌ دينية. إنه لا يحتاج الدين ليظهر. مثل الوباء، ينتقل التطرف من مكانٍ إلى آخر ويتخذ صورًا علمانية ودينية وقومية وقبائلية. في أحيانٍ كثيرة، لا يتعلق الأمر ببعض المسلمين الذين يصبحون فجأة أصوليين و/أو متطرفين، وإنما ينتشر التطرف بينهم ويتخذ طابعًا دينيًا.ليس من المنطقي قصر التطرف على عمليات القتل العنيفة فقط. عمليات القتل تلك، مثل التي قامت بها داعش مؤخرًا على سبيل المثال، يجب أن يتم إيقافها. لكن لا يجب أن يغيب عن بالنا الصورة الأكبر هنا: إننا نعيش في عصر التطرف «الحدود القصوى» حيث فعل شيء بطريقةٍ عادية ومعتدلة ليس «جذابًا» ولا يعتبر قاعدة. بطرقٍ خفية تعتمد على اللاوعي، يضطر النظام الحالي للعلاقات السياسية والاقتصادية الناس إلى الحواف والحدود القصوى.التطرف لا يمكن وصفه فقط بكونه ظاهرة دينية وإنما قد يرتبط بظواهر قبيلة وقومية وعلمانية
في أغلب حالات التطرف الناشئ، ليس هناك خط واضح بين اتخاذ موقف صارم وراديكالي من أجل العدالة والوقوع في التطرف. هناك أحيان على المرء فيها أن يكون راديكاليًا ومتصلبًا: عندما يكون واجبك هو حماية النساء والأطفال، وحقوق الإنسان، وحقوق الأقليات، والقتال ضد احتلال بلادك، ومحاربة الإرهاب. لكن أين تنتهي تلك «الراديكالية» المبررة أخلاقيًا وأين يبدأ التطرف العنيف هو حيث تصبح الأمور دقيقة وحساسة.هنا نحتاج إلى إعادة تقييم أولوياتنا الحديثة وفحص الاتجاه العام للوضع الحالي للإنسانية. رفض التطرف بكل أشكاله سواء تطرف داعش أو عمليات القتل الطائفي أو إطلاق النار في المدارس أو عنف هوليود سوف يكون الخطوةدول فاشلة، حكومات ضعيفة، تهديدٌ عالمي:
هناك أسبابٌ عديدة لانتشار التطرف العنيف لكن أحد الأسباب الرئيسية هو حقيقة الدول الضعيفة والفاشلة.تعرّف الدولة الفاشلة عادةً بأنها دولة غير قادرة على توفير الأمن والخدمات الأساسية لمواطنيها. غياب سلطة مركزية قوية يخلق مشاكل حادة ليس فقط لمواطني تلك البلد ولكن أيضا لجيرانها. تلوم أفغانستان وباكستان إحداهما الأخرى على انعدام القانون والإرهاب على طول حدودهما المشتركة لكن الحقيقة هي أن كلا الدولتين، بدرجاتٍ متفاوتة، تفشلان في فرض النظام والأمن في جميع أراضيها. تجعل تحديات الفقر والأمية والتحديات الجعرافية والولاءات القبلية والمجتمعية من الصعب على كلا الدولتين تطبيق القانون.يصبح الخطر الذي تشكله الدول الضعيفة والفاشلة على النظام الإقليمي والعالمي مضاعفًا مع عولمة المشاكل المحلية. يمهد غياب مؤسسات حكومية فعالة الطريق للاضطرابات وغياب القانون والإرهاب. العاقبة الأكثر تدميرًا هي فقدان الثقة في الدولة وحكم القانون. من الصومال وجمهورية الكونغو الديمقراطية إلى سيراليون وهايتي، تضاعف السياسات غير المساعدة للفاعلين الإقليميين والدوليين من تأثير مشكلات الدول الضعيفة و/أو الفاشلة.