كيف تضرّ استدامة الطوارئ بالاقتصاد المصري؟
ربما يتعجلني القارئ المتحفز : لماذا قطعت باستدامة الطوارئ لا عرضيتها؟ الحكومة قالت إنها لثلاثة أشهر لا غير ! فلماذا تتعجل بتكّذيبها؟
في الواقع، لن يكون ردي من الماضي، فليس السبب عدم الثقة المتوارث والمشروع تماماً في الحكومات المصرية، وليس بشكل أعم خبراتنا التاريخية بطوارئ مبارك التي كانت في بدايتها أيضاً – وكما اسمها المفترض – مجرد طوارئ!
فنظرة بسيطة لواقع طوارئ الاقتصاد وما تخلقه من مجتمع طوارئ، كافية جداً لإدراك كيف تكون حالة الطوارئ السياسية والقانونية واستدامتها أكثر الأشياء منطقية، فلدينا ما يلي:
– لبرلة متعجلة: إجراءات لبرلة اقتصادية مُتعجلة تجهز على آخر التزامات الدولة البسيطة تجاه شعبها، في ظل وضع اقتصادي بائس وفقر مستشرٍ.
– نظام حكم وظيفي: أي تديره مجموعة وظيفية غير مرتبطة بطبيعتها بشكل مباشر بإدارة جهاز الإنتاج، وهى بصفتها هذه غير كفؤة وتمثل عبئاً عليه يدفعه للتدهور المستمر؛ حيث بطبيعة موقعها لا تديره بمنطق التربّح بالإنتاج (حتى ولو بمنطق الشراكة مع طبقة قائدة للإنتاج) بل بمنطق التريّع بالجباية (أي باقتطاع مستمر من الفائض الاقتصادي دونما دفع للاقتصاد لإنتاج المزيد منه؛ مما يثبّط عملية التجديد الإنتاجي والاجتماعي).
– استقطاب اجتماعي متعاظم: وهو اتجاه منطقي في تلك الجرعات المتوالية من اللبرلة بدءاً من أواسط السبعينات، وهو في تزايد بلا شك مع صدمة التعويم والجرعة الأخيرة من اللبرلة التي لم تنته بعد!.
أيهما أكثر ضرراً بالاقتصاد: الإضرابات والمظاهرات أم الفساد وسوء الإدارة؟
بالنظر للطوارئ كحالة مؤسسية تساعد على غلق المجال العام؛ فإنها تحقق أثرين جوهريين من خلاله، أولاً تكبح الحركة السياسية والاجتماعية التي قد تهدد استقرار النظام السياسي من ناحية، وثانياً تزيد احتمالات / ونطاق الفساد وسوء الإدارة بإضعاف آليات الشفافية والمحاسبة؛ وهكذا فهي تحقق مكسباً «مُؤكداً» لنظام الحكم و«مُحتملاً» للمجتمع (الاستقرار) بتكلفة اجتماعية «مُؤكدة» يتحملها المجتمع (ضعف كفاءة اقتصادية واجتماعية).
ومن الطبيعي أن يركّز الخطاب الإعلامي للسلطة على أهمية الاستقرار وكون غيابه التهديد الأكبر للاستثمار إله العجوة الليبرالي ومحظيته عجلة الإنتاج، فيما يرى الفساد شيئاً عادياً «موجود في العالم كله» بتعبير الرئيس الأسبق حسني مبارك، حتى لو كانت التقارير الدولية ترى عكس ذلك، كما كشف تقرير تقييم مناخ الاستثمار لعام 2006م، الذي تضمّنت نتائجه مراجعة سياسات التنمية المصرية لعام 2008م، الصادرة عن البنك الدولي [1] .
