كيف تواجه العنصرية في أمريكا والعالم؟
بينما يتابع العالم تطورات أرقام مصابي وضحايا فيروس كورونا تندلع موجة هائلة من المظاهرات في معظم المدن والولايات الأمريكية في أعقاب مقتل «جورج فلويد» البالغ من العمر 46 عامًا، ويعتبر قتله حلقة في سلسلة من الجرائم العنصرية ضد الأمريكيين من أصل أفريقي، ولكن هذه المظاهرات تعتبر الأكبر من حيث الانتشار والخطر من حيث توقيتها في ظل تصاعد الأزمة الاقتصادية التي تواجه حاكم البيت الأبيض ذي التوجه اليميني والعنصري المتطرف.
انتفاضة أمريكية
انتقلت الاحتجاجات الواسعة من مدينة مينيابوليس إلى واشنطن ونيويورك ومن لوس أنجلوس إلى أتلانتيك وأوكلاند وميتشيجن وعشرات المدن الأمريكية، وفي هيوستون وحدها اعتقلت الشرطة أكثر من 200 متظاهر لتتمكن من تفريق المظاهرات، وزاد اشتعال الاحتجاجات الجماهيرية أن المدعى العام لمدينة مينيابوليس غير الاتهام لضابط الشرطة القاتل من القتل العمد إلى القتل الخطأ، فقد شهدت مينيابوليس تاريخًا طويلًا من عنصرية الشرطة ضد السود، ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2015، قُتل رجل أمريكي من أصل أفريقي يبلغ من العمر أربعة وعشرين عامًا يدعى «جامار كلارك»، فقد أُطلق عليه الرصاص بينما كان على الأرض، ولكنها ليست مينيابوليس فقط، ففي جميع أنحاء الولايات المتحدة، كما تشير الإحصائيات إلى أن احتمال إطلاق النار من قبل الشرطة على شخص أسود غير مسلح تزيد بمقدار ثلاث مرات مقابل إطلاق النار على شخص أبيض غير مسلح.
وفي واشنطن منعت الشرطة بالقوة آلاف المتظاهرين من الاقتراب من البيت الأبيض احتجاجًا على عنصرية النظام الأمريكي والرئيس ترامب، ورغم حظر التجول المفروض استمرت مظاهرات مينيابوليس الحاشدة، ويواجهها الحرس الوطنى بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، وذلك بعد أن تحولت الاحتجاجات من السلمية إلى الفوضى على حد زعم حاكم ولاية مانيسوتا الذي اتهمه ترامب بأنه يساري متطرف، وأكد كثير من المراقبين دخول عدد من المجموعات اليمينية البيضاء المتعصبة من خارج مانيسوتا، وهم من قاموا بأعمال النهب والسلب وإشعال الحرائق لتشويه الاحتجاجات وإعطاء المبرر لترامب وإدارته لاستخدام المزيد من القمع ضد الجماهير الغاضبة.
والحقيقة أن ترامب ونظام حكمه غارق في سياساته العنصرية في الداخل كما نرى في ولاية مانيسوتا والمدن الأمريكية المختلفة، وفي الخارج بدعمه للكيان الصهيوني العنصري والحكام المستبدين في البلدان العربية وغيرها من بلدان العالم، بالإضافة إلى تعامله التجاري واللا إنساني في مواجهة وباء كورونا الذي أودى بحياة أكثر من 110 آلاف وإصابة مليون و932 ألفًا من الأمريكيين (حتى 5 يونيو/حزيران 2020)، كما أدخل الاقتصاد الأمريكي في أزمة كساد عميقة انضم بسببها حوالي 60 مليون أمريكي إلى جيش البطالة، وتجاوز حجم الدين الأمريكي العام حاجز 24 تريليون دولار.
وفي محاولة الرئيس الأمريكي لمواجهة الأزمة نجده يلجأ كعادة الأنظمة الحاكمة بالتحريض ضد المتظاهرين، الذين اعتبرهم «بلطجية»، وبالرغم من التحريض السافر لم تتوقف الاحتجاجات الغاضبة في مدينة مينيابوليس وأربع مدن أمريكية أخرى، ووصل الأمر إلى محاصرة قسم البوليس الخاص بالمنطقة التي قتل فيها جورج فلويد، وقام آلاف المحتجين بحرق قسم الشرطة وعدد من المباني القريبة منه والاستيلاء على السلع من عدد من متاجر المدينة احتجاجًا على عنصرية الشرطة البيضاء ضد السود، وردت شرطة المدينة بالاستخدام المفرط للقوة بإلقاء قنابل الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين واعتقال المئات وفيهم مراسل شبكة «سي إن إن».