منذ التسعينيات قُتل حوالي 10 ملايين شخص، أغلبهم مدنيون، في حروبٍ في وبين دولٍ فاشلة حول العالم. بالمقارنة بالهجمات الإرهابية الفردية التي تجذب انتباه الإعلام العالمي لوهلة، فإن حوادث القتل والتدمير المرتبطة بالدول الضعيفة الفاشلة هائلة بأي مقياس.منذ أن بدأت الثورات الشعبية العربية عام 2011، ظهرت مشكلة جديدة: القابلية للحكم. هناك ست دول في العالم العربي اليوم إما تفتقد مؤسسة حكم قوية أو تديرها حكومات ضعيفة ومفتتة. في سوريا وليبيا، انهارت مؤسسات الدولة، ما قاد إلى حربٍ أهلية واقتتالٍ داخلي. في اليمن والصومال، الحكومة المركزية ضعيفة للغاية وغير قادرة على فرض سلطتها. تسعى العراق إلى التعافي لكن حوالي ثلث أراضيها تسيطر عليها داعش. بينما تفتقر لبنان إلى أي مؤسسة حكم قوية منذ نهاية الحرب الأهلية.خارج العالمي العربي، تظل بلدانٌ مثل هايتي وجمهورية أفريقيا الوسطى وبنجلاديش، رغم أن كلًا منها لديها ظروفها الخاصة، عالقة في منطقة خطر الدول الفاشلة.يعاني مواطنو تلك البلدان من تبعات انعدام الأمن والقانون والفقر والاقتتال الداخلي. لكن الخطر يمتد إلى النظام الإقليمي والعالمي. يعتمد النظام العالمي الحالي على الدول القومية لفرض السلام والأمن في أراضيها. يقوض الفشل في القيام بذلك كلًا من النظام العالمي والإقليمي.لا يمكن المغالاة في وصف تأثير الدول الضعيفة والفاشلة في صعود وتمويل وانتشار الإرهاب. أصبحت داعش منظمة إرهابية قوية بسبب السياسات الانتحارية لنظام الأسد التي حولت مناطق سوريا غير المحكومة إلى أرضٍ خصبة للمسلحين. مكّن غياب حكومة مركزية قوية في العراق، مع سياسات حكومة المالكي الطائفية والمسببة للانقسام، داعش من السيطرة على مناطق إستراتيجية في العراق.لا يأتي الإرهاب بالضرورة من الدول الفاشلة فقط. الإرهاب المحلي في الدول الغنية هو نتيجة مجموعة معقدة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. لكن شيئًا واحدًا يظل واضحًا: حيث تفشل مؤسسات الدولة، تملأ الجماعات الإرهابية وأمراء الحرب الفراغ.في وجه الدول الفاشلة والحكومات الضعيفة، لا تستطيع الرموز السياسية المسؤولة والمجتمعات المدنية والقادة الدينيين تغيير مسار الأحداث في بلدانهم. هؤلاء في الغرب الذين يتهمون المسلمين بعدم إدانة الإرهاب تفوتهم تلك الحقيقة الأساسية. تدين الرموز الدينية وقادة المجتمع التطرف العنيف والإرهاب لكنهم يعانون من نفس تبعات الدول الضعيفة والفاشلة.ساهم إرث الاستعمار والمشاكل المحلية والقومية والمظالم البنيوية للنظام العالمي القائم في صعود الدول الفاشلة في القرن الحادي والعشرين. تفاقم السياسات المتمحورة حول الذات والمسببة للانقسام للدول القوية والفاعلين من غير الدول من المشكلة.
