كيف تبني دولة؟ درس بسمارك الذي لم يفهمه العرب
رغم إسهامات الألمان الحضارية التي لا تخفى على أحد، فألمانيا كدولة تعتبر كيانًا حديثًا جدًا، وجذورها ليست ضاربة في القدم. فكان أول من استعمل لفظ «جرمان» و«جرمانيا» هو القائد الروماني الأشهر «يوليوس قيصر»، أي في حدود 50 ق.م، وإن كان غير معروف هل كان اللفظ منتشرًا قبله أم لا. كان يقصد به الأراضي التي تقع شرق نهر (الراين). وبالتالي أصبحت كل القبائل والشعوب التي تسكن تلك المنطقة تعرف باسم «الجرمان».
كان الرومان يعتبرون الجرمان همجًا غير متحضرين «barbarians»، وكان هناك العديد من القبائل الجرمانية، لعل أشهرها «الأنجلز» و«الساكسون» و«البورجندي» و«الفرانك» و«القوط الغربيون» و«القوط الشرقيون» و«الداين» و«السويبي» و «الأليمان» و«الفاندال». لعلك لاحظت أن الفرانك والأنجلز والساكسون جرمان في الأصل؛ أي أن نواة دولتي (فرنسا) و(إنجلترا) الحاليتين هي قبائل جرمانية صرفة.
وعلى الرغم من المحاولات الكثيرة للعديد من الأباطرة الرومان لفتح «جرمانيا» وضمها لإمبراطوريتهم العتيدة كما فعلوا مع بلاد «الغال»، فإنها كانت تبوء بالفشل دائمًا. ولعل أشهرها المعارك التي دارت في غابات «تيوتبرج» عام 9 م في عهد الإمبراطور «كايس أوكتافيوس»، وانتهت بانتصار الجرمان بقيادة «أرمينيس» وسحق ثلاثة فيالق رومانية.
ورغم النجاح الساحق لأرمينيس، فإنه فشل في تحقيق أي وحدة من أي نوع بسبب حقد قادة القبائل على بعضهم. هناك مثل قديم يقول إن العدو اللدود لقبيلة جرمانية هو قبيلة جرمانية أخرى. لعل هذا يعطيك فكرة عن الطابع الدموي لتلك القبائل. ولا تنسى أن إلههم الذي عبدوه لقرون «ثور» كان يصور دائمًا ممسكًا بلطة بيده اليمني، محطمًا أعداءه باليسرى.
لم تنقطع الحروب بين الإمبراطورية والقبائل الجرمانية قط. وكان النصر حليف القبائل الجرمانية كثيرًا. بل كانت القبائل الجرمانية عاملًا مهمًا في سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية، حيث قام قائدان جرمانيان باقتحام روما الحصينة. الأول كان «ألاريك» ملك القوط الغربيين، وكان هذا عام 410م، والثاني «جيسيرك» ملك الفاندال عام 455م.
ومع سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية في القرن الخامس الميلادي دخلت أوروبا فيما يعرف تاريخيًا باسم العصور المظلمة «The dark ages»، وكانت فرصة ذهبية للقبائل الجرمانية للانقضاض على فتات الإمبراطورية المنهارة. ظلت استعادة الإمبراطورية الرومانية حلمًا يراود معظم شعوب أوروبا الغربية، حيث أصبحت الإمبراطورية ماركة مسجلة، والغريب أن من أخذ على عاتقه حلم استعادة تلك الإمبراطورية هم الشعوب الجرمانية الذين كانوا سببًا رئيسيًا في انهيارها.
وفي أواخر القرن الثامن الميلادي ظهر ملك فرانكي مشهور في بلاد الغال، واستطاع هذا الملك توحيد كامل الشعوب الجرمانية شرق نهر الراين وإخضاعها له للمرة الأولى في التاريخ. وكملك من الفرانك أصحاب الأصول الجرمانية كان له اسم جرماني صرف «كارل دير جروسا»، ولقب بـ «أبي أوروبا». لكنه في التاريخ يعرف باسمه الفرنسي الشهير «شارلمان».
