كيف أسهمت الحضارة العثمانية في التطور العمراني لشرق أوروبا؟
هي المرة الأولى التي تجتمع فيها حضارة الشرق والغرب على الأراضي الأوروپية لقرون خمسة وتزيد، تحولت فيها جنوب شرق أوروپا تحت الحكم العثماني إلى جزء من العالم الإسلامي بسياسته وعمارته وثقافته واقتصاده، فبُنيت وطورت عشرات المُدن الجديدة، وتحولت قرى وقلاع وبلدات سابقة إلى مراكز ثقافية وتجارية كبيرة، إلى أن وصلت بعض من هذه المدن إلى عواصم ومدن رئيسية في الجمهوريات القومية الحديثة القائمة الآن.
ويرجع أحد أسباب هذا التطور إلى النظام الإداري العثماني الذي كان يقسم أراضيه إلى ولايات، والولايات إلى وحدات إدارية تسمى «سناجق»، وكان كل سنجق يسمى عادة بأكبر مدينة فيه، إلا أنه كان يتم أحيانًا اختيار بلدة صغيرة كمركز للسنجق، مما يجعلها تتطور بشكل سريع وتتحول إلى مدينة.
ولعل عدد المباني الإسلامية التي شُيدت وأقيمت في البلقان العثماني شاهد على رسوخ الحضارة الإسلامية في الأراضي الأوروپية لقرون تتراوح ما بين 5 إلى 6 قرون، فوصل عدد الجوامع والمساجد والأسبلة والمدارس والآثار العثمانية في البلقان طوال قرون الحكم الطويلة إلى 15 ألف 644 أثر ومبنى، تم تدمير آلاف كثيرة منهم بشكل منهجي فترة حكم الدول القومية التي بنتيت على أنقاض الدولة العثمانية [على سبيل المثال وجد في بلغراد فترة الحكم العثماني التي يتخللها فترات انقطاع 101 مسجد لا يتبقى منهم حاليا إلا مسجدًا واحد].
وفي هذا المقال أحاول أن ألقي أضواء على مدن وعواصم حالية لأربع دول أوروپية، أنشأها وطورتها سياسات الإدارة العثمانية بذكر أرقام لأعداد السكان والمنشئات التي تم استحداثها على هذه الأراضي على امتداد قرون، لتصل إلى القرن العشرين كمدن هامة استحقت أن تصبح عواصم ومدن رئيسية لجمهوريات مستقلة.
سراييڤو Sarajevo
تعتبر «سراييڤو» [عاصمة البوسنة والهرسك حاليًا وأكبر مدنها] إحدى المدن البلقانية الجديدة، التي نشأت وتطورت تحت الحكم العُثماني للبوسنة، وتحولت تحت هذا الحكم إلى واحدة من أكبر المدن في أوروپا الجنوبية الشرقية، وواحدة من أكبر مراكز الثقافة الإسلامية في البلقان. وكان للوقف دورا كبيرا في نشوء المدن الجديدة في البلقان، ومنها مدينتنا التي نتحدث عنها، والتي تعتبر أول مدينة تنشأ في البوسنة على النمط الشرقي الإسلامي بعد الفتح العُثماني.
يرتبط اسم المدينة [سراي بوسنة أو سراييڤو] بـ «عيسى بك» مؤسسها، حيث قام بإنشاء وقْفه الذي شكل النواة الرئيسية للمدينة في هذه المنطقة، والذي تكون من جامع في 1457 باسم السلطان «محمد الفاتح»، وحمامًا -بقي حتى 1889-، وجسرا على نهر «ميلياتسكا»، وخان [فندق]، وبيزستان [سوق مغطى للبضائع والمنسوجات] يحتوي على محلات كثيرة، وتكية في قرية «بروداتس» المجاورةProdac التي خُصصت [حسب الوقفية] لنزول «الفقراء والمُسلمين من السادات والغزاة وأبناء السبيل» وتقديم الطعام لهم، وأوقف عليها العديد من الطواحين والكثير من الأراضي. والجدير بالذكر أن وقفية «عيسى بك» قد كُتبت «بالعربية»، وهي اللغة الجديدة التي دخلت البلقان مع العثمانيين، وأصبحت من لغات الثقافة الإسلامية الجديدة التي ساهم بها «البشانقة» بما ألفوه بعد انتشار الإسلام هناك.
