كيف نقطع دائرة العنف ؟
على الرغم من حالة الانسداد السياسي والتردى الأمنى الحالية، تبدو الأمور مستقرة عند مستوى منخفض لكنها ليست كذلك. فخبرات الحكم للنظم العسكرية تشير إلى أنه فى حالة عدم قدرة الجيش على السيطرة على الأوضاع وفرض الاستقرار لتثبيت شرعيته السياسية من البداية فإن استمرار القمع لفترة طويلة يعنى عدم قبول أجزاء كبيرة من المجتمع بشرعيته وهذا يعنى احتمال تحول قطاعات المجتمع النشطة إلى استخدام العنف الممنهج للمقاومة كبديل للسياسة المختطفة من قبل النظام الحاكم، هذا العنف تزداد وتيرته وتتصلب فلسفته تدريجياً.
يولد عنف الدولة عنفاً مقابلاً يعزز شرعية عنف الدولة بدورة وهذا يمثل ما يطلق عليه “دائرة العنف” التى تطال الجميع ولا يسلم منها أحد. الآن وبعد انتشار العنف بهذا القدر المقلق يتضح أنه لا منتصر فى هذا الصراع ويجب على الجميع من أجل الحفاظ على ما تبقى من شرعيتهم اعتبار بدائل أخرى غير المواجهات الصفرية المسلحة. لكن من عليه عبء البدء؟
لابد وأن تأتى البداية من جانب القوى العسكرية الحاكمة بوقف ما تنتهجه حالياً من انتهاكات والإفراج عن كافة المعتقلين وذلك من أجل بناء الثقة مع المعارضة وتهيئة الرأي العام للتحول المرتقب. مثل هذه الإجراءات ستزيد من فرص بدء حوار شامل بين النخبة العسكرية الحاكمة، ومعسكر النظام القديم متمثلاً في مراكز قواه ورجال أعماله، بالإضافة إلى معسكر القوى الإسلامية متمثلاً في قيادة الإخوان القديمة والحالية وحلفائهم، وكذلك معسكر المعارضة المشتتة. ذلك من أجل الوصول لتفاهم حول صيغة جادة تضمن مشاركة الجميع فى صنع المستقبل بما يحقق أقل معدلات فساد ممكنة وأعلى نسبة اندماج للجميع داخل النظام السياسي.
لابد أن تكون النخبة العسكرية الحاكمة هي الأكثر حماساً وسعياً للحوار فأعباء الحكم تزداد يوماً بعد يوم وتسير كل دقيقة من سئ إلى أسوء. بمقارنة التجربة المصرية بكل التجارب المقاربة في حكم العسكريين نجد أنه لابد أن يستقر الاقتصاد ولو بنسب متفاونة في الدول ذات الحكم العسكري على قاعدة إنتاجية إما من خلال قطاع صناعي أو زراعي منتج بشكل كاف أو من خلال ثروات طبيعية وافرة وهو ما نفتقدهما في مصر. وبالتالي فالعودة لنموذج التحكم المنفرد في اقتصاد الدولة كما كان الحال الأمثل حتى ١٩٩٤ سيكون مستحيلاً. إن التكوينات الاقتصادية التي تقوم عليها الأنظمة العسكرية تؤدي لانهيار النظام إذا اعتمد بالأساس على الاقتصاد الريعي والمتاجرة في الأصول بسبب طبيعة النظام العسكري وعلاقته بالمؤسسات التي من شأنها الرقابة على هذا النوع من الاقتصاد وضبط معاييره وهو ما يؤدى لضموره التدريجى وبالتالى توقفه عن توليد إيرادات كافية للحكم.
فى ضوء اختفاء أسس الاستقرار المالى والاقتصادى لن يتمكن سياق الحرب على الارهاب من من إمداد النظام بالشرعية الدولية التي يحتاجها لاستقرار أركانه مطولاً. فاللاعبين الكبار فى النظام الدولى يدركون حتمية بناء جدار العقلانية مع الخصوم الأبرز فى الشرق الأوسط وضرورة انشاء حالة توازن كتلك التي كانت ايام مبارك بشكل أو بآخر. هذا النموذج مضافاً له كل ما يحدث من تردي في الأوضاع الداخلية وفشل مؤسسات الدولة وظيفياً في القطاع التنموي وفي إدارة حياة المواطنين سيزيد العبء على النخبة العسكرية الحاكمة لا محالة مما يدفعها في الأحوال العادية لمثل ما قام به مبارك وبدا جلياً من ١٩٩٧ في فتح مساحات لتكوين مؤسسات رأسمالية خاصة تابعة والتى تمكن الدولة من الاستمرار لوقت أطول نسبياً وإن ثبت فشلها على المدى الأبعد لكونها على حساب قطاعات شعبية واسعة.
لكن ليس السيسي كمبارك، فقد جاء في ظرف تاريخي جعله معرفا سياسياً باسم قائد انقلاب عسكري، وهو ما يعني أن أى صعود لغيره إلى السلطة أو منازعته لها يعني تهديد حياته ورجاله المخلصين وهو ما لن يسمحوا به. ومع تردي الأوضاع يصير الاستمرار مستحيلاً ومع ارتفاع تكاليف القمع بشكل غير مسبوق تنخفض تكاليف استبدال النظام الحالى الذي سيتم اختزاله عند الأزمة في شخص السيسي.
نخبة مصر العسكرية تختلف عن نخب جمهوريات الموز التي تتتابع بينها الانقلابات. فالعرف الذي يحمي الجيش من التفكك ويجعله متماسكاً كطائفة عسكرية واحدة هو احترام الأقدميات وعدم تجاوزها أو حتى إهانتها لحساب المدنيين. لذلك ووفقاً لتجربة التاريخ المصري القريبة فسيزداد العبء على النخب العسكرية بحكم السيسي حتى يصل لحد يهدد مصالحها وحتى وجودها ذاته. فى مثل تلك اللحظة تسارع النظم العسكرية بتجنب الخروج الكامل من المشهد عبر التخلص الذاتى من مصادر الاحتقان والعودة خطوة للخلف لتهدئة الشارع والنخبة. فى الحالة المصرية قد يستدعى مشهد مشابه لاغتيال السادات الذى يحقق كل المراد: حفظ وقار النخب العسكرية واستقرار أعرافها، حفظ ذكرى السيسي بطلاً، وتوفير مبرر للتخلص من خصوم الجيش في محاكمات تدينهم لتورطهم في جريمة الاغتيال. تحرك داخلى مدروس يؤذن بتتبدل الصفحة لحقبة جديدة تدار على قواعد مختلفة تكاد تماثل عصر مبارك.
حينها قد يسمح للإسلاميين الوسطيين بالتواجد في المجتمع توافقياً وليس قانونيا أو رسميا على نفس الحالة التي كانت عليها الجماعة قبل ٢٠١١. لكن هذا لن يستقر قبل تفاهم النخبة العسكرية الحاكمة مع مراكز القوى في نظام مبارك من أجل ضمان اعادة انتاج نفس الترتيبات تحت وصاية عسكرية تضمن خضوع القرار السياسي ومحددات الأمن القومي والسلام مع إسرائيل دائماً للعسكريين بلا تدخل مدني. السيناريو البديل للاغتيال هو قيام انقلاب آخر بغطاء شعبى يطيح بالسيسي، لكن هذا مستبعد ﻷنه يعيد إنتاج الأزمة بوجه جديد دون حلها والأهم أنه يهدد بشكل مباشر استقرار أعراف المؤسسة العسكرية وتماسكها تحت القيادة.
ولا يجب أن يقل رموز النظام القديم حرصاً على التفاوض. فهم بتهديد شرعية السيسي كحاكم أو منازعتهم لسلطاته يرتكبون حماقة كبرى لأنهم يدخلون فى صراع صفري مع الجيش لحساسية اللحظة لوجودة بينما هي من جانبهم صراع تكسير عظام يعتمد على اكتساب مساحات أعرض قد يمكنهم اكتسابها لاحقاً. من جهة أخرى فإن مناخ الحرب على الإرهاب يجعلهم فى مرمى نيران الجيش كما باقى أطراف المعارضة وهو ما يعني إمكان تصفيتهم اللحظى فى حالة اختلاف مصالحهم مع الجيش لعدم تكافؤ القوى. بكلمات أخرى فإن سرعة البدء في التفاوض تسمح لهم بضمان مساحات مقبولة في المستقبل وتنجيهم من ضربة شاملة في الأجل القصير.
تأتي القوى الإسلامية بدورها، ففي أفضل السيناريوهات المتوقعة لاستمرار الحالة لا يمكن التنبؤ بأكثر من رغد عصر مبارك إن جاز تسميته كذلك مقارنة بما هم فيه الآن. ولكن الحد الأدنى لأي تفاوض سيكون الحفاظ على تواجد كياناتهم بشكل شرعي مؤسسي مشارك في مؤسسات الدولة وهو ما يزيد عن عصر مبارك حتى وان اضطروا في بداية الأمر إلى الإبتعاد عن المساحات التنفيذية في هيكل الدولة. ولكن الحوار لن يجد قبل أن تتبنى القوى الإسلامية موقفاً واضحاً يدين كل أشكال العنف ويضع فاصلاً كبيراً بينها وبين الجماعات المؤيدة لانتهاج العنف بوضوح دون المواربة. وهذه الخطوة لابد أن تكون تالية لإظهار النظام حسن النية بوقف الانتهاكات والإفراج عن المعتقلين، وإن سبقوا بها فنعم. ولكن سيظل عليهم التعامل مع النظام الدولي بشكل أكثر طمئنة و التعامل المؤسسي مع المجتمع وهيكل الدولة بشكل أكثر انفتاحاً.