قام «شارلمان» بمساعدة البابا بإحياء الإمبراطورية الرومانية، ولكن أضافا لها اسمًا زائدًا، فهي الإمبراطورية الرومانية المقدسة. واتخذ من مدينة «أخن» الألمانية عاصمة له. ولأول مرة في تاريخ أوروبا يكون الحكم فيها لمدينة ألمانية، بعد أن ظل الحكم يتأرجج قرونًا طوالًا بين «روما» و«رافنا» و«القسطنطينية».
كانت الإمبراطورية الرومانية المقدسة كيانًا معنويًا أكثر منه دولة قوية حقيقية على أرض الواقع. مجرد محاولة سطحية لاستعادة الإمبراطورية التي حكمت أوروبا لقرابة ألف عام. الإعلان عن إمبراطور واتخاذ العقاب الشهير للجيش الروماني شعارًا على علم الإمبراطورية. تمامًا كما تفعل بعض المصانع البدائية المتواضعة حينما تضع اسم منتج مشهور ولامع مثل «نايكي» أو «أديداس» على منتجاتها المتواضعة.
انقسمت «جرمانيا» إلى العديد من المدن والدويلات، التي يتحكم في جزء كبير منها بيت «الهابسبورج» حتى ظهرت الطباعة، وبواسطتها قام «مارتن لوثر» بنشر أفكاره الإصلاحية للكنيسة الكاثوليكية من هناك في «ساكسونيا» بألمانيا. وبسبب أفكار «لوثر» الإصلاحية مزقت الحروب أرجاء الإمبراطورية الرومانية المقدسة. فحرب الفلاحين عام 1524م، ثم حرب الثلاثين عامًا بين 1618-1648م، والتي كانت بين الممالك الجرمانية البروتستانتية بمشاركة السويد والدنمارك وهولندا من ناحية والإمبراطورية الرومانية المقدسة ومملكة إسبانيا ومملكة المجر من الناحية الأخرى. ومهدت تلك الحرب الطريق لظهور أول مملكة جرمانية حقيقية؛ مملكة بروسيا. التي ظهرت للنور عام 1701م.
بسمارك وصناعة ألمانيا
وبعد قرنين ونصف من الزمان، وفي مملكة «بروسيا» شاء الله أن يلتقي سياسي عبقري وعسكري محنك؛ أما السياسي فهو العبقري أوتو فون بسمارك، وأما العسكري فهو الفيلد مارشال الألماني هيلموث فون مولكته، وحتى لا نخلط الأمور فرئيس الأركان الألماني في بداية الحرب العالمية الأولى اسمه هيلموث فون مولكته أيضًا، وهو ابن أخي «هيلموث فون مولكتة» الذي نتحدث عنه، والمؤرخون يفرقونهما بصفة الكبير والصغير.
وفي 1864م هجم الجيش البروسي بقيادة «فون مولكتة الكبير» على مملكة «الدنمارك»، وبعد حرب شرسة استمرت لمدة 8 أشهر متصلة كان النصر حليف البروسيين في النهاية، واضطرت الدنمارك للتنازل عن ثلاث مدن؛ هي «شيلزفيج» و«هولشتاين» و«لورنبرج» لصالح بروسيا. كان طموح الثنائي بسمارك وفون مولكتة أكبر من ثلاث مدن صغيرة جنوب الدنمارك، لذا في 1866 قررا الهجوم على الإمبراطورية التي تسيطر على جزء كبير من الشعوب الناطقة باللغة الألمانية جنوب الاتحاد الألماني؛ الإمبراطورية «النمساوية-المجرية».
كان بسمارك يرى أن أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بها خمس قوى رئيسية، هي: «بروسيا قبل أن تصبح ألمانيا طبعًا»، و«روسيا»، و«فرنسا»، و«إنجلترا»، و«النمسا-المجر»، وحتى تكسب أي حرب لا بد أن تكون «بروسيا أو ألمانيا» واحدة من ثلاث، وليس واحدة من اثنتين، بمعنى أن ألمانيا لابد أن تستطيع هزيمة أي دولة من هذه منفردة، بل دولتين مجتمعتين إذا لزم الأمر، لكن ثلاثًا فمستحيل (وهو ما حدث في الحرب العالمية الأولى فيما بعد). كما أن بسمارك لم يكن ينظر باحترام للإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس «بريطانيا»، ولم يكن يعنيه أبدًا أن يكون في جانب بريطانيا. صحيح أن بريطانيا تمتلك أكبر قوة بحرية في العالم وقتها وبلا منازع، لكن الصحيح أيضًا أن جيشها البري صغير جدًا ولا يقارن بجيوش بروسيا وروسيا وفرنسا والنمسا.
لذا فقبل الهجوم على النمسا قام «بسمارك» بتمهيد الظروف السياسية المناسبة عن طريق مباحثات مطولة مع الإمبراطور الفرنسي «نابليون الثالث»، كما ضمن وجود الجانب الإيطالي بجواره -والذي كانت تقع معظم أراضيه الشمالية تحت سيطرة النمسا- وكان الرجل يعلم أن النمسا قد وقفت بجوار فرنسا والدولة العثمانية في حرب القرم 1854-1856، لذا فمن رابع المستحيلات أن تنضم روسيا لجانب النمسا، وهكذا أصبحت النمسا وحيدة، فريسة سهلة، تنتظر الجيش البروسي كي يفترسها.
بدأ الجيش البروسي الحرب في 15 يونيو/حزيران 1866م. ورغم الانتصارات الكبرى التي حققها الجيش البروسي/الألماني حتى أغسطس/آب 1866م فإن «بسمارك» تدخل لإنهاء الحرب عكس رغبة إمبراطور بروسيا «فيلهام الأول» الذي كان يتمنى أن تستمر حتى ينتزع المزيد من الأراضي لبروسيا. لكن بسمارك رأى أن فرنسا وروسيا غير سعيدتين بالانتصارات التي تحققها ألمانيا، وهما على وشك الدخول بجانب النمسا، فلجأ للتهدئة، وتم توقيع معاهدة «براغ» 1866م -التي تنهي تمامًا أي سيطرة للنمسا على الشعوب الألمانية الجنوبية وتصبح شبه مستقلة كما تأخذ بروسيا «هانوفر» و «دار مشتاد» من النمسا ويتم توحيد كامل شعوب ألمانيا الشمالية في دولة واحدة- وحتى يضمن بسمارك استمرار فرنسا في الحياد أعطى نابليون الثالث مدينة فينيسيا النمساوية (وهي إيطالية حاليًا).
لن تستطيع أن تقول من بدأ الحرب بالضبط، ففعليًا الطرفان فرنسا وبروسيا أرادا تلك الحرب بشدة. بسمارك يريدها لأنه يرى أنها خطوة ضرورية لا مفر منها لدفع الشعوب الألمانية الجنوبية للاتحاد مع الاتحاد الألماني الجديد وتكوين أكبر وأقوى دولة في أوروبا. أما فرنسا فترى ألمانيا خطرًا داهمًا لا بد من تحجيمه قبل أن تصبح السيطرة عليه مستحيلة.
بدا الأمر كصراع سياسي بين ألمانيا وفرنسا بسبب وريث عرش إسبانيا الذي كان مؤهلًا له رجلٌ من أصول ألمانية، وبالطبع كان «نابليون الثالث» إمبراطور فرنسا يرى أن وجود رجل ذي أصول ألمانية على رأس جارته الجنوبية «إسبانيا» يمثل خطرًا كبيرًا عليه.
كان بسمارك يرى أنه من أجل كسب تعاطف الولايات الجنوبية الألمانية الأخرى عليه أن يجعل الأمر يبدو كما لو كان اعتداءً فرنسيًا، وأن ألمانيا في موقف المدافع. وعلى إثر لقاء بين ملك ألمانيا «فيلهام الأول» والسفير الفرنسي في ألمانيا لمناقشة أمر العرش الإسباني الخالي، وعلى الرغم من أن اللقاء بين الجانبين كان عاديًا وأرسل «فيلهام» رسالة لمستشاره «بسمارك» يخبره فيه بأمر اللقاء، فإن «بسمارك» على إثر هذا اللقاء قام بإلقاء بيان للشعب الألماني يخبره بنتائج اللقاء وصاغه بطريقة توحي بأن «فيلهام» أهان السفير الفرنسي وفرنسا بشدة، وهو ما لم يحدث على الأرجح.
