لأن الأفلام كالأحلام: هكذا بدأ الشغف عند «ستيفن سبيلبرج»
في سبتمبر/أيلول الماضي، وقف المخرج الأمريكي الشهير «ستيفن سبيلبرج» أمام الجمهور في قاعة أمير ويلز في مدينة تورنتو، يتلقى تحية حارة من الجمهور الذي ملأ القاعة عن آخرها، في لحظة خاصة جداً للمخرج الأكثر تحقيقاً للإيرادات في تاريخ هوليوود، فقد جاء الوقت أخيراً ليبحث عن جمهور خاص لفيلمه الأخير الخاص جداً، وهي المرة الأولى التي يُعرض فيها فيلمه في مسابقة رسمية لمهرجان سينمائي، بعد أن قدم 34 فيلماً في 75 عاماً.
العرض العام
أطلقت شركة يونيفرسال فيلم The Fabelmans في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، لينطلق من جمهور تورونتو إلى جمهور سبيلبرج العريض في كل أنحاء العالم، هذه المرة لن تكون هناك أسماك قرش متوحشة أو ديناصورات تعود للحياة أو طفل مُستنسخ يبحث عن الحنان، لكننا سنجد قصة المخرج الذي صنع كل هذه العوالم، الذي افتتح أيضاً فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الـ44.
بين عشرات الأفلام التي عرضها مهرجان تورنتو، وحضور بعض كبار فناني هوليوود، يبقى سبيلبرج بتاريخه وجمهوره، الفنان الأكثر إقبالاً بين جمهور المهرجان من نُقّاد وجمهور، لذلك لم يكن غريباً أن يفوز سبيلبرج بجائزة الجمهور، وهي الجائزة الوحيدة التي يمنحها المهرجان الكندي، في أول حضور له في المهرجان السينمائي الأهم والأضخم في أمريكا الشمالية، ولاقى ترحيباً كبيراً.
لم يُعرَف أبداً عن سبيلبرج اهتمامه بعرض أفلامه في المهرجانات السينمائية، هو مخرج ناجح يُخاطب الجمهور العريض مباشرةً، لكن فيلمه هذا كان على درجة عالية من الذاتية، لهذا كان من الضروري تجربة ما لم يفعله المخرج العظيم من قبل قط.
يقول سبيلبرج إنه يأتي للمرة الأولى إلى مهرجان تورنتو، حيث يُقدم فيلمه لجمهور عظيم في مهرجان عظيم، أراد أن يقدمه في عرضه الأول لجمهور يعشق الأفلام. طريقة أخرى لتوزيع الأفلام، لأنه فيلم شخصي جداً، لكنه كان حريصاً ألا يكون هذا الفيلم نهاية مسيرته، فهو لم يتخذ قراره بالاعتزال.
كيف بدأ الشغف؟
كان E.T. الفيلم الشخصي الأقرب إلى قلب سبيلبرج، وفيه كثير من هواجسه وذكرياته كطفل، عن الطفل مرهف الحس الباحث عن صداقة غير عادية، في أسرة يهجرها الأب، يجد الطفل «إليوت» هدفه في صديق غير عادي من عالم غير عادي، ويبذل كل ما في وسعه للحفاظ على صديقه هنا على كوكب الأرض، في تناول ساحر لتيمة صديقين من عالمين مختلفين كلياً.
بعد 40 عاماً من تحفته E.T.، يعود سبيلبرج ليحكي لنا كيف عشق السينما، كيف بدأ الشغف، لماذا قدّم لنا أفلامه ذات أسماك القرش المتوحشة والكائنات الفضائية الودودة والديناصورات المتمردة وحكايات الهاربين من محرقة الهولوكوست. لكل فيلم قصة ما ترتبط بطفولة ونشأة المخرج العظيم، موقف ما مر به الطفل، مشهد سينمائي ألهم الصبي الصغير، كلمة تنمر من زملاء المدرسة، قصة حب تكسر قلبه المراهق، وما أصعب أن تُحوِّل هذه المواقف والحكايات إلى أفلام سينمائية تخاطب جمهوراً عالمياً وتحقق مئات الملايين من الدولارات، لكن سبيلبرج فعلها مراراً وتكراراً.
حكايات الطفولة والمراهقة
يمكننا أن نفهم من فيلمه الأخير أسباب اهتمام سبيلبرج بتقديم كثير من أهم أفلامه. عندما يصنع الصبي فيلماً عن الحرب، مُستخدماً زملاء المدرسة ليصنع خنادق وانفجارات وطلقات رصاص، يقفز إلى ذاكرتنا سريعاً هذه المشاهد من فيلم Saving Private Ryan. وعندما يتنمر أصدقاؤه على الطفل اليهودي الوحيد، نفهم لماذا قرّر سبيلبرج تقديم Schindler’s List لاحقاً ليستعرض مأساة اليهود في الهولوكوست.