حيث كشف التقرير المذكور بناءً على استبيان لآراء الشركات عن أهم عشرة عوائق تواجهها، أن عدم التأكد من السياسات الاقتصادية الكلية والسياسات التنظيمية والفساد والمنافسة غير القانونية، هى أهم أربعة عوائق ضمن العشرة، فيما تأخرت العوائق المتعلقة بالعمالة من تدريب وتشريع للمرتبتين السابعة والثامنة ضمنها، وهو ما يعني أنه حتى في ذروة الحركة الاجتماعية ما قبل انتفاضة يناير، كان الفساد وسوء الإدارة الناتجان عن استدامة إغلاق المناخ العام وتكلّس السلطة أخطر العوائق حتى في نظر الشركات التي تمثل طبقة رأس المال المهيمنة نفسها، حتى أنها سبقت تناقضها مع طبقة العمال!
ورغم أن هذه العوائق لا تعكس وجھات نظر كافة القوى الاجتماعیة، إلا أن أغلبها حقیقیة وجوھریة لا تختلف علیھا أغلب القوى الاجتماعیة، من حیث أثرھا المؤسسي السلبي على الأداء الاقتصادي والاجتماعي بعامة، خصوصاً عوامل كالمنافسة غیر القانونیة التي تمثل/ وتعمّق العجز والتشوه في السوق ومؤسساته، والفساد بكافة أبعاده المعروفة، وتذبذب السیاسات التنظیمیة وعدم استقرارھا .
إن مشكلة الخطاب الرسمي فيما يتعلق برأس المال والاستثمار عموماً أنه يتعامل معهما ككتلة واحدة مُصمتة تستجيب بشكل واحد وثابت، فيما هما أبعد ما يكونان عن ذلك، فرأس المال وتجسّده في الاستثمار، كمُحرك للاقتصاد، ليس كتلةً واحدة تتغذى على الاستقرار والإعفاءات الضريبية! بل هو متمايز كمياً ونوعياً بشكل يطبع سلوكه وحركته واستجاباته للسياسات المختلفة بسمات مختلفة ويدفعها جميعاً في اتجاهات متباينة، وهو ما يظهر بوضوح بدراسة الآثار الهيكلية لاستدامة حالة الطوارئ.
الآثار الهيكلية لاستدامة حالة الطوارئ
وهى تتعلق بالآثار متوسطة وطويلة الأجل لحالة الطوارئ بأبعادها المختلفة المذكورة أعلاه، والمترتبة على غياب الشفافية وحكم القانون وسيادة الفساد وسوء الإدارة، والتي تتمحور في معظمها حول التأثير في الحوافز النوعية لرأس المال، وفي الآفاق الزمني لاستثماراته أو توقعاته لفترات استردادها؛ لتؤدي في النهاية لتشجيعه للاتجاه لأنشطة ما على حساب أخرى، ولتحفيز أنواع من رأس المال وتثبيط غيرها، ويمكن إيجاز أهم هذه الآثار فيما يلي:
أولاً: غلبة الاستثمار قصير الأجل على طويله
فلا يميل رأس المال للاستثمار طويل الأجل في بيئة سياسية وقانونية مُتقلبة غير واضحة المعالم، حيث تغيب أي آليات ديموقراطية وإدارية راسخة في ظل الأنظمة مُطلقة اليدين في ظل الطوارئ؛ مما يمنع أي إمكانية لبناء توقعات يمكن الاعتماد عليها في الأجل الطويل، وهكذا سيتجه للاستثمارات قصيرة الأجل ليقلل من حالة عدم التأكد المرتبطة بضعف إمكانية التوقعات؛ مما يعني اتجاهه للاستثمارات والمضاربات سريعة الربحية، لكن منخفضة أو معدومة الإنتاجية بالمعنى الاجتماعي، والتي لا تسهم بقوة في بناء القدرات الإنتاجية وعملية التجديد الاجتماعي، وهي غالباً قطاعات الخدمات.
ثانياً: غلبة الاستثمار خفيف الأصول الثابتة على ثقيلها
فلنفس الأسباب السابقة، لن يخاطر رأس المال الحكيم/ الجبان بأصول ثابتة ضخمة ومُكلفة في وضع عدم التأكد وغياب الضمانات ذاك؛ وهو ما سيؤدي لنفس النتيجة السابقة؛ فيتجه للاستثمارات الخفيفة قصيرة الأجل، حيث تكون الأصول قليلة ومحدودة القيمة، يمكن تفكيكها أو تسييلها نقدياً بسهولة، أو في أسوأ الأحوال التضحية بها دونما خسارة كبيرة؛ فتكون النتيجة الاتجاه لقطاعات الخدمات لا القطاعات السلعية مرةً أخرى!