قام البرلمان الفرنسي بالاجتماع في 16 يوليو/تموز 1870م، ورفض خطاب «بسمارك» وإهانات «فيلهام»، وبالتالي إعلان الحرب على ألمانيا. وتم إرسال خطاب إعلان الحرب للحكومة البروسية بعدها بثلاثة أيام، وعلى إثر هذا الخطاب لم تتردد الولايات الألمانية الجنوبية في إعلان الحرب على فرنسا. ومرة أخرى، لكن مرة أخرى لا تُنسى، ألمانيا أو بروسيا لابد أن تكون واحدة من ثلاث وليست واحدة من اثنتين. ولهذا عمل «بسمارك» على بدء المباحثات والمفاوضات مع جارتيه روسيا والنمسا، وانتهت بإنشاء «جامعة الإمبراطوريات الثلاث» في 1872م، والتي جمعت الدول الثلاث في تحالف مهمته محاربة الاشتراكية والجمهورية في جميع أنحاء أوروبا. وهكذا نرى أنه رغم العداء الواضح بين النمسا وألمانيا فإن الجهود الدبلوماسية لبسمارك نجحت في تحييد النمسا في تلك الحرب الكبرى تمامًا. والآن وكما فعل من أربع سنوات مع النمسا مهّد «بسمارك» الطريق لجنراله الشرس «فون مولكتة الكبير» لافتراس فرنسا.
تستطيع بسهولة أن ترى أن أكثر ما كان يميز الجيش الألماني هو السرعة والانضباط، وهما كلمة السر للانتصارات الساحقة التي حققها على مدى قرابة قرن من الزمان، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى بدايات الحرب العالمية الثانية.
ومن أجل تحقيق السرعة كان «فون مولكتة» هو أول من أنشأ سككًا حديدية وقطارات مخصوصة للجيش الألماني، كما أنه استعمل الاختراع الجديد وقتها «التليجراف» على نطاق واسع لنقل المعلومات بين أرجاء الجيش الألماني، ولتحقيق العدد الكبير كانت ألمانيا تعتمد على نظام التجنيد الإجباري لكل الرجال في ألمانيا بين سن 19 و40. ومكنته هذه السياسة من حشد أكثر من مليون جندي للمعركة المرتقبة.
وفي 28 يوليو/تموز 1870م بدأت فرنسا تحريك جيوشها صوب بروسيا، لكن كان الجيش البروسي يمتلك أفضلية نسبية طفيفة في سلاح المدفعية بجوار السرعة بالطبع، وعبر خمس معارك متتالية سحق الجيش البروسي الجيش الفرنسي تدريجيًا وأحكم الحصار عليه. وبعد شهرين ونصف كان الجيش البروسي يحاصر مدن فرنسا الرئيسية «ميتز» و «سيدان» والعاصمة «باريس» نفسها. ومن هنا نفهم الحكمة من الـ 950 ساعة التي وضعها الجنرال الألماني «شلايفن» لهزيمة فرنسا قبل العودة شرقًا لمواجهة روسيا.
ظلت «باريس» تحت الحصار حتى نهاية يناير 1871م، حتى تم توقيع معاهدة «فرساي» التي مهدت لإنهاء الحرب. وكانت شروطها تشتمل على انسحاب الجيش الألماني من محيط «باريس» ورفع الحصار عنها في مقابل أن تأخذ ألمانيا الشريط الحدودي «إلساش لورين»، وتدفع فرنسا جزية سنوية لألمانيا. لكن كان المكسب الأهم والذي سعى له «بسمارك» شخصيًا هو توحيد كامل الشعوب الناطقة بالألمانية في دولة واحدة. دولة جديدة عرفت باسم الإمبراطورية الألمانية. واحتفظت الإمبراطورية بالعقاب الإمبراطوري كشعار على كل أسلحتها، وكان شعارها «Gott mit uns» أو «الله معنا».