أخذت هذه النواة العُمرانية (الجامع – الحمام – السوق – التكية) تكبر بسرعة، فنمى حي جديدة حول الجامع، وحي ثاني حول التكية، وثالث حول السراي، ومع مرور الوقت، وصلت هذه المدينة إلى عصرها الذهبي في النصف الأول من القرن السادس عشر، على يد الوالي «خسرو بك»، مع كثير من المباني الجديدة التي أوقفها لتطوير المدينة مثل مسجد «خسرو بك»، مدرسة، مكتبة، تكية، خان، بيزستان، حمام، بالإضافة إلى كثير من الولاة الآخرين الذين ساهموا بوقفياتهم في نمو المدينة، مما عمل نمو المدينة ونشاط التجارة والكثير من الحرف بشكل سريع، حتى تحولت المدينة إلى واحدة من أعظم مدن جنوب شرق أوروپا.
وبناء على وصف الرحالة العثماني الشهير «أوليا چلبي» للمدينة عندما زارها عام 1660، فإنه يتضح مدى اتساع المدينة وضخامتها، فقد ذكر بأنها تحتوي على 600 حي سكني، 17000 منزل، 77 جامع و 100 مسجد، العديد من المدارس، 180 مكتب لتعليم الصبية، 47 تكية، 300 سبيل، 700 بئر، 5 حمامات، 3 كروانسراي [نزل للمسافرين والقوافل]، 23 خان، 1080 متجر، بيزستان، 7 جسور على نهر “ميلياتسكا”، كنيسة كاثوليكية، وكنيسة أرثوذكسية، وغيرها.
پريزرين Prizren
پريزرين [ثاني أكبر مدن «كوسوڤو» حاليًا] هي بلدة بيزنطية في الأصل، ضُمت إلى الإمبراطورية الصربية في عهد الإمبراطور ستفان دوشان [عاش في الفترة من 1308 إلى 1355]، وهي إحدى أفضل مدن البلقان التي ما زالت تحتفظ بشكلها العثماني الخارجي العائد إلى القرن التاسع عشر، حيث تدخل مقاطعات كاملة منها تحت قانون حماية الآثار الثقافية.
ومنذ الفتح العثماني للبلدة عام 1455 حتى انتهاء الحكم العثماني منها عام 1912، مثلت پريزرين واحدة من أكبر مدن البلقان، ومركزًا ثقافيًا إسلاميًا بارزًا في المنطقة، فقد احتوت على عشرات المساجد والحمامات، ومجموعة من المدارس وتكايا الطرق الصوفية التي تنوعت بشكل واسع، ومكتبة حوت العديد من المخطوطات الإسلامية القديمة. وقد عاش وعمل في هذه المدينة مجموعة هامة من الشعراء والكُتاب العثمانيين، حتى أن المترجم والشاعر الكوسوڤي الكبير «عاشق چلبي» [1520-1572] قد ذكر بأن پريزرين «منبع الشعراء».
بعد فتح البلدة، قامت مجموعات كبيرة من المسلمين الأتراك بالانتقال إلى المدينة وتأسيس «محلات»Mahalleler أو «أحياء» خاصة بهم، وبناء على المعلومات المتوفرة بدفاتر الطابو في الأرشيف العثماني للقرنين السادس عشر والسابع عشر، نلاحظ ازدياد عدد سكان البلدة والأحياء التي يقطنها كل من المسلمين والمسيحين، ففي عام 1530 نجد عدد 270 أسرة مسلمة تعيش في عدد 4 أحياء، مقابل 396 أسرة مسيحية تعيش في 9 أحياء، وذلك بمجموع تقديري 3300 نسمة لكل سكان البلدة. وبمرور ما يزيد عن قرن على هذا الوقت وفي عام 1643، نجد أن عدد العائلات المسلمة قد ارتفع بنسبة كبيرة ليصل إلى 466 عائلة تعيش في 14 حي، مقابل 113 أسرة مسيحية تعيش في 3 أحياء، وذلك بمجموع تقديري 2900 نسمة لكل سكان البلدة.
بالنظر إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر، نجد أن البلدة لم تنمو في المساحة بشكل كبير، إلا أن السمة الإسلامية فيها أصبحت مسيطرة، فقد تحول نسبة من عدد سكان المدينة إلى الإسلام [في عام 1570 وصل عدد سكان المدينة الذين تحولوا إلى الإسلام إلى 13% من المجموع الكلي]، وتم تشييد الكثير من المباني الإسلامية [مساجد – تكايا – الأسبلة]، وبالاعتماد على الوقفيات والوثائق الموجودة بالأرشيف العثماني نستطيع بدقة تتبع النمو الإسلامي للمدينة، فمثلًا تخبرنا الوقفيات بأنه في عام 1520 وجد بالبلدة عدد 1 «جامع»، 4 «مساجد»، «حمام»، و«مكتب» [لتعليم الصبية]، هذا العدد الذي نجده قد ارتفع في عام 1573 إلى 4 «جوامع”، 13 “مسجد”، “حمامان”، 3 “مكاتب”، 2 “كروانسراي”، 1 “مدرسة”، و”مكتبة” حوت مجموعة كبيرة من المخطوطات في الدين، والطب، والرياضيات، والتاريخ، ما زالت قائمة إلى الآن.
ولدينا وصف للمدينة في عامين 1606 و 1614 بواسطة أسقفين كاثوليك زارا المدينة في هذين العامين وهما «ماريو بيزيMario Bizzi» و«پيترو ماساريكي Pietro Masarechi» الذين وصفوا المدينة “بجمال منازلها واحتواء كل منزل على ساحة كبيرة ونافورة مياه، وزرع وأشجار”. أما من ناحية عدد المنازل، فقد قدر بيزي مجموع المنازل بـ 8600 منزل، يمثل عدد منازل الكاثوليك منهم 30 منزلًا فقط بكنائس خاصة بهم. ومن ناحية ماساريكي، فنجد أنه قدر عدد المسلمين في المدينة بعدد 12000 نسمة، 600 نسمة من الصرب، و200 من الكاثوليك، الأرقام التي قد تختلف مقارنة مع البيانات العثمانية، إلا أنه يدل على أن مساحة البلدة كانت تأخذ في الازدياد بشكل مستمر مع مرور القرون.
وفي عام 1843 ضمن إطار إعادة تنظيم «ولايات» الدولة، أصبحت پريزرين عاصمة ولاية «البوسنة» والذي أثر على نمو عدد سكان المدينة بشكل كبير، وقد وصفها الدبلوماسي النمساوي المتخصص في تاريخ ألبانيا وثقافتها “يوهان گيورگ فون هان” في عام 1865 بأنها «أكبر مدينة في ألبانيا»، الأمر الذي يتفق فيه مع «د. فون پيتلينتسDr. von Petelenz » ممثل القنصلية النمساوية الذي عاش عدة سنوات بالمدينة في القرن التاسع عشر، وقام بكتابة تقرير عن المدينة ذكر فيه أن بالمدينة 11540 منزلًا، 8400 منهم للمسلمين، 3000 للأرثوذكس، و 150 للكاثوليك، وذلك بمجموع كلي للسكان يصل إلى 46 ألف نسمة، منهم 36 ألف مسلم.