الحاجة إلى استراتيجية جديدة في مواجهة داعش:
أماطت الهجمات الإرهابية الأخيرة في أنقرة وإسطنبول وبغداد وبروكسل وباكستان اللثام مرةً أخرى عن الطبيعة الهشة للعالم الذي نعيش فيه. لكنها أيضًا تؤكد على الحاجة الملحة إلى إعداد سياسات جديدة في مواجهة التطرف العنيف والإرهاب بجميع أشكاله.يمكن هنا استخلاص ثلاثة دروس رئيسية. أولًا، يجب مراجعة إستراتيجية مواجهة داعش. ليس هناك شك في أنه يجب تدمير ذلك التهديد. على البلدان الإسلامية والغربية العمل معًا للقضاء على داعش والقاعدة والجماعات الإرهابية الأخرى سواء في سوريا أو العراق أو الصومال أو فرنسا أو بلجيكا. لكن الإستراتيجية الحالية، والتي ركزت بشكل رئيسي على القصف الجوي لأهداف داعش في سوريا والعراق، قد فشلت في منع داعش من القيام بهجمات في سوريا وتركيا وأوروبا والولايات المتحدة. تستمر الحرب في سوريا في تغذية وحش داعش. كلما تركنا الحرب تستمر، أصبح إرهاب داعش أكثر دموية. كان السبب الرئيسي لوصول داعش إلى المستوى الحالي من الشبكة والتأثير هو الحرب في سوريا والمشاكل الأمنية والسياسية العميقة في العراق.لا ينبغي أن يجعلنا إرهاب داعش ننسى حقيقة أن نظام الأسد قد قتل ما يصل إلى 400 ألف شخص، أكثر من أي منظمة إرهابية. لقد حول ملايين السوريين إلى لاجئين وتسبب في نزوح ملايين آخرين داخل البلاد. تجاهل هذه الحقيقة البشعة باسم محاربة داعش يعمق الشعور بالعزلة والسخط. من المفارقة أن الدعم الروسي لنظام الأسد يغذي داعش والتي ترى الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 والدعم الحالي للأسد مبررًا لوجودها.ثانيا، ليس هناك إرهابيين جيدين و إرهابيين سيئين. بغض النظر عن الدوافع العرقية أو الدينية أو السياسية، الإرهاب هو إرهاب في كل مكان. ليس من المنطقي أو الأخلاقي معاملة داعش كمنظمة إرهابية نفذت هجماتٍ في باريس وبروكسل بينما لا يتم تطبيق ذلك على حزب العمال الكردستاني الذي نفذ هجماتٍ في أنقرة مرتين الشهر الماضي. عبر السماح لحزب العمال الكردستاني بالتلاعب بالنظام في أوروبا، تفشل بلدان الاتحاد الأوروبي في اختبار الاتساق في مواجهة الإرهاب. لا يمكن تبرير إرهاب حزب العمال الكردستاني باسم محاربة داعش في سوريا. كما تظهر الهجمات الأخيرة في أنقرة وإسطنبول، فإن داعش وحزب العمال الكردستاني، رغم أنهم يأتون من خلفياتٍ أيديولوجية وسياسية متناقضة، متحدين في إرهابهم الموجه ضد تركيا.
لابد من عمل مراجعة لأسلوب مواجهة المتطرفين على سبيل المثال داعش، مع التأكيد على أن المردود السيء على المسلمين جراء الهجمات الإرهابية يرجح كفة المتطرفين ويزيد من إنتشارهم
في الوقت الحالي فإن مشاركة الاستخبارات والتعاون ضد الإرهاب محوريين لمنع الحوادث المستقبلية. كما أصبح واضحًا عقب هجمات بروكسل، فشلت السلطات البلجيكية في التحرك بناءً على الاستخبارات التي وفرتها تركيا بمذكرةٍ رسمية تفيد بأن إبراهيم البرقوقي، أحد الانتحاريين، هو مقاتل إرهابي أجنبي. تم القبض على البرقوقي في غازي عنتاب ثم ترحيله في يونيو 2015 إلى هولندا حسب طلبه.
