الزهرة vs الدبابة: كيف أصبحت «عباد الشمس» رمزًا للأزمة الأوكرانية؟

منذ الخميس الماضي، تداول مستخدمو موقع التدوينات «تويتر» فيديو لامرأة أوكرانية تتحدّى عدة جنود روس بعدما ذهبت إليهم مُباشرة وطلبت منهم وضع حفنة من بذور عباد الشمس في جيوبهم حتى تنمو عقب وفاتهم خلال تلك المعارك.

بطبيعة الحال حقّق ذلك الفيديو مشاهدات مليونية فور ظهوره فهو -رغم مدته القصيرة للغاية- يحوي كل الأركان اللازمة لصُنع فيديو ذائع الصيت؛ قوة احتلال غاشمة تكتسح دولة ضعيفة نسبيًّا، امرأة عجوز تتحدّى جنديًّا مدججًا بالسلاح، وأخيرًا زهرة صفراء فارعة الأوراق باتت حديث العالم بأسره، بعدما أصبحت «عباد الشمس» رمزًا يختصر كل الأهوال التي جرت الأيام الماضية كلها في صورة واحدة.

كان هذا الفيديو سببًا في «أيقنة» زهرة عباد الشمس كرمزٍ تُختزل فيه الأزمة الأوكرانية دون عناء كثير.

وهو ما يُفسّر تكالب وكالات الأنباء العالمية على نشره عبر صفحاتها بعد ترجمتها، وعلى رأسها «بي بي سي».

وبين ليلة وضحاها، باتت الزهرة الصفراء إعلانًا صريحًا بتحدّي الدبابة الروسية التي ترزح في شوارع أوكرانيا، قد تتمكّن من السيطرة على السطح، لكن الأعماق المليئة ببذور عباد الشمس ستستعصي دومًا على رجال بوتين، وهو ما دفع مجندات أوكرانيات حرصن على تزيين شعورهن بالزهرة تعبيرًا عن دعمهن المطلق لبلادهن في أزمتها الأخيرة.

الاستعانة بالزهرة الصفراء للتنديد بالروس لم يقتصر على أوروبا وإنما ظهر في أمريكا أيضًا، بعدما ظهرت بها السيدة الأولى جيل بايدن (70 عامًا) مرتين متتاليتين؛ المرة الأولى طرّزت بها قناع وجهها في حفل بالبيت الأبيض الإثنين الماضي، وفي اليوم التالي، وخلال إلقاء الرئيس بايدن خطابًا ارتدت زوجته ثوبًا أزرق طُرِّز معصماه بزهرة العباد.

وبالمثل حرصت الممثلة الأيرلندية كايتريونا بالف (Caitriona Balfe) على حضور حفل فني في لوس أنجليس الأسبوع الماضي، وهي تقبض زهرة عباد الشمس بين أصابع يدها، كما تبارى مجموعة من الرسامين في جزيرة فانكوفر الكندية على رسم صور عباد الشمس على الصخور دعمًا لأوكرانيا، مخططة أن تنشر 500 رسمة في أرجاء الجزيرة في غضون أيام.

أوكرانيا = زهرة عباد الشمس

ما إن اجتاح الجيش الروسي أوكرانيا حتى اندلعت مظاهرات حاشدة حول العالم تنديدًا بالغزو ودعمًا لأوكرانيا، حرص منظموها على ألا تخلو أي واحدةٍ منها ببعضٍ من «زهرة العباد».

في لندن، ألصق المتظاهرون صور الزهرة بجدران السفارة جوار لافتاتهم التي حملت سبابًا مستمرًّا بحقِّ بوتين ورجاله، كما أن بعض النشطاء الأوكرانيين المقاومين للحرب حرصوا على وضع رمز الوردة عبر حسابهم على تويتر مثلما فعل ديفيد هوج (davidhog)، ومايكل فايس (michaeldweiss)، وبطبيعة الحال شاع استخدام رمز الوردة الصفراء بشدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حتى باتت مجرد الاستعانة به إشارة واضحة على دعم أوكرانيا.