ماذا يعني أن تكون يهودياً في مدرسة لا يهود فيها؟ يفخر سبيلبرج بانتمائه لأسرة يهودية أمريكية، وله مواقف معروفة في الدفاع عن قضايا اليهود، وكان من أبرز منْ دعّموا إنشاء متحف الهولوكوست في العاصمة واشنطن. لكن سبيلبرج نفى أمام جمهور تورنتو أنه يقدم فيلماً عن معاداة السامية هذه المرة، مؤكداً أنه لم يتعرض للتنمر من المجتمع لأنه يهودي، «فقط كان هناك فتيان في المدرسة يضربانه».
الأفلام كالأحلام
فاز سبيلبرج بجائزتي أوسكار عن Schindler’s List وSaving Private Ryan، ورُشح لثلاثة جوائز أخرى، كما حقّقت أفلامه إيرادات قياسية هي E.T.، وJurassic Park، كما حققت أفلامه أكثر من 10 مليارات دولار ليكون المخرج الأكثر تحقيقاً للإيرادات في تاريخ السينما.
وخلال مسيرته الطويلة، أثبت سبيلبرج ولعه بقصص النضوج، الأفلام التي يلعب بطولتها طفل أو صبي يستكشف العالم ويتعلم أشياء جديدة.
في E.T.، دخل الصبي «إيليوت» في صداقة نادرة مع كائن من وراء النجوم. وفي Empire of the Sun، يحاول الطفل البريطاني الثري «جيمي» (الذي قام بدوره الممثل كريستيان بيل وفي عمر الـ13 عاماً) أن ينجو بحياته بعد أن قرر اليابانيون غزو الصين خلال الحرب العالمية الثانية.
في فيلم A.I. Artificial Intelligence، يحاول الطفل الروبوت «ديفيد» أن يفوز بحب وحنان أمه في منافسة شرسة وخاسرة مع طفلها البشري، وهو آخر فيلم كتبه سبيلبرج قبل 21 عاماً، حتى عاد للكتابة في فيلمه الأخير.
الكل يصنع أفلاماً في كاليفورنيا
عندما يحاول الفتى العاشق للسينما أن يُقدم نفسه لاستوديوهات الإنتاج في لوس أنجلوس، يخبره المنتج الكبير أن الكل يصنع أفلاماً في كاليفورنيا. يُدرك الفتى أنه واحد من مئات وربما آلاف الباحثين عن الشهرة في مدينة السينما، لكنه يدرك جيداً أنه يختلف عن الآخرين.
أرد أن يكون مخرجاً، في بلد يصنع فيها الكل أفلاماً. يسأله المخرج الكبير لماذا تريد أن تصبح مخرجاً، فيرتبك. هذا الشاب الخجول المرتبك سيصبح بعد أعوام قليلة واحداً من أهم مخرجي هوليوود وأكثرهم نجاحاً وتحقيقاً للإيرادات في القرن العشرين.
سريعاً ما سيُثبت نفسه لكل هؤلاء الذين تنمروا عليه أو سخروا من موهبته أو رفضوا العمل معه. نحن نعرف ذلك، لأننا نعرف سبيلبرج وأفلامه، لكن الفيلم ينتهي دون أن يُحقق المخرج الشاب حلمه، لكنه على الأقل بدأ خطواته الأولى، ولا داعي لمزيد من الاستطراد في فيلم تزيد مدته عن الثلاث ساعات.
تجربة عاطفية صعبة
بينما كان العالم يتابع أرقام ضحايا فيروس كورونا، قرر سبيلبرج أن يجلس مع صديقه الكاتب عبر تطبيق «زووم» ليكتبا معاً هذا الفيلم.
يحكي سبيلبرج أن صناعة هذا الفيلم كانت تجربة عاطفية صعبة. هذا المخرج الذي حقّق للسينما من أموال ما لم يحققه مخرج آخر، وقدّم عوالم مختلفة متباينة بميزانيات إنتاج هائلة، يتحدث عن هذا الفيلم الذي يبدو بسيطاً، كونه من أصعب ما أخرجه. الأمر هنا يتعلق بالمشاعر، ذكريات الطفولة، معاناة الصبي وما تتركه في وجدانه من آثار.
كان اختيار سبيلبرج للممثل «جابريل لابيل» الذي سيقدم دوره هو الاختيار الأصعب، لا بد أن يوسف شاهين قد مر بأوقات عسيرة وهو يختار محسن محيي الدين ليقدم صباه في «إسكندرية ليه»، وعندما افتقده في «إسكندرية كمان وكمان»، كان الأمر مختلفاً كثيراً مع عمرو عبد الجليل.
يقول سبيلبرج: