كيف وظِّفت تيمة الخلود في الميثولوجيا الدينية؟
في الوقت الذي تحتفل فيه الأغلبية الغالبة من المسلمين من أهل السنة والجماعة في ليلة النصف من شعبان من كل عام، بحلول ذكرى تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، فإن المسلمين من الشيعة الإمامية الإثني عشرية يستذكرون أحد أهم الأحداث المميزة لمذهبهم، ألا وهي حادثة ولادة الإمام الثاني عشر، محمد بن الحسن العسكري في سنة 255هـ.
بحسب السردية الشيعية التقليدية، فإن محمد بن الحسن لا يزال حياً حتى اللحظة، وأن عمره قد اقترب من الإثني عشر قرناً، وهو الأمر الذي يثير كثيراً من علامات الاستفهام والتعجب والاستنكار لدى الفرق الإسلامية الأخرى.
الباحث في تاريخ الأديان والحضارات الإنسانية، سيجد أن تيمة الخلود وطول العمر، هي إحدى أهم التيمات التي تكررت في السرديات القديمة، وأنها قد ظهرت ووظفت فيها بأشكال مختلفة ومتعددة.
في ميثولوجيا بلاد الرافدين: سر الخلود بين نبشتم وجلجامش
في ملحمة جلجامش، وهي واحدة من أقدم الملاحم التي وصلتنا على الإطلاق- يظهر البطل العظيم جلجامش حاكم مدينة الوركاء، وقد أصابه الحزن والهم بعد موت صديقه المقرب أنكيدو، فيرفض أن يتخلى عن جثمانه، ويبقى معه أسبوعاً كاملاً إلى أن تخرج الديدان منه، فيقوم عندها بدفنه، ويبدأ بعدها رحلته الملحمية باحثاً عن سر الخلود.
في تلك الرحلة يقابل جلجامش الشيخ أوتو نبشتم، الذي منحته الآلهة سر الخلود، بعد أن نجا من الطوفان العظيم، ويدور بينهما حوار فلسفي راق، يقول أوتو نبشتم في أحد مقاطعه بحسب ما ورد في كتاب ملحمة جلجامش للمؤرخ العراقي طه باقر:
تُستكمل القصة بعد ذلك بإصرار جلجامش على الفوز بالخلود، فيختبره أوتو نبشتم ويأمره بالبقاء مستيقظاً لمدة ستة أيام وسبع ليال متواصلة، ولكن يغلب النعاس جلجامش، فيطلب من الشيخ الخالد فرصة جديدة لتحقيق هدفه، فيرد عليه أوتو نبشتم:
بطل الوركاء الذي كاد يهدي للبشرية سر الخلود، استراح بعض الوقت في الطريق إلى مدينته، لتغافله حية وتلتهم النبات، وهكذا تنتقل فرصة الخلود وطول العمر من البشر إلى الثعبان، الذي رأى فيه الإنسان حيواناً مقدساً، يطول به العمر مع كل تغيير لجلده.
في العهد القديم: متوشالح ونبوءة الطوفان
ذكر الإصحاح الخامس من سفر التكوين أعمار بعض الآباء الأوائل للإنسانية، فعلى سبيل المثال، ورد أن آدم قد عاش تسعمئة وثلاثين سنة، وأن شيث قد عاش تسعمئة واثنتي عشرة سنة، بينما يذكر الإصحاح نفسه أن أنوش قد عاش تسعمئة وخمس سنين.
إذا ما تغافلنا عن ظاهرة تكرار الأعمار الطويلة لهؤلاء الآباء، فسنجد أن الملاحظة الأهم في هذا الإصحاح تتعلق بشخصية متوشالح بن أخنوخ- وهو الحفيد السابع لآدم- والذي يؤكد العهد القديم أنه قد عاش لمدة تسعمئة وتسعاً وستين سنة، وهي أطول فترة يعيشها إنسان ورد ذكره في الكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد.
بعض الآراء ربطت بين طول عمر متوشالح من جهة، واسمه الذي يعني «حينما يموت سنرسله» من جهة أخرى، وهو الأمر الذي يمكن فهمه إذا عرفنا أن متوشالح قد مات قبل وقوع الطوفان العظيم في عهد حفيده نوح بسبعة أيام فقط، بما يشير إلى أن اسمه– متوشالح- كان بمثابة نبوءة وإنذار إلهي بالعقاب الذي سيتحقق في عهد حفيده عندما تغمر المياه الأرض ويغرق المكذبون والعصاة، بينما تحمل سفينة نوح البقية الباقية من المؤمنين لتنحدر البشرية من نسلهم فيما بعد.