أما بالنسبة لعدد المساجد في التقرير، فقد ذكر بأن المدينة بها 26 مسجد، كنيستان أرثوذكسيتان، وكنيسة كاثوليكية، و 17 مكتب لتعليم الأولاد، و 9 لتعليم الفتيات، ومدرسة «رشدية»، ومدرسة للطائفة الأرثوذكسية والكاثوليكية. أما من الناحية الاقتصادية فمثلت پريزرين مصنع الأسلحة في البلقان، فينتج بها السيوف، وجميع أنواع البنادق والمسدسات، كما يُنتج كذلك جلد السفيانو الممتاز، والعديد من أنواع المنسوجات، بالإضافة إلى اشتهارها بالفضة.
وفي أكتوبر عام 1912 أثناء حرب البلقان الأولى، تمكن الجيش الصربي من احتلال المدينة والقيام بمذبحة مروعة للمسلمين فيها، صدر حيالها تقارير تفيد بأن عدد ضحايا هذه المذبحة وصل إلى 12 ألف مسلم، كما تم تفجير قلعة المدينة والمباني الملحقة بها، وتم تحويل جامع السلطان «محمد الفاتح» إلى كنيسة، وتدمير أغلب الجوامع والمباني التي تعطي المدينة شكلها الإسلامي.
بلغراد Belgrade
في الأصل قلعة حدودية [حاليًا عاصمة جمهورية صربيا وأكبر مدنها] بموقع ذو أهمية كبيرة يمثل بوابة مفتاح التحكم بطريق المواصلات الحيوي للغرب في اتجاه البلقان والشرق، وللشرق في اتجاه الغرب. سيطر العثمانيون عليها بقيادة السلطان «سليمان القانوني» عام 1521، واستمرت تحت الحكم العثماني حتى عام 1867 باستثناء فترات متقطعة سيطر النمساويين عليها فيها. وأثناء فترة الحكم العثماني اﻷولى [من 1521 حتى 1688] توفر الاستقرار للموقع وتحولت بلغراد من مجرد قلعة إلى واحدة من أكبر نماذج المدن الإسلامية في أوروپا الشرقية، وأصبحت في وجدان وشعور الرحالة الأوروپيين الغربيين «بوابة الشرق» وبداية الانتقال من الغرب الأوروپي إلى الشرق المسلم.
استمرت بلغراد في السنوات الأولى من الحكم العثماني كقلعة ومركز عسكري رئيسي تنطلق منه الجيوش العثمانية لمتابعة الفتوحات في أوروپا، ولكن بعد توسيع رقعة الدولة بفتح «بودا» عاصمة مملكة المجر عام 1541 و«تمشوار» عام 1552، أخذت بلغراد تتطور بسرعة كبيرة من قلعة حدودية إلى مدينة ذات ثقل تجاري واقتصادي بارز في البلقان. وتفيدنا الوثائق الموجودة بأنه في عام 1536-1537 كان بالبلدة 4 أحياء للمسلمين، بعدد 79 أسرة يعيشون حول 4 مساجد.
بينما وُجد 68 أسرة مسيحية تعيش في 12 حي بالبلدة. وبعد انتصاف القرن السادس عشر، ازداد أعداد المسلمين بالمدينة بشكل كبير عبر 3 محاور، الأول عبر جلب الحرفيين والتجار المسلمين من أنحاء الأناضول وإسكانهم في البلدة مما كسب البلدة ثقل حرفي جديد، الثاني عبر الحامية العسكرية والجهاز الإداري للبلدة الذي يعيش في المدينة، والثالث عبر تحول سكان المدينة للدين الإسلامي، وبلغة الأرقام نجد أنه في عام 1572-1573 ازدادت مساحة المدينة بشكل سريع، وأصبح يقطنها 600 أسرة مسلمة في 21 حي، و 200 أسرة مسيحية، 133 أسرة من الغجر، و 20 أسرة يهودية. وبمرور أول قرن من الحكم العثماني، تحولت بلغراد إلى أكبر مدن البلقان ذات الطابع الشرقي الإسلامي، وحسب وصف المؤرخ الصربي المعاصر دوشان بوبوڤيتشDušan J. Popović فإن بلغراد أصبحت تشبه دمشق أو غيرها من مدن الشرق بسكانها، ومنشآتها، وثقافتها، وتقاليدها.
أما وضع المدينة الاقتصادي، فقد أدى الموقع المميز لها إلى تحولها إلى وسيط تجاري بين الشرق والغرب، أي بين البلاد العربية والبلاد الأوروپية، فحسب وصف «أوليا چلبي» في زيارته لبلغراد في القرن السابع عشر عام 1660، كان يأتي للمدينة كل عام من 5 إلى 6 آلاف حمل من البضائع على الجمال والعربات من مصر، دمشق، صيدا، بيروت، بالإضافة إلى إيران، كما كان يتم تهيئة هذه البضائع لإعادة تصديرها إلى المجر، وبولنيا، والسويد، والبندقية وغيرها.
يذكر لنا كذلك “أوليا چلبي” تطور عدد سكان المدينة وبالتالي مساحتها، فيذكر رحالتنا بأنه وجد 38 حي للمسلمين، و 11 حي لبقية الأعراق (صرب، يونانيين، غجر، يهود، أرمن)، بعدد 98 ألف نسمة كمجموع كلي بينهم 21 ألف من غير المسلمين، كما وجد 217 مسجد وجامع [وقد ذكر كاتب چلبي بأنهم يصلوا إلى 100 فقط]، 160 قصر، مع وجود 6 كروانسراي، واحدة منها كانت تشبه القلعة في ضخامة حجمها، حيث حوت على 60 قاعة في الطابق الأرضي والأول، مع إسطبل للجمال وآخر للخيول، كما حوت المدينة كذلك على «بيزستان» [سوق مغطى للبضائع والأقمشة]، 600 سبيل، 21 خانًا، 17 تكية، 270 كُتّاب، 8 مدارس، 9 معاهد لدراسة «الحديث الشريف»، دار لضرب النقود، بالإضافة إلى كنائس ومؤسسات ثقافية للمسيحين والأقلية اليهودية. وقد أجمع كل من زار بلغراد في القرن السابع عشر على أنها بلدة كبيرة وهامة بشكل شرقي إسلامي واضح.
لوحة فنية لبلغراد تحت الإدارة العثمانية تعود لعام 1865 بريشة الفنان النمساوي «جوبول»
تعرضت المدينة لتدمير ممنهج للرموز الإسلامية الموجودة بها تحت الحكم النمساوي الذي حاصر المدينة وسيطر عليها لثلاث فترات: الفترى الأولى القصيرة من 1688 حتى 1690، والفترة الثانية الأطول من 1717 حتى 1739، والفترة الثالثة من 1789 حتى 1791، وخاصة في الفترة الثانية التي عمد فيها إلى قتل السكان المسلمين وإبادتهم، وتحويل المساجد إلى كنائس كاثوليكية أو وتدميرها، واستخدام جزء منها في أغراض أخرى كمخازن ومشافي، كما تم تحويل الحمامات أماكن للاستخدام في أغراض أخرى مثل مخازن للبارود، وبيوت سكنية، مما جعل أحد الرحالة ويُدعى «دريش» يقول عند زيارته المدينة عام 1719 أي بعد عامين فقط من الاحتلال النمساوي: «من شاهد بلغراد في عهد الأتراك وعاد لمشاهدتها اليوم لا يمكن أن يقول أبدًا أن هذه المدينة هي بلغراد السابقة».
سكوپيه Skopje
يعود تاريخ وجود هذه المدينة [حاليا عاصمة جمهورية مقدونيا] في نقس الموقع القائم الآن إلى القرن السادس الميلادي في عهد الإمبراطور البيزنطي «جستينيان الأول»، وورثها الصرب فيما بعد وظلت في حوزتهم من 1282 حتى وقت فتحها على يد السلطان «بايزيد الأول» عام 1393. أصبحت سكوپيه/اسكوب بعد فترة من الزمن المقر الثاني لسلاطين آل عثمان بعد «إدرنة»، وأضحت قاعدة للغزوات في الشمال، ونشطت فيها حركة البناء للجوامع والمساجد والمدارس والجسور والحمامات وأنواع العمائر المختلفة التي ما زال جزء منها قائم إلى الآن، فمنذ القرن الخامس عشر وحتى السابع عشر شهدت المدينة حركة عمرانية مذهلة تحولت على إثرها إلى واحدة من أهم المراكز الإدارية العثمانية في شرق أوروپا، حيث تُضرب العملة وتصك، بالإضافة إلى حركة علمية وثقافية كبيرة شهدتها المدينة ، وحصول مدارسها على سمعة طيبة، وتحولها إلى مركز تجاري قوي.
حوت البلدة في عام 1450 على 33 حي منهم 25 للمسلمين و 8 أحياء للمسيحين، أما في عام 1544 فقد حوت المدينة على 67 حي منهم 53 للمسلمين و 14 للمسيحين، بعدد متاجر وصل إلى 1015 متجر. وصف المدينة العديد من الرحالة الأوروپيين الذين زاروها في القرن السادس عشر والسابع عشر في زروة تطورها، كما زارها العالِم العثماني الكبير «كاتب چلبي»، والرحالة «أوليا چلبي» الذي زارها في القرن السابع عشر عام 1661 وسجل وجود 70 حي فيها، 10,060 منزل، 2150 متجر، 120 جامع ومسجد، 9 دور لقراءة القرآن وتجويده، 70 مكتب لتعليم الصبية، 20 تكية وغيرها.
انتهى العصر الكبير للمدينة بالحرب التي شنتها القوات النمساوية لاحتلال المدينة، وانتصرت فيها في أكتوبر 1689، حيث تم تدمير المدينة بشكل كامل قبل استعادتها عام 1690، مع هروب أهلها منها، بالإضافة إلى الزلازل المتتابعة التي ضربت المدينة، والطاعون الذي تفشى فيها وقضى على نسبة ضخمة ممن تبقى من سكانها.
مع بداية القرن التاسع عشر، هاجر إلى المدينة أعداد كبيرة من السكان من الولايات المجاورة، فالمسيحين أتوا من كوسوڤو ومقدونيا، المسلمين من البوسنة، ليعيدوا تعميرها مرة أخرى، حتى خروجها من تحت السيطرة العثمانية إلى السيطرة الصربية بشكل نهائي في حرب البلقان عام 1912.
- محمد م. الأرناؤوط: "دور الوقف في نشوء المدن الجديدة في البوسنة (سراييفو نموذجًا)"، (مجلة أوقاف)، (8)، ربيع الأول 1426هـ/ مايو 2005، 47- 56.
- محمد م. الأرناؤوط، دراسات في التاريخ الحضاري للإسلام في البلقان، زغوان – دبي، جانفي، مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، مركز جمعية الماجد للثقافة والتراث، 1996.
- محمد موفاكو، تاريخ بلغراد الإسلامية، مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع، الكويت، الطبعة الأولى، 1987.
- محمد محمد قاروط، هموم ومشكلات مسلمي البلقان: كوسوفا – مقدونيا – دار المكتبي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 2000.
- إلبر أورطايلي، نحن وتاريخنا، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى، 2015.
- محمد م. الأرناؤوط، الوقف في العالم الإسلامي ما بين الماضي والحاضر، جداول للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2011.
- Machiel Kiel, Studies on the Ottoman architecture of the Balkan, Variorum Publishing Group, 1990
- Ayşe Zişan Furat, Hamit Er, Balkans and Islam: Encounter, Transformation, Discontinuity, Continuity, Cambridge Scholars Publishing, 2012
- The Encyclopaedia of Islam, new editon, vol. I, Leiden, 1986
- The Encyclopaedia of Islam, new editon, vol. VIII, Leiden, 1995
- The Encyclopaedia of Islam, new editon, vol. X, Leiden, 2000