لكن ماذا لو رفض الإسلاميون الحوار؟ البديل عن الحوار سيأتى فى صورتين: الأولى: تضييق شديد ينتهي بسيناريو مقارب لما كانوا عليه في عهد مبارك ولكن بعد مذبحة كبيرة للقيادات عقب اغتيال السيسي– هذا إن حدث تفاهم بين النخبة العسكرية وقوى النظام القديم، والثانية: تضيق شديد يعقبه مذابح متعددة لا تختلف عن رابعة قبل أن تبدأ حالة احتراب أهلي واسعة. وهذا السيناريو الأخير هو الأبعد عن الحدوث لعدم قبول اللاعبين الدوليين في المنطقة بفكرة حدوثه، بالإضافة لعدم الجهازية الكافية لكل الأطراف للدخول في دوامة الإحتراب، فمازال الأمر لا يعدو كونه إبادة طرف لآخر.
الطرف الأخير وهو شتات المعارضة من دون الثلاثة السابقين، فهذا الطرف لا يملك قوة الصراع مع الأطراف الثلاثة السابقة على الرغم من أنه تيار الأغلبية الشعبية الغير قادرة على صياغة قوام متماسك لنفسها تستطيع به تمثيل مصالحها. تتمثل نقطة القوة الوحيدة لهذا الطرف فى كونه الشريك الأهم لناتج أي حوار على المستقبل. لذلك يجب إخلاء مقعد له حتى يمكن استشراف أي مرحلة قادمة تتجاوز الحسابات القديمة. بمعنى أدق إنه الطرف الوحيد الذي يمكن البناء عليه للمستقبل أو التجمل به لعبور الأزمات واشراكه لاكتساب شرعية التغيير التي تمكن للتجربة النجاح. يتوقف نجاح دوره وقدرته للعب أدوار أكبر على مدى تمسكه بموقعه وعدم الانحياز ﻷي من المعسكرات الثلاثة وهو ما يصعب ضمانة لتفتته الشديد.
قد يرى كل طرف أن النصر من نصيبه وأن الأمر يحتاج بعضاً من الوقت للحسم النهائي، هذا بالضبط ما يميز الحروب الأهلية والتمردات العنيفة ضد الدولة. تهدد ارتفاع مستويات العنف الحالية بتحول كيفي فى طبيعة اللاعبين بالإضافة إلى دخول لاعبين جدد أكثر تطرفاً ما يعنى دخول البلاد فى حالة مستدامة من عدم الإستقرار ستنهى على شرعية كل اللاعبين الحاليين. فسيجد معارضى الوضع القائم أنفسهم بين سندان المجموعات المسلحة ومطرقة قوات النظام. لن يكون النظام فى وضع أفضل كما قد يتصور البعض، فهو أيضاً لن يكون قادراً على الإنتصار على إرهاب أسود وجماهير غاضبة، ولا تحقيق الاستقرار لقاعدته الآخذة فى التآكل. هنا وقبل تفاقم الأوضاع، يصبح الحوار والتفاوض ضرورة للجميع.
أشعر بالغصة للحديث فى هذا الأمر، ولكن مهما يكن المرء حالماً فلابد أن يبني تصورات على أرض صلبة تضع احتمالات تنطلق من الأسوء فالذي يليه. فحتى الآن كل ما نشهده يؤكد أن الحوار هو الطريق الأفضل المتاح للجميع والذي يعني أن يتخلى الأطراف الأربعة عن معاركهم الصفرية وعليهم أن يبدأوا التفكير في حدودهم الدنيا وقابليتهم للتغيير داخلياً من أجل المستقبل ومن أجل أنفسهم. بعد تجربة كل المسارات بما فيها الأكثر دموية، أحسب أننا وصلنا للمرحلة التي يحسن أن ندرك عندها أننا جميعاً يجب أن نتغير ونتفاوض من أجل عيش مشترك أو نهلك جميعاً بمزايداتنا وأحلامنا التي لا تناسب إمكاناتنا.
بديل الحوار والتفاوض مرعب وله حديث آخر يحتاج لتحليل قوة وتماسك وطبيعة كل معسكر من المعسكرات الأربعة، والتفاوض على عدالة الانتقال للمستقبل يحتاج حديثاً قادماً ربما يكون بغصة أكبر تزداد كلما اقتربنا من حساب معادلات القوة والسيطرة، أما الحديث عن طبيعة الصراع وتفكيكه من أجل إدارته بالوسائل الأمثل فهذا هو الحديث القادم.