على مدار الأعوام الثلاثة الماضية، رحلّت تركيا أكثر من ثلاثة آلاف شخص ووضعت 37,000 آخرين على قائمة منع الدخول بسبب روابط محتملة بالإرهاب. يأتي عدد كبير من هؤلاء الأشخاص من بلدانٍ أوروبية.
ثالثًا، يصب رد الفعل المعادي للمسلمين عقب كل هجوم إرهابي في صالح المتطرفين العنيفين. لم يضع الإسلاموفوبيون الأوروبيون والامريكيون وقتًا في استخدام الهجمات الأخيرة لاستغلال الشعور المعادي للمسلمين لتحقيق أهدافهم السياسية. إن تنميط النقاشات بشأن الإسلام والمسلمين يضر بالحرب ضد الأصولية والتطرف العنيف. إنه يستعدي الأغلبية العظمى من المسلمين ويساعد المتطرفين. إن استخراج جوهر الإسلام لا يحل أي مشاكل سياسية أو يزيد أمننا. بالإضافة إلى ذلك فإن داعش لا تجند حصرًا عن طريق اللاهوت؛ إنها تتلاعب بالحقائق السياسية وتجند صغار المجرمين والمغامرين وغير الأسوياء من كافة مناحي الحياة. لا يحتاج العنف إلى دين لتبريره.
تظهر الدراسات أن المتطرفين اليمينيين يقتلون أشخاصًا أكثر من الإرهابيين ذوي الأسماء الإسلامية. ما هو أسوأ هو حقيقة أن الإسلاموفوبيا والعنصرية ضد المسلمين قد أصبحتا منصة حشد لكلٍ من الدوائر اليمينية المتطرفة واليسارية في الغرب. تستدعي جماعات اليمين المتطرف النقاء العرقي والديني في مواجهة مجتمعات الأقلية المسلمة بينما يلجأ الخبراء اليساريين الليبراليين إلى النسوية والعلمانية، من بين أفكارٍ أخرى، لشيطنة المسلمين. ما يوحد هؤلاء الحلفاء غير المتوقعين هو تنميطهم الجماعي للإسلام والمسلمين.محاصرين بين التطرف العنيف والعنصرية المعادية للمسلمين، يتحول المسلمون العاديون إلى ضحايا مرتين. من ناحية، هم يعانون من هجماتٍ وحشية لداعش في أماكن مثل سوريا والعراق حيث قتلت داعش مسلمين أكثر من غير المسلمين. ومن ناحيةٍ أخرى، يخضع الإسلاموفوبيين، الذين يستخدمون إرهاب داعش لتحقيق مكاسب سياسية رخيصة باستخدام موجة العداء للمسلمين، المسلمين العاديين للتمييز والجرم بالتبعية والعنصرية، وهي انتهاكات لا يجرؤون على ارتكابها ضد مجموعاتٍ أخرى.يُطلب من المسلمين التنديد بداعش وأمثالها. هم يفعلون. لكن ذلك لا يسجل كحقيقة ولا يصل إلى التحليلات السياسية اليومية كمعطى. في كل مرة يقع حادثٌ إرهابي، يتحول المسلمون إلى متشبهٍ بهم محتملين. لكن نفس الشك لا يتم تطبيقه على الألمان العاديين فيما يتعلق بالنازيين الجدد أو النرويجيين فيما يتعلق بأندرس بريفيك أو الأمريكيين فيما يتعلق بكو كلوكس كلان وتيموثي مك فاي. الإرهابيين الأوروبيين والأمريكيين لا يعاملون كإرهابيين مع القليل للغاية من التحليلات بشأن دينهم وهويتهم الثقافية أو غيابها.