ثالثاً: تثبيط الاستثمار المتوسط كثيف العمالة
استثناء محدود واحد على ما سبق، سيكون هو رأس المال الكبير للشركات الاحتكارية دولية النشاط، حيث تمتلك هذه الشركات ميزات احتكارية بحكم أحجامها، كذا بحكم قدرتها على التعامل المباشر مع القيادات السياسية للدول، وحتى رشوتها وشرائها إذا لزم الأمر؛ لحماية مصالحها وتنفيذ خططها الاستثمارية، فضلاً عن قدرتها على تحريك حكوماتها خلفها حال التهديدات الكبيرة.
هذه الشركات دولية النشاط تأتي بشروطها، وهى كثيفة الاستخدام لرأس المال، أي تستخدم فنوناً إنتاجية تركّز على التكنولوجيا لا العمالة، وهكذا تشغّل القليل جداً من العمالة بالقياس لأحجام رؤوس أموالها، على خلاف رأس المال المتوسط الذي غالباً ما يشغّل عمالة أكثر نسبياً.
لكنه لسوء الحظ يبتعد عن هكذا بيئة مؤسسية تخلقها حالة الطوارئ الدائمة؛ فليس لهذا النوع من رأس المال المزايا المذكورة، ولا يجد الأمان سوى في بيئة قانونية ومؤسسية مستقرة يستطيع ضمنها ضمان حقوقه وأوضاعه؛ وهكذا نخسر هذا النوع الأوسع نطاقاً من رأس المال، والأكثر فائدةً سواء في التنويع الإنتاجي أو التشغيل العمالي.
الحلقة الخبيثة للطوارئ
وتؤدي هذه الآثار السلبية لتعمّق أزمة الاقتصاد المصري كاقتصاد غير إنتاجي، تبتعد عنه الاستثمارات الجادة طويلة الأجل، والتي تستطيع وحدها تطوير قواه الإنتاجية وتجديده اجتماعياً.
وهكذا يظلّ عاجزاً عن إشباع حاجاته المحلية وتمويل تجديده الاجتماعي؛ فتتدهور مستويات المعيشة وتتزايد الديون؛ فتتعاظم التناقضات الاجتماعية بين القوى الاجتماعية من عمل ورأسمال عند حلقات الأجور والأسعار وحقوق الملكية من ناحية (تناقض المجتمع المدني)، كما تتعاظم بين كافة القوى الاجتماعية وجهاز الدولة عند حلقة المالية العامة بشقيها من ناحية أخرى (تناقض السلطة المحلية)، فضلاً عن تعاظمها بين الدولة بمُجملها والعالم الخارجي عند حلقتي التجارة الدولية والديون الخارجية من ناحية ثالثة (تناقض السلطة الدولية) .
وتؤدي علاقات القوى السائدة لحلّ التناقض مع السلطة الدولية أو التناقض الخارجي على حساب التناقضات الداخلية، وضمن إطار الأخيرة حلّ تناقض السلطة المحلية على حساب تناقض المجتمع المدني، وداخل إطار الأخير حلّ التناقضات الداخلية للطبقات المهيمنة على حساب الطبقات العاملة بكافة فئاتها.
وهو ما يعني الحاجة لمزيد من الهيمنة بأساليب متزايدة العنف والفجاجة؛ فيؤدي اقتصاد الطوارئ بأزمته المتفاقمة لتعميق وضعية مجتمع الطوارئ؛ ومن ثم تعميق الحاجة للطوارئ كحالة سياسية وقانونية، التي تعيد بدورها تعميق الأزمة بآثارها الهيكلية التي ذكرنا بعضاً منها بعاليه، فيدخل المجتمع في حