كيف نظر المصريون للتجربة التركية؟
هناك تصاعد وتزايد ملحوظ في الدراسات والتحليلات التي تتناول العلاقات التركية المصرية في الفترة الأخيرة، خصوصًا بعد ثورة الـ 25 من يناير؛ في ظل التغيرات والتطورات الهائلة التي حدثت في كل من الداخل المصري والتركي والتي أثرت بشكل كبير على العلاقات بين البلدين.
وعلى الرغم من أن هذا التطور والتفاعل في مجال البحث في العلاقات بين البلدين يبدو إيجابيًا في الوهلة الأولى؛ إلا أن الأمر لا يبدو مبشرًا كثيرًا؛ فمعظم تلك الدراسات لا تتعدى كونها تهدف لتوجيه الرأي العام ولا تمت للدراسات الأكاديمية بصلة.
وليس من الصعب كثيرًا على المتابع العادي لتلك الدراسات التي تتناول تركيا في هذا الوقت على وجه التحديد ألا يلاحظ عدم الموضوعية والانحياز بشكل مبالغ فيه معظم الوقت، ضاربا بالحقائق والوقائع عرض الحائط، كما أن بعضها يكون مرتبطًا باللحظة الراهنة، وهو ما يجعلها عاطفية تحيد عن النظرة التحليلية الصائبة. وفي هذه المقالة محاولة لتناول العلاقات التركية المصرية من منظور جديد وذلك، لإيجاد طرق ومسالك أخرى بعيدًا عن الهستيريا والهوس اللذان تكاد لا تخلو منهما معظم الدراسات في هذا الشأن.
في الحقيقة أنه كما أصبح من الشائع الحديث عن تركيا في الأوساط المصرية المختلفة وعلى المستوى الشعبي بعد فترة طويلة من القطيعة والتجاهل والتناسي، فإن تركيا في المقابل أيضًا لم تبدأ في اسكتشاف العالم العربي من جديد إلا منذ عهد قريب.
فالانفتاح التركي بدأ في العالم العربي بشكل عام ومصر تحديدًا مع سيل المسلسلات التركية التي اشتهرت كثيرًا بدءًا من عام 2007، والتي لاقت رواجًا كبيرًا من قبل الجمهور العربي.
وبغض النظر عن الأسباب وراء نجاح المسلسلات التركية في الوطن العربي وفي مصر، سواء كانت أسبابًا تجاريًا بحتة أم بسبب التقارب الثقافي والاجتماعي بين الشعبين؛ يمكننا القول أن تلك المسلسلات كان لها نصيب الأسد في دعم النموذج والموديل التركي كـ “حلم” أمام الشعوب العربية خاصة مع موجات الثورات والأمل في التغير والرغبة في التحرر من جميع القيود.
وعلى الرغم من أن حزب العدالة والتنمية كانت لديه النية والرغبة في الانفتاح على العالم العربي؛ إلا أن التداخل التركي في العالم العربي لم يكن مقصودًا في البداية أن يكون عن طريق قطاع المسلسلات التركية التي تسيطر عليها الشركات ورؤوس الأموال التي تدعم وتمثل جزءًا مهمًا من المعارضة العلمانية ضد حزب العدالة والتنمية ذي التوجهات الإسلامية المحافظة، وهو ما كان واضحًا في تصريحات بعض المسؤولين عن أن تلك المسلسلات التي تقوم بعرض صورة المجتمع التركي بشكل مضلل وخاطئ وتقوم بتشويه الحقائق عنه أمام المجتمعات العربية، إلا أن هذا لم يمنع صناع القرار من الاستفادة من هذا التداخل المبكر مع الشعوب العربية.
وقد وضع داوود أوغلو نظريته “العمق الإستراتيجي” ليؤسس لإحداث تغيرات في السياسة التركية الخارجية، التي تميزت دائمًا بالتقليدية وعدم المجازفة بالخروج عن المسار والطريق الذي رسمه أتاتورك وخلفاؤه من بعده، وعمل أوغلو من خلال نظريته الثورية والمجددة في السياسة الخارجية التركية على أن يكون لتركيا دور فاعل في المنطقة، وذلك من خلال قوتها الناعمة التي تتمثل في ثقافتها الفسيفسائية المتنوعة والجذابة وطبيعتها الجغرافية الخضراء الخلابة والتي تختلف عن طبيعة مصر الصحراوية وباقي دول العالم العربي، هذا بالإضافة بالطبع إلى قوة اقتصادها المتصاعدة في ظل التطور والتنوع في المجال السياسي والنقلة النوعية المشهودة خاصة في البلديات والمحليات، هذا بجانب محاولات الحكومة الناعمة لإعادة هيكلة الجيش والتحكم في سلطاته وضبط العلاقات المدنية العسكرية للحد من تدخله في الحياة السياسية.
وبطبيعة الحال فقد ترتب على هذا تطور وسيولة إيجابية على المستوى الاجتماعي وارتفاع نسبة الجمعيات الأهلية والمدنية مختلفة التوجهات في جميع المدن والمجالات تقريبًا، وهو ما كان بدوره في النهاية عاملًا قويًا في جذب الأنظار المتفائلة بالتجربة التركية في مصر على مختلف الأصعدة.
ومع ثورة 25 يناير وصل الانبهار المصري بالنموذج التركي وبتجربته الناجحة ذروته، خاصة مع الطموحات والآمال العظيمة للوصول بمصر الجديدة لـ “تركيا أخرى”. إلا أن هذا الانبهار بالتجربة التركية في الحقيقية كان دون وعي بالاختلافات السوسولوجية الكبيرة بين المجتمعين المصري والتركي والتي ما لبثت أن بدأت تظهر على السطح بمرور الوقت.
وقد تسبب القائمون على الدراسات التي تناولت تركيا الجديدة من وجهة النظر المروجة لها كمنوذج “إسلامي – ليبرالي” في سوء الفهم هذا بشكل كبير، في حين لم يحاول الباحثون المصريون النظر في ما وراء هذا النموذج.
فعلى الجانب الأول بذل الحالمون بمصر “الإسلامية ” أقصى جهودهم في دعم صورة النموذج التركي الإسلامي المحافظ، وعملوا على الترويج له بكل حماس، في حين حرص الجانب الآخر على تقديم النموذج التركي بشكله “الليبرالي أو العلماني” للمجتمع المصري على أنه خير دليل ومثال للوصول بمصر لبر التقدم والازدهار.
ولم يحاول أيًا من الطرفين النظر لتركيا من خلال عدسات أخرى غير تلك تعكس الصور “السطحية ” التي يرغبون في رؤيتها والتي تخدم رواية كل منهم. وفي غمرة كل هذا لم تُقْدِم أي دراسة على تناول تركيا من منظور سوسيولوجي أوأنثروبولوجي بشكل جاد، واكتفى الجميع بالاهتمام بالعلاقات السياسية – الاقتصادية، في الوقت الذي زاد فيه البعض على هذا بتناول العلاقات التاريخية بين البلدين وتلفيق وتدليس بعض الحقائق التي تتهم الطرف الآخر إما بالاستعمارية أو الخيانة دون محاولة العمل عليها ودراستها بشكل جاد للتوصل لحلول حقيقية حيالها بدلًا من الردم عليها، وكان نفس هؤلاء المدعون فيما بعد هم أول المروجين لتركيا كدولة إمبريالية ذات تاريخ سيء طويل من الاستعمار لمصر.
يمكننا القول بإيجاز أن النموذج التركي مر بثلات مراحل في مصر: المرحلة الأولى بدأت قبل الثورة من خلال المسلسلات وما صاحبها من فضول من قبل المصريين تجاه تركيا والنظر إليها كحلم اجتماعي يتمنى الناس لو يعايشون مثله في مصر، ثم تحول هذا الحلم بعد الثورة لنموذج سياسي يتباحث شباب الثورة والسياسيون في كيفية تطبيقه، ثم ما لبث أن تحول هذا الحلم والنموذج في النهاية بعد 30 يونيو لكره وعداء شديد من قبل السياسيين والإعلاميين والأفراد في الشارع كرد فعل على دعم الحكومة التركية للإخوان في مصر.
بالنسبة لتركيا كان اهتمام معظم الأكاديمين والمتخصصين في مجال العلاقات الدولية والمهتمين بالشؤون الخارجية في تركيا ينصب على الغرب والاتحاد الأوربي بشكل خاص قبل قدوم حزب العدالة والتنمية للحكم عام 2002، في حين كانت الدراسات المتخصصة بالشرق الأوسط بشكل عام والعالم العربي بشكل خاص قليلة مقارنة بنظريتها من الدراسات الغربية، وتكاد تكون منحصرة على الطبقات الأكثر محافظة وتدينًا من الأكاديمين الأتراك الراغبين في تعلم اللغة العربية لغة الإسلام.
كما أن الاهتمام التركي اختلف على حسب النظام الحاكم سواء في مصر أو تركيا، فعلي سبيل المثال كان الاهتمام التركي واضحًا للعيان من خلال كمية الدراسات البحثية حول فترة جمال عبد الناصر في مصر، لما مثله من عقبات أمام الطموحات والمشروعات التي كانت ترغب تركيا في تحقيقها في تلك الفترة ضمن الصراع الغربي بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في فترة الحرب الباردة، مقارنة بتناقص هذا الاهتمام بمصر من قبل الأكاديميين الأتراك في فترة أنور السادات الذي قطع العلاقات المصرية مع الاتحاد السوفيتي ووطد العلاقات المصرية مع الغرب لدرجة التبعية، فلم يعد بالتالي يمثل خطرًا على المصالح التركية كما كان من قبل.
بشكل عام يمكننا القول أن هناك نقصًا كبيرًا في الدراسات التركية والمصرية التي تحاول فهم ودراسة الطرف الآخر من مقاربات سوسيولوجية وأنثروبولوجية وثقافية في مقابل الدراسات التي تتناول العلاقات بينهم من منظور العلاقات الدولية، مما يجعل العلاقات تتمحور وتنحصر حول الروابط السياسية والاقتصادية فقط، لتبقى المحاولات الأخرى المدنية التي تحاول فتح وخلق مجالات أخرى للتقارب المصري التركي ضعيفة وغير مؤثرة، وتظل تعمل تحت مظلة الأنظمة الحاكمة وفق أهواءها ومصالحها.
وبالتأكيد لا يعني هذا التقليل من شأن الدراسات التي تعنى بالشؤون الخارجية والعلاقات الدولية، إلا أن ندرة الدراسات التحليلية من المنظورات الأخرى تؤدي بلا شك لتكوين صورة يمكن القول أنها هلامية سطحية لا تدرك ماهية التفاعلات الداخلية سواء على الجانب المصري أو التركي، مما يجعل صانع القرار يتسرع في اتخاذ قرارات خاطئة غير محسوبة دون أن يدرك عواقبها على الطرف الآخر. وبالنظر والبحث في أسباب هذا النقص في الدراسات المتعمقة من قبل الطرفين نجد أن الجهل المتبادل باللغة من قبل الطرفين أو اقتصار معرفة اللغة على أفراد أو مجموعات معينة تحاول توجيه العلاقات بين الدولتين لخدمة مصالحها الشخصية تأتي على رأس العقبات، فالكثير من الدراسين والأكاديمين يعتمدون في مصادرهم على الدراسات المكتوبة بلغات وسيطة وهي غالبًا ما تكون اللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو الترجمات التي تخل أو تعجز أحيانًا عن نقل وترجمة المعني الحقيقي المقصود في اللغة الأم.
وفي هذا الصدد أيضًا لابد من الإشارة إلى أنه في مقابل ندرة دارسي اللغة التركية من قبل الباحثين العرب، فإنك تجد على الجانب الآخر متعلمي اللغة العربية من الأتراك في الأغلب ما يكونون من غير الدارسين لمجال العلوم السياسية أو العلاقات الدولية ومن يعملون في مجال العلاقات العربية التركية، ويكونون مصدرًا مهمًا في صناعة القرار التركي وهو ما يؤدي بدوره إلى الوقوع في الكثير من الأخطاء.
ويبقي السؤال هو، هل تتأثر نظرة المصريين للتجربة التركية في ظل الانتخابات البرلمانية التي تشهدها تركيا في السابع من يونيو الجاري، بينما لا يعرف أحد علي وجه الدقة واليقين متي ستحدث الانتخابات البرلمانية في مصر؟