التعددية والمسألة الإسلامية في أوروبا:
هنا، دعوني أتحول سريعًا إلى قضية تغذي المتطرفين العنيفين في العالم الإسلامي، وهي موجات العداء الإسلام والعنصرية التي تصب في صالح داعش والقاعدة وأمثالهما.في سيناريو أصبح معتادًا تمامًا، بعد كل هجوم إرهابي في الغرب، يتحول النقاش ليدور حول التعدد وما الذي يجب فعله تجاه «المسألة الإسلامية».في كتابها المتبصر المعنون «عن المسألة الإسلامية»، تطبق العالمة السياسية آن نورتون مبدأ «المسألة اليهودية» لكارل ماركس على النقاشات الجارية حول الإسلام والمسلمين في أوروبا والولايات المتحدة. بالنسبة لماركس، كانت «المسألة اليهودية» اختبارًا للتنوير. كان نجاح أو فشل مشروع التنوير يعتمد على قبول أو رفض اليهود في أوروبا الجديدة كبشرٍ ومواطنين أحرارٍ ومتساوين. متحررين من الخوف من التبعية والقمع والانصهار، كان من المفترض أن يكون اليهود، الذين تم ذمهم واضطهادهم كأقلية مشتبهٍ بها لقرون، جزءًا من المجتمع الأوروبي الجديد. كان من الممكن أن تفتح المسألة اليهودية آفاقًا جديدة من الفرص والتعددية الثقافية والتعايش المشترك في الغرب. بدلًا من ذلك، انتهى الأمر بواحدةٍ من أفظع حلقات التاريخ الأوروبي الحديث: الهولوكوست.
اليوم، يبدو أنه تم استبدال المسألة اليهودية بـ«المسألة الإسلامية». تجادل بروفيسور نورتون بأن ما على المحك فيما يتعلق بالمسألة الإسلامية ليس الإسلام والمسلمين بحد ذاتهما وإنما الغرب نفسه، وتصوره عن المنطق والحرية والمساواة والعدالة والتعددية. من اليمين المحافظ إلى اليسار الليبرالي، تشكل التخوفات المحلية بشأن الحياة الحضرية والهجرة والرأسمالية والبطالة والسياسة الحزبية والجنس والعرق والاستهلاكية والدين والأخلاقية ومجموعة من القضايا الأخرى التي يمكن مناقشتها بسهولة بدون الإشارة إلى الإسلام أو المسلمين أو الشرق الأوسط؛ النقاش حول الإسلام. وهكذا فإن التخوفات الاجتماعية والسياسية للمجتمعات الغربية تمثل صورةً مشوهة لكلٍ من الإسلام والغرب وتسمم العلاقة غير المستقرة بين الإسلام والغرب.لكن الإشارة إلى الإسلام في مثل تلك النقاشات تجلب درجة من الارتياح لأنها تسقط المشكلة على «آخرٍ» في عالمٍ بعيد. وبالتالي فإن الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور محق عندما يقول إن الجدل الحالي بشأن التعددية الثقافية في البلدان الغربية قد أصبح جدلًا بشان الإسلام والمسلمين. حسب تايلور، أصبحت التعددية الثقافية مشتبهًا بها ويتم ربطها بالإسلام لأن «كل أسباب التراجع الواضح للتسامح تقريبا تتعلق بالإسلام».بعد كل لحظة أزمة، يتحول «الإسلام» إلى جزءٍ من النقاش المرتبك حول المدى الذي ستذهب إليه التعددية الثقافية. يهيمن التفكير الكتلي والتنميط على الأحاديث السياسية والإعلامية بشأن الهوية الحقيقية المفترضة وروح أوروبا في مقابل المجتمعات المسلمة.ترد المجتمعات المسلمة بعقليةٍ مشوهة ومرتبكة بنفس القدر، حيث تطبق نفس التفكير الكتلي والتنميط على نفس المجتمعات الغربية التي تشتكي منها. يصل تعطل التواصل المنطقي بين المجتمعات المسلمة والغربية مستوياتٍ مزعجة من الإرباك والأحكام المسبقة وعدم الثقة. حسب مؤشر جالوب العالمي لعام 2007، «يقول المسلمون حول العالم إن الشيء الوحيد الذي يستطيع الغرب فعله لتحسين علاقته بمجتمعاتهم هي أن يجعلوا تصوراتهم عن المسلمين أكثر اعتدالًا ويحترموا الإسلام».