استدعاء الرمز الوطني

في عام 1996م، تخلّت أوكرانيا عن آخر رأس نووي تمتلكه، وهو الحدث الذي احتفل به زعماء أوكرانيا من خلال نثر بذور عباد الشمس إعلاءً للقيمة الوطنية لبلادهم على نزعات الحرب.

وفي خطوة رمزية كثيفة الدلالة قام الرئيس الأوكراني بزراعة عبادة الشمس في قاعدة بيرفومايسك للصواريخ في جنوب أوكرانيا بعدما كانت تلك الأرض مخزنًا سابقا للصواريخ، كخطوة تنبّئ بنية بلاده في الاستئناس بالسلام كقاعدة لبناء مستقبل بلاده القريب.

المفارقة أن المسؤولين الأمريكيين الذين شجّعوا الأوكرانيين على الإقدام على تلك الخطوة -في عهد الرئيس ريجان- اعتبروا أن هذه الخطوة ستجعل الأوكرانيين «أكثر أمنًا»، وهو ما لم يتحقّق على الإطلاق، وإنما كان خطوة للوراء ساهمت في فرض الروس المزيد من الهيمنة على الأراضي الصفراء، وربما لو بقيت تلك الأسلحة على حالها ما تجرّأ بوتين على تنفيذ تلك العملية العسكرية التي نتابعها هذه الأيام.

والمفارقة الأشد أن التخلي عن هذا السلاح جرى وفقًا لاتفاقية بودابست الشهيرة التي تعهدت فيها روسيا «باحترام استقلال أوكرانيا وسيادتها وحدودها الحالية، وأكدت على «الامتناع عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد وحدة أراضي أوكرانيا أو استقلالها السياسي».

لطالما أحبَّ الأوكرانيون تلك النوعية من الزهور التي وجدت في أوكرانيا جوًّا مثاليًا لها فنمت في كل مكان، وهو ما دفع الأوكرانيين للتعلّق بها واعتبارها رمزًا لهم حتى أن بعض طوائفهم قدّستها كرمزٍ للشمس التي عبدوها في مرحلة ما قبل المسيحية.

ارتباط الزهرة الصفراء بالشمس والدفء والأمل جعلها موضع محبّة من الأوكرانيين الذين اعتبروا أنها خير مُعبِّرٍ عن الهوية الحقيقية لهم.

استعان الأوكرانيون بزهور العباد في مناسباتهم الخاصة والقومية وفي الاحتفالات العامة، طرّزوها على الجدران وأدواتهم المنزلية وحتى أثاثهم الخشبي.

كما يكمن في تلك الزهرة معنى باطني هام للغاية، فهي وسيلة تمرّد بها الأوكرانيون على تعليمات الكنيسة الأرثوذكسية التي يقع مقرّها الرئيس في موسكو، فبحسب تعليمات الصوم الكبير ليس على المسيحيين استخدام الزبدة أو شحم الخنزير في الطهي، أما زيت زهرة العباد فلا حرج فيه، وهو ما أدّى إلى الإقبال بكثافة على استخدامه وعلى زراعة تلك الزهرة، وبحلول القرن الـ19 زاد انتشار حقول الزهرة الصفراء في كافة أنحاء أوكرانيا.

وهكذا مثّلت زهرة عباد الشمس أول محاولة أوكرانية للخروج عن الطوق الروسي، لذا تكون إعادة استدعائها في هذه الأجواء أمرًا بالغ المنطقية.

بمرور الوقت، أصبحت أوكرانيا رائدة على العالم في إنتاج زيت عباد الشمس، واحتلت مركز الصدارة لفترة طويلة، منها عام 2018م الذي أنتجت أوكرانيا فيه قرابة 30% من إنتاج العالم من زيت عباد الشمس، متفوقةً على روسيا التي حلّت في المرتبة الثانية بنسبة 24% فقط. أصبحت الزهرة الصفراء ليست مجرد المحصول الزراعي الأول في البلاد، وإنما رمزًا للهوية الوطنية وبطلاً قوميًّا يكفي ظهوره علنًا لإرباك الأعداء، شأنه شأن الشال الفلسطيني، وكابوسًا سيظلُّ يُلاحق بوتين لفترة لا يعلم مداها إلا الله.