في المِخيال المسيحي: بشارة سمعان الشيخ ولعنة اليهودي التائه
لم يذكر العهد الجديد أي تفاصيل متعلقة بالخلود بمعناه الحرفي، ولكن رغم ذلك فقد عرف المِخيال المسيحي فكرة طول العمر من خلال قصتين مشهورتين، تتعلق كلٌّ منهما بجزء من أجزاء سيرة يسوع المسيح؛ الأولى، هي قصة سمعان الشيخ، والثانية، هي قصة اليهودي التائه.
فيما يخصُّ القصة الأولى، فبحسب ما هو معروف وشائع في الأوساط المسيحية، فإن الملك البطلمي بطليموس الثاني فيلادلفوس الذي حكم مصر في القرن الثالث قبل الميلاد، أراد ترجمة الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم، من اللغة العبرية إلى اللغة اليونانية، وأوكل تلك المهمة إلى اثنين وسبعين شيخاً من شيوخ اليهود الذين يتقنون اللغتين، فعكفوا في سنة 250ق.م على الترجمة لمدة سبعين يوماً، حتى فرغوا منها تماماً، وعُرفت النسخة المُترجمة بِاسم الترجمة السبعينية.
تذكر القصة أن أحد هؤلاء المترجمين كان سمعان الشيخ، الذي أوكلت إليه مهمة ترجمة سفر أشعيا، وبينما كان سمعان منهمكاً في عمله، وصل إلى العدد رقم أربعة عشر من الإصحاح السابع، والذي جاء فيه «…ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل…». سمعان احتار في ترجمة تلك الجملة، إذ لم يفهم كيف يمكن للعذراء أن تلد، وفكر أن يستبدل لفظ العذراء بالفتاة حتى يستقيم المعنى ويصبح أكثر منطقية وقبولاً، ولكن وبينما هو مستغرق في حيرته، أتاه ملاك الرب في منامه وقال له «إنك لن تعاين الموت حتى ترى عمانوئيل هذا مولودًا من عذراء»، وتُستكمل القصة بعد ذلك، بأن سمعان قد بقي حياً لقرابة الثلاثمئة سنة وأصيب بالعمى في الفترة الأخيرة من حياته، وفي أيامه الأخيرة حضر ولادة يسوع المسيح من مريم العذراء في بيت لحم، فلما حمل الطفل الرضيع أبصر، وقال مؤمناً به «الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ وَمَجْداً لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ…»، وذلك بحسب ما ورد في الإصحاح الثاني من إنجيل لوقا.
وإذا كانت قصة طول عمر سمعان الشيخ قد وظّفت للتأكيد على البشارة بميلاد المسيح، فإن قصة طول عمر اليهودي التائه، كارتوفيلس، سوف توظف للإشارة إلى اللعنات التي تصاحب من يعادي المسيح.
بحسب القصة التي يذكرها ويل ديورانت في كتابه الشهير «قصة الحضارة»، فإن أحد اليهود الذين حضروا محاكمة المسيح أمام بيلاطس البنطي، قد ضرب المسيح بيده على ظهره وسخر منه، قائلاً «أسرع»، فرد عليه المسيح «إني ذاهب، ولكنك سوف تبقى حتى أحضر».
بموجب تلك القصة، اعتقد كثير من الأساقفة والرهبان الأوروبيون في العصور الوسطى أن هذا اليهودي الذي يُدعى كارتوفيلس قد أصيب باللعنة، وأنه يعيش منذ ذلك اليوم هائماً على وجهه، ويجوب شتى البلدان والأقاليم، وبعد كل قرن، يصيبه مرض عضال فيغط في سبات عميق، ثم يستيقظ مرة أخرى في صورة شاب صغير السن، وتستمر معاناته هكذا حتى يحين موعد المجيء الثاني للمسيح في أخر الزمان.
ديورانت الذي أسهب في الحديث عن تقبل الأساقفة الأوربيين لتلك الأسطورة، تحدث عن أثرها في المِخيال الجمعي في أوروبا العصور الوسطى، فقال «تلقت أوروبا، التي كانت تفقد إيمانها، بالترحاب هذه الأسطورة على أنها برهان يؤكد من جديد ألوهية المسيح وبعثه، وضمان جديد لمجيئه ثانية…».