تلفت دراسة أخرى قام بها المنتدى الاقتصادي العالمي عام 2008 ونشرت بعنوان الإسلام والغرب: تقرير سنوي عن حالة الحوار النظر إلى الأغلبية الساحقة من المسلمين التي تعتقد بأن الغرب لا يحترم الإسلام، بينما يحمل الكثير من الغربيين تصورًا معاكسًا ويعتقدون أن الغربيين يحترمون المسلمين. ذلك ليس مجرد انقطاع تواصل. هناك حاجة إلى الكثير من العمل هنا لتجاوز تلك الهاوية الذهنية.على نحوٍ مشابه، تخون ثقة الأوروبيين في نموذجهم التعددي للحياة السياسية والاجتماعية شعورًا بالانفصال إن لم تكن غطرسة صريحة. في عام 2007، قالت لويز أربور، مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان آنذاك، إن «التعصب والأحكام المسبقة، خاصةً فيما يتعلق بالمسلمين، شائعين في أوروبا». برؤيتها للخطر الأكبر، دعت أربور الحكومات إلى «معالجة القضية». لكن في ملاحظة مهمة، أضافت أن الأوروبيين «يصدمون أحيانًا عندما يتم الإشارة إلى أن التعصب والأحكام المسبقة والتنميط ما تزال حاضرة في تعاملهم مع الآخرين».
أزمة في العالم الإسلامي:
في ملاحظاتي الختامية، دعوني أتجه إلى العالم الإسلامي، والذي يحتاج إلى إجراء مراجعةٍ لنفسه وإعادة تقييم أولوياته.كونه غير واثق من نفسه ولا ينخرط في العالم على نحوٍ بناء، يتأرجح العالم الإسلامي بين مجد ماضٍ باهر وفتور وبؤس الحاضر. تعاني الكثير من الدول الإسلامية من أزماتٍ سياسية وتخلفٍ اقتصادي وبنية تحتية ضعيفة وتعليمٍ سيء وانعدام التنافسية في العلوم أو التكنولوجيا ومدنٍ ملوثة وسيئة الإدارة ومخاطر بيئية. كما يشلها غياب العدالة الإجتماعية والإجحاف تجاه المرأة والصراع الطائفي والتطرف والعنف والإرهاب. تضيع تعاليم الإسلام الجوهرية من سلامٍ وعدلٍ وتراحم في السباق الوحشي من أجل القوة الدنيوية.خلق إرث التدخلات الإمبريالية والدول الفاشلة والفقر والأمية والشعور بالحرمان والتهميش جروحًا عميقة في المشهد الاجتماعي والسياسي في الشرق الأوسط. أصبحت سياسات هوية مثيرة للانقسامات أداةً أيدولوجية قوية. باسم الدين أو القومية أو معاداة الإمبريالية، استخدم الانتهازيون السياسيون والمتطرفون مظالم الأشخاص العاديين طويلة الأمد لخدمة أهدافهم السياسية.كل ذلك صحيح، وأكثر: لقد خانت الديمقراطيات الغربية قيمها ومبادئها. لقد وقفوا متفرجين أمام احتلال فلسطين وتوسعه لما يقارب الخمسين عامًا، ودعموا انقلابًا في مصر، وخلقوا ظروفًا كارثية في العراق، وفشلوا في دعم الشعب السوري، وتجاهلوا معاناة الملايين في ميانمار والصومال وأماكن أخرى. إنهم أكبر منتجي الأسلحة الأكثر فتكًا في تاريخ الإنسانية ويبيعونها إلى بلدانٍ فقيرة. إنهم يديرون نظامًا اقتصاديًا يخدم الأغنياء ويبقي على الفقراء في القاع. يبرر البعض التمييز والعنصرية ضد المسلمين باسم محاربة التطرف الديني. كل ذلك صحيح، وتظل القائمة طويلة.
لكن لوم الآخرين فقط لا يحل مشاكلنا، وإنما يقود إلى خمولٍ فكري وجمودٍ اخلاقي. لا بأس من الافتخار بالإنجازات العظيمة للحضارة الإسلامية القديمة، والتي ينبغي علينا جميعًا التعلم منها. لكن الأهم والأكثر جدوى هو إعادة إنتاج تلك الإنجازات اليوم، وهو الأمر الذي ينبغي أن يكون مهمة نظام تعليمي فعّال. من غير المجدي الاكتفاء بلوم الغرب أو النظام الدولي على أوضاع العالم الإسلامي السيئة بدون إيقاف النزيف في المجتمعات المسلمة أولًا.إن لحظة تأمل لكفيلةٍ بكشف الحقيقة المرة: تمامًا مثل بلدان العالم القوية، خان المسلمون أيضًا تراثهم. لقد سمحوا بالظلم وعدم المساواة والفقر والتطرف والإرهاب بالنمو بينهم. لقد فشلوا في معالجة المظالم المشروعة بطرقٍ مقبولة أخلاقيًا وفعالة عقلانيًا. بدلا من العمل لحل مشكلاتهم بحكمةٍ وصبر، لجأ المسلمون إلى التعصب والعنف. كانت النتيجة هي انتشار جماعات التطرف العنيف التي تقوض المبادئ والتعاليم الأساسية للإسلام.يحتاج العالم الإسلامي إلى لحظة تأمل ومراجعة. يجب أن يبدأ ذلك من الداخل. يركز الإرث الفكري الإسلامي على التكامل بين الظاهر والباطن: الظاهر هو انعكاس ما بداخلك، والجيد بداخلك يجب أن يخرج ويقيم السلام والعدل والرحمة في العالم الخارجي. كما يقول القرآن: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَابِأَنفُسِهِمْ».يجب أن يخطو القادة والباحثون ورجال ونساء الأدب والأعمال والمجتمع المسلمون إلى الأمام لبناء ثقافة تقوم على الإيمان والعقل والفضيلة. إنهم يستطيعون وينبغي عليهم إعادة تأسيس ثقة العقيدة الإسلامية بنفسها بدون تكبر وبدون التمييز ضد أصحاب العقائد الأخرى. إنهم يستطيعون إيجاد الطريق للانخراط في العالم على نحوٍ مبدع وبنّاء تماما مثلما فعل الفارابي وابن سينا في الفلسفة، والبيروني وابن الهيثم في العلوم، وابن العربي ومولانا جلال الدين الرومي في الروحاني، وحكام الأندلس في جنوب أوروبا، والكثير مما فعله الحكام والعلماء والفنانون المسلمون كلٍ في مجاله.يجب أن تستثمر الدول الإسلامية، التي وُهِبت موارد طبيعية غنية، في التعليم والحكم الرشيد والتنمية العمرانية والقضاء على الفقر وتمكين المرأة والشباب. هناك فقط عددٌ قليل من الدول الإسلامية تستثمر جديًا في تلك المجالات. يجب على المزيد من البلدان استخدام مواردها على نحوٍ أفضل حتى تصبح الأراضي الإسلامية مجددًا أرض سلامٍ وعدلٍ وإيمانٍ وعقلٍ وفضيلة.يتطلب هذا حكمًا أفضل وسياسةً أفضل وتخطيطًا أفضل. لكن قبل كل شيء، يتطلب هذا ثورة للعقل نعيد فيها تحديد علاقتنا بالعالم ونعامله كـ«أمانة» أعطيت لنا. يبدأ كل هذا بتنقية ما بداخلنا والاعتناء بخلق الله بذكاءٍ وتراحم.
* المقال مستمد من كلمةٍ ألقاها بمنتدى الشرق في إسطنبول أوائل أبريل.