كيف تتحكم قطعة شيكولاتة في إرادة الإنسان؟!
ربما تعتقد أن الأمر سهل، أو أن إجابة السؤال بسيطة، لكني أعدك أنك ستتفاجأ عندما تعلم أنك -الإنسان العاقل- الطرف الأضعف في المعادلة والتي سنضع السكر في أحد أطرافها بينما سنضع إرادتك، مخك، صحتك، وجسدك في الطرف الآخر.
السكر مصدر الطاقة الوحيد للمخ
المخ آلة شديدة التعقيد، ويستهلك بمفرده ما تصل نسبته لــ 20-25% من إجمالي الطاقة التي يستهلكها الجسم. لكن، يختلف المخ في كونه لا يتعامل مع أي نوع من أنواع المواد المغذية غير الجلوكوز (أبسط أنواع السكريات)، فهو مصدر طاقته الحصري. ويحتاج المخ لإمداد مستمر غير منقطع للجلوكوز عن طريق الدم، فهو يستهلك ما يقدر ب 5.6 ميللي جرام من الجلوكوز لكل 100 جرام من المخ لكل دقيقة. ويوفر الجلوكوز الطاقة لكل العمليات الفسيولوجية للمخ من خلال تكوين جزيئات الطاقة ATP والحفاظ على الخلايا العصبية والداعمة، وأيضًا تكوين الناقلات العصبية في المخ. وهذا يعني أن الجلوكوز هو المسيطر على المخ، وغيابه يعرّض هذا العضو المعقد للعديد من الأمراض كما يؤثر بالقطع على جسم الإنسان ككل.
والجلوكوز من السكريات الأحادية، يتكون من 6 ذرات من الكربون ومثلهم من الأكسجين و 12 ذرة هيدروجين، وصيغته الجزيئية C6H12O6، يتكون أثناء عملية التمثيل الضوئي في النباتات من جزئيات الماء وثاني أكسيد الكربون، ويعتبر مصدر الطاقة الأهم لكل الكائنات الحية، ومصدر الطاقة الحصري للمخ كما ذكرنا. يتم تخزين الجلوكوز على هيئة بوليمرات تتكون من الكثير من جزئيات الجلوكوز؛ في النباتات على هيئة نشا، وفي الحيوانات على هيئة جليكوجين.
الإدمان من أول مرة
عند تناولك طعامًا يحتوي على نسبة عالية من السكريات، كالحلويات أو المعجنات أو منتجات الكاكاو، تستشعر بقوة لذة الطعام وكذلك الإحساس بالسعادة اللحظية؛ مما يدفعك دفعًا لإعادة تكرار تلك التجربة الممتعة سواء أكنت تحتاج لتناول السكريات مرة أخرى أم لا، وسواء أكان يحتاجها جسدك فعليًّا أم لا. لم يترك العلماء بالطبع هذا الأمر يمرّ مرور الكرام، بل قاموا بإجراء العديد من الأبحاث حول هذا الأمر، وقد كان التساؤل الرئيسي عن الذي يدفع الإنسان وبقوة لتناول المزيد من السكريات. والمفاجئ في الأمر أنهم وجدوا أن تأثير السكريات على المخ يكاد يقترب من تأثير الكوكايين والتبغ، فالسكر -مثلهم تمامًا- يجعلك مدمنًا لتناوله، ومن أول مرة.
فأثناء تناوله، يقوم السكر بتنشيط المستقبلات الحسّية للمواد السكرية في اللسان، والتي تقوم بدورها بإرسال إشارات لجذع المخ، والذي ينقلها للعديد من المناطق بالمخ، وأهمها القشرة المخية، والتي تستشعر وتفهم معنى الإشارة لتدرك أنها لذيذة، ومن هنا يبدأ الإدمان.
منظومة المكافأة بالمخ
ليجيب مخك على السؤال المنطقي الهام بعد أي فعل، ألا وهو، هل يجب أن أكرر هذا الفعل مرة أخرى؟، يحتاج مخك لآلية معقدة للإجابة بطريقة صحيحة، أو ربما خاطئة، وتلك الآلية تسمى منظومة المكافأة بالمخ Brain Reward System.
منظومة المكافأة بالمخ هي منظومة معقدة تتكون من العديد المناطق المختلفة والمسارات المتصلة مع بعضها، بجانب اعتمادها على مادة كيميائية تفرز بالمخ تسمى الدوبامين، وهو أحد أهم النواقل العصبية بالمخ. المسار الأول يسمى mesolimbic dopamine pathway ويعتقد أنه يلعب الدور الأساسي في منظومة المكافئة، ويصل منطقة ventral tegmental area في المخ الأوسط، وهي أحد أهم المناطق المسؤولة عن إنتاج الدوبامين في المخ بمنطقة nucleus accumbens والموجودة في ventral striatum في المخ والمسؤولة أساسًا عن الإحساس بالدافع والهدف والمكافأة. والمسار الهام الآخر يربط منقطة إنتاج الدوبامين بالقشرة المخية cerebral cortex. ويعتبر هذان المساران من أهم مسارات الدوبامين وكذلك منظومة المكافأة في المخ.
فعند ممارستك لفعل محبب كتناول السكريات، أو المخدرات، أو حتى الخروج مع الأصدقاء لمشاهدة فيلم ممتع، يؤثر هذا الفعل على المخ ويقوم بتنشيط منظومة المكافأة والتي تفرز الدوبامين، وعند تنشيطها بشكل متكرر يبدأ الأمر في الخروج عن السيطرة. في حالة تناول السكريات -موضوعنا الآن- يبدأ المخ في إقناعك بأنك تحتاج للمزيد وبدون توقف. تبدأ لهفتك في الخروج عن السيطرة، وتصبح مقاومة تناول قطعة أخرى من كعكة لذيذة أو كوب من المثلجات هو هدفك اللحظي الأسمى والذي لا تستطيع مقاومته بسهولة.
مكافأة السكر، دونًا عن باقي الطعام
للمخ طريقة ذكية في التعامل مع الطعام، لكنها تفشل دائمًا أمام السكريات. فعند تناولك طعامًا صحيًّا لأول مرة يُفرز الدوبامين في المخ ليقوم بتفعيل منظومة المكافأة. وعند تناولك نفس الطعام لأكثر من مرة يبدأ معدل إفراز الدوبامين في الاضمحلال ويتوقف الإحساس بالبهجة. ولهذا حكمة، فهنا يهدف المخ لتغيير نوعية الطعام الذي تتناوله وذلك لكي يحصل جسمك على مختلف أنواع المواد المغذية والفيتامينات والمعادن والتي لن تتوفر جميعها في نوع واحد من الطعام. ولهذا تتوقف منظومة المكافأة بعد فترة حتى تبدأ في تنويع مصادر طعامك. لكن، هذا النظام الذي يفشل مع السكريات، فعند تناولك كمية كبيرة من السكريات ولفترات طويلة يستمر الدوبامين في العمل وتستمر منظومة المكافأة في تغذية إحساسك بالفرحة والرغبة المرتبطة ذهنيًّا بتناول السكريات. وهنا يعمل السكر كالدواء أو المخدر أو المادة القابلة للإدمان على المخ، يدفعك بقوة نحو إعادة تناوله بلا كلل ولا ملل، وبلا فائدة حقيقية. ومن هنا تبدأ المشاكل، فالسكريات ضارة، ولن نبالغ إن قلنا أنها شديدة الضرر أيضًا.
أنت أم السكر؟، من الأقوى؟
من الناحية الطبية البحتة، ينتصر السكر، وسيتسبب انتصاره -للأسف- في الكثير من الأمراض والتي ستتفاجأ أن أبسطها هو التخمة. فالسكر بدايةً يتسبب -عكس المتوقع- في اضطراب وظائف المخ عند زيادة تركيزه عن الحد المعقول، فهو يتسبب في إنتاج شوارد حرة free radicals على سطح خلايا المخ، والتي تعطل التواصل اللازم بين الخلايا العصبية لكي تقوم بمهامها، هذا بجانب أثره السيئ على الكبد والقلب والعضلات، وكذلك زيادة احتمالية الإصابة بمرض السكر أو بالأمراض السرطانية.
وهنا يأتي التحدي الشخصي، هل ستستطيع السيطرة على منظومة المكافأة الدماغية والتوقف عن تناول السكريات؟، النصيحة الأولى والوحيدة هي أن تتوقف فورًا. ومن ثمّ فلا تتناول السكريات غير على فترات متباعدة وكميات قليلة غير كافية لتنشيط المنظومة وإفراز الدوبامين بهذا الشكل. ولا تنسَ أن كل طعامنا بالفعل يحتوى على السكريات والكربوهيدرات بأشكالها المختلفة، كما أن جسمك قادر على إنتاجها داخليًّا من الجليكوجين المخزن ومن الأحماض الدهنية المخزنة كذلك؛ وبالتالي فإن حياتك ومخك لن يتوقفا بسبب امتناعك عن تناول قطعة الكعك التالية، والتي ربما هي ما ستوقف جسدك بالفعل.