في المخيال السني: نوح والدجال والخضر
إذا ما انتقلنا للمِخيال الإسلامي، والسني منه على وجه التحديد، سنجد حضوراً مميزاً لتيمة طول العمر، وذلك من خلال قصتين مشهورتين، الأولى، هي قصة النبي نوح، عليه السلام، والثانية، هي قصة المسيح الدجال، هذا فضلاً عن بعض الأقوال المتناثرة في بطون الكتب التراثية، والتي تثبت العمر الطويل لعدد من الشخصيات، ومن أهمهم كل من الخضر وسلمان الفارسي والسامري.
فيما يخص قصة نوح، فقد وردت في الآية رقم 14من سورة العنكبوت «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ…»، الأغلبية الغالبة من المفسرين المسلمين قالوا، إن عمر نوح زاد كثيراً على التسعمئة وخمسين عاماً المذكورة في نص الآية. على سبيل المثال، يذكر الحافظ ابن كثير الدمشقي المتوفى 774هـ في كتابه البداية والنهاية الأقوال المختلفة في عمر نوح، ويقول «ثم الله أعلم، كم عاش بعد ذلك، فإن كان ما ذكر محفوظاً عن ابن عباس من أنه بُعث وله أربعمئة وثمانون سنة، وأنه عاش بعد الطوفان ثلاثمئة وخمسين سنة فيكون قد عاش على هذا ألف سنة وسبعمئة وثمانين سنة».
أما فيما يخصُّ طول عمر المسيح الدجال، فقد وردت القصة في كتاب «صحيح مسلم» للإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري المتوفى 261هـ، والذي يُعدّ واحداً من أهم المدونات الحديثية عند أهل السنة والجماعة، إذ ورد في الحديث المشهور باسم حديث الجساسة، أن الرسول قد جمع المسلمين ذات يوم، وأخبرهم بقصة حكاها له الصحابي تميم الداري.
ملخص تلك القصة، أن تميماً ومعه مجموعة من البحارة من لخم وجذام قد ركبوا سفينة وخاضوا في البحر لفترة، ثم ألقى بهم الموج على شاطئ جزيرة نائية غير معروفة، فلما نزلوا من السفينة «لقيتهم دابة أهلب كثير الشعر، لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقالوا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة…»، ثم أخبرتهم أن يدخلوا لرجل ينتظرهم في دير، فلما دخلوا عليه وجدوه رجلاً عظيم الخلقة، وقد وثقت يديه ورجليه بالأغلال، فسألهم عن بعض الأشياء، فلما أجابوه قال لهم معرفاً بنفسه «إني أنا المسيح– يقصد المسيح الدجال- وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج، فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة، فهما محرمتان علي كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحداً منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتاً يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها…». وبموجب هذه الرواية، فإن المسيح الدجال يعيش على الأرض منذ ما يزيد على الألف وأربعمئة عام، وأنه ينتظر توقيت محدد ليخرج إلى الناس ويعيث في الأرض فساداً.
أما فيما يخصُّ السامري– وهو الشخص الذي ورد ذكره في القرآن الكريم على كونه المسؤول الأول عن ضلال بني إسرائيل وعبادتهم للعجل الذهبي في الفترة التي قضاها النبي موسى فوق الجبل ليتلقى التوراة من الله- فقد جاء في الآية رقم 97 من سورة طه: «قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ ۖ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ ۖ وَانظُرْ إلى إِلَٰهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ۖ لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا».
ولقد علق شمس الدين القرطبي المتوفى 671هـ في تفسيره على الآية بقوله «جعل الله عقوبة السامري ألا يماس الناس ولا يماسوه عقوبة له ولمن كان منه إلى يوم القيامة… ويقال لما قال له موسى: فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس خاف فهرب فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحشي، لا يجد أحداً من الناس يمسه حتى صار كالقائل لا مساس؛ لبعده عن الناس وبعد الناس عنه»، ويعتقد كثيرون أن السامري يعيش منذ زمن موسى حتى اليوم، وأنه من المنظرين الذين سيبقون على قيد الحياة حتى يوم القيامة.
وإذا كان طول عمر السامري يأتي في مقام اللعنة الأبدية، فإنه وعلى الجهة المقابلة، يظهر الخضر على كونه العبد الصالح الذي أوتي بركة العمر المديد لعلومه اللدنية وارتباطه الوثيق بالله، عز وجل.
في شرحه لصحيح مسلم، يتحدث الإمام يحيى بن شرف النووي المتوفى 676هـ، عن طول عمر الخضر، فيقول «جُمْهُور الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ مَوْجُودٌ بَيْن أَظْهُرِنَا، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْد الصُّوفِيّةِ، وَأَهْل الصَّلَاح وَالْمَعْرِفَة، وَحِكَايَاتهمْ فِي رُؤْيَته وَالِاجْتِمَاع بِهِ وَالْأَخْذ عَنْهُ وَسُؤَاله وَجَوَابه وَوُجُوده فِي الْمَوَاضِع الشَّرِيفَة وَمَوَاطِن الْخَيْر أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ، وَأَشْهَر مِنْ أَنْ يُسْتَر».
الغموض يحيط كثيراً بالسبب الذي نال الخضر بموجبه تلك الموهبة النادرة، ويروي ابن كثير في البداية والنهاية مجموعة من الأقوال في ذلك الأمر، منها أن الخضر كان أحد القادة في جيش ذي القرنين، «وأن ذا القرنين كان له صاحب من الملائكة يقال له رناقيل، فسأله ذو القرنين هل تعلم في الأرض عيناً يقال لها عين الحياة؟ فذكر له صفة مكانها، فذهب ذو القرنين في طلبها، وجعل الخضر على مقدمته، فانتهى الخضر إليها في واد في أرض الظلمات، فشرب منها ولم يهتد ذو القرنين إليها».
من الأقوال التي يذكرها ابن كثير أيضاً، أن آدم قبل أن يموت أخبر أبناءه بأمر الطوفان، وأوصى أحفاده أن يدفنوه في مكان حدده لهم بدقة، فلما وقع الطوفان حمل نوح جثمان آدم في السفينة، وبعد أن جفت الأرض رفض جميع أبناء نوح حمل الجثمان ودفنه في المكان المحدد، وذلك لوحشة الأرض وغياب عمرانها، فقال لهم نوح «إن آدم دعا لمن يلي دفنه بطول العمر، فهابوا المسير إلى ذلك الموضع في ذلك الوقت، فلم يزل جسده عندهم حتى كان الخضر هو الذي تولى دفنه، وأنجز الله ما وعده فهو يحيى إلى ما شاء الله له أن يحيى…».
في المخيال الشيعي الإثني عشري: أبو الدنيا وسلمان الفارسي
رغم ظهور العديد من النماذج على موهبة طول العمر في المِخيال الشيعي، فإن أهم تلك النماذج على الإطلاق قد تمثل في شخصية محمد بن الحسن العسكري، وهو المهدي المنتظر عند الشيعة الإمامية الإثني عشرية، للدرجة التي تجعلنا نميل للقول إن كل تلك النماذج قد وظفت بالأساس لتقديم المبرر العقلي الذي يمهد لتقبل طول عمر المهدي.
على سبيل المثال، يحتفي المِخيال الشيعي بقصة النبي نوح، ويبالغ في تقدير عمره، إذ أورد محمد بن يعقوب الكليني المتوفى 329هـ في كتابه الكافي– الذي يُعدّ أهم كتب الحديث الشيعية- عن الإمام جعفر بن محمد الصادق، أنه قَالَ: «عَاشَ نُوحٌ (عليه السلام) أَلْفَيْ سَنَةٍ وثَلَاثَمِئَةِ سَنَةٍ، مِنْهَا ثَمَانُمِئَةٍ وخَمْسِينَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، وَأَلْفُ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً وهُوَ فِي قَوْمِهِ يَدْعُوهُمْ، وَخَمْسُمِئَةِ عَامٍ بَعْدَ مَا نَزَلَ مِنَ السَّفِينَةِ ونَضَبَ الْمَاءُ…».
الصحابي سلمان الفارسي، والذي يحظى بمقام مهم وبمكانة عظيمة في المِخيال الشيعي لدوره في دعم علي بن أبي طالب والتأكيد على حقه في الإمامة، كان أيضاً أحد النماذج المعتبرة فيما يخص طول العمر، إذ يذكر الشيخ المفيد في الفصول العشرة «وأكثر أهل العلم يقولون: بأنه– أي سلمان الفارسي- رأى المسيح، وأدرك النبي، صلوات الله عليه وآله، وعاش بعده، وكانت وفاته في وسط أيام عمر بن الخطاب…»، كما قيل إن سلمان كان وصي شمعون وصي المسيح، فهو وصي وصي المسيح.
تلك الأقوال الشيعية التي تبالغ في عمر سلمان، من الممكن أن نجد لها بعض الإرهاصات في الكتابات السنية، مثلاُ، يقول ابن الأثير المتوفى 630هـ في كتابه «أُسد الغابة» في معرفة الصحابة «عاش سلمان ثلاثمئة وخمسين سنة»، وينقل عن أبي نعيم الأصبهاني قوله «كان سلمان من المعمرين، يقال إنه أدرك عيسى بن مريم وقرأ الكتابين»، والمقصود بالكتابين هنا التوراة والإنجيل.
علماء الشيعة الإثني عشرية الذين اتفقوا على ولادة محمد بن الحسن العسكري في سنة 255هـ، وأنه قد اختفى تماماً عن الأنظار فيما يسمى بالغيبة الكبرى في 329هـ، وينتظرون ظهوره مرة أخرى حتى الآن؛ قدموا مجموعة من الإجابات للرد على من شكك في طول عمر مهديهم المنتظر، من ذلك ربط الظاهرة بمجموعة من المعجزات المعروفة، والمتفق عليها بين جميع الفرق الإسلامية، فعلى سبيل المثال، يذكر محمد بن علي بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق المتوفى 381هـ في كتابه كمال الدين وتمام النعمة، نقلاً عن الإمام جعفر الصادق «إن الله تبارك وتعالى أدار للقائم منا ثلاثة أدارها في ثلاثة من الرسل، عليهم السلام، قدر مولده تقدير مولد موسى، عليه السلام، وقدر غيبته تقدير غيبة عيسى، عليه السلام، وقدر إبطاءه تقدير إبطاء نوح، عليه السلام، وجعل له من بعد ذلك عمر العبد الصالح – أعني الخضر، عليه السلام، دليلاً على عمره».
من جهة أخرى، امتلأت كتب الشيعة بقصص الأولياء والصالحين الذين وهبوا العمر الطويل، فمثلاً يذكر الصدوق في كتابه سابق الذكر، قصة أبي الدنيا المعمر المغربي، الذي وجد عين الحياة في الصحراء وقد وقف عليها كل من الخضر والنبي إلياس، فتناول من أيديهما شربة ماء، وعاش بعدها لقرون طويلة، وذهب لينصر علياً بن أبي طالب في حروبه في البصرة وصفين، وسيبقى حياً حتى ظهور المهدي المنتظر.
وفي السياق نفسه، أورد الشيخ المفيد المتوفى 413هـ في كتابه المسائل العشر في الغيبة، أسماء العديد من الشخصيات التي تواتر القول بطول أعمارهم في المخيال الشعبي العربي، ونظمت فيهم الأشعار والقصائد، ومنهم «لقمان بن عاد الكبير. وكان أطول الناس عمراً بعد الخضرـ عليه السلام، وذلك أنه عاش على رواية العلماء بالأخبار ثلاثة آلاف سنة وخمسمئة سنة… ومنهم: ربيع بن ضبيع بن وهب بن بغيض بن مالك بن سعد بن عدي بن فزارة. عاش ثلاثمئة سنة وأربعين سنة… ومنهم: أكثم بن صيفي الأسدي. عاش ثلاثمئة سنة وثمانين سنة… ومنهم: ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو. عاش مئتي سنة وعشرين سنة، فلم يشب قط… ومنهم: دريد بن الصمة الجشمي. عاش مئتي سنة…ومنهم: محصن بن عتبان بن ظالم الزبيدي. عاش مئتي سنة وخمسة وخمسين سنة، ومنهم: عمرو بن حممة الدوسي. عاش أربعمئة سنة، ومنهم: الحرث بن مضاض الجرهمي. عاش أربعمئة سنة».
في العصر الحديث، ومع الثورة العلمية الهائلة، ذهب بعض علماء الشيعة الإمامية لربط ظاهرة طول عمر المهدي الغائب بالتقدم التقني والطبي، ومن أبرز من قال بذلك رجل الدين والفيلسوف العراقي محمد باقر الصدر في كتابه «البحث حول المهدي»، والذي ذكر فيه «أنّ طول عمر الإنسان وبقاءه قروناً متعدّدة ممكن منطقياً وممكن علمياً ولكنّه لا يزال غير ممكن عملياً، إلّا أنّ اتّجاه العلم سائر في طريق تحقيق هذا الإمكان عبر طريق طويل…».