جذور العنصرية
رغم مرور أكثر من 150 عامًا على تحرير العبيد وأكثر من نصف قرن على حركة الحقوق المدنية، لا تزال العنصرية في الولايات المتحدة تطل بوجهها القبيح في حادثة تلو أخرى، ولا تقتصر العنصرية على حدود الولايات المتحدة الأمريكية فهي تعتبر للأسف ظاهرة عالمية، وتعد الممارسات العنصرية أحد الأدوات التي تغض الطرف عنها السلطات والطبقة الحاكمة، ولها تراث كبير خلال فترة العبودية التي ساهمت في بناء المجتمعات الأوروبية والأمريكية، وكانت دماء العبيد وتضحياتهم أساسًا قويًّا للتطور الرأسمالي.
لذلك نجد الطبقات الحاكمة أحيانًا تغذي هذه النزعات والممارسات العنصرية خاصة في أوقات الأزمات الاقتصادية كمحاولة لتبرير فشلها بإلقاء اللوم على الأقليات، سواء كانت عرقية أو دينية أو حتى مع اللاجئين والمهاجرين الأجانب، أو إهانة اللاعبين في ملاعب كرة القدم بسبب لون بشرتهم، وستجد أشكالًا متكررة من العنصرية ضد المهاجرين في أوروبا أو «الهاسبنك» في أمريكا وهم المهاجرون من المكسيك ودول أمريكا الجنوبية الذين يعبرون الحدود بشكل غير قانوني، ويمكن رصد تلك الممارسات اللا إنسانية في كل مكان في العالم في ظل استمرار احتكار الأقلية للسلطة والثروة.
وحتى في عالمنا العربي تظهر من وقت لآخر بعض خطابات الكراهية والعنصرية والعداء انطلاقًا من التفكير الاستعلائي والعنصري، ولن يكون آخرها هجوم بعض الرموز النخبوية في بلدان الخليج ضد أبناء الجاليات المصرية.
مواجهة عالمية
ورغم الجهود التي تبذلها منظمة الأمم المتحدة والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التميز العنصري الصادرة في 21 كانون الأول/ ديسمبر 1965، والإعلان العالمي لمكافحة العنصرية والتمييز العنصري وكراهية الأجانب الصادر في 8 أيلول/ سبتمبر 2001، فإن هذه الممارسات لا تزال تمثل حجر عثرة أمام تحقيق أي تقدم فيما يتعلق بالمساواة بين البشر ومنع التمييز على أساس العرق أو اللون أو الدين، لذلك نعتقد أن مكافحة العنصرية عملية طويلة ومعقدة، ولكنها تبدأ بفضح هذه الممارسات وإدانتها بكل الطرق والوسائل وفيها التظاهر السلمي لإعلان التضامن مع ضحايا التمييز العنصري، ونشر الوعي بضرورة التضامن في مواجهة محاولات اليمين العنصري المتطرف الذي يلجأ لاستخدام العنف ضد الأقليات ويبرر إطلاق النار على المتظاهرين، كما حدث في أمريكا بعد تغريدة ترامب على «تويتر» التي اعتبرها اليمينيون إشارة لإطلاق الرصاص على المتظاهرين بدعوى الحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة.
وهناك أيضًا أهمية كبيرة لدور المنظمات النقابية في توحيد صفوف العاملين من مختلف الأعراق والأديان كما حدث مع نقابة العاملين بالنقل الذين رفضوا تقديم خدماتهم لرجال البوليس في مينابوليس ومنعهم من ركوب المواصلات العامة اعتراضًا على مقتل جورج فلويد، ويجب التصدي لمحاولات شق وحدة العاملين من قبل الطبقة الحاكمة ومؤسساتها الإعلامية التي ستسعى دائمًا للتفرقة والتمييز بما يمكنها من المناورة وتوجيه غضب الجماهير إلى الأقليات التي تعاني أصلًا من التوزيع غير المستاوي للثروة والتهميش وعدم الحصول على فرص متساوية في التعليم والعمل والرعاية الصحية. وهناك أيضًا دور مهم لمنظمات المجتمع المدني المحلية والدولية في التصدي لمظاهر وممارسات العنصرية في كل المجالات، حتى يتم تشريع القوانين المطلوبة لسرعة محاكمة الجناة وضمان عدم إفلاتهم من العقاب في أي مكان بالعالم، فطالما كانت طبيعة الفكر العنصري وممارساته عالمية فيجب أن تكون المواجهة والتصدي لها عبر جميع أنحاء العالم من أجل التخلص من الممارسات والسياسات العنصرية التي تتعارض مع كل القيم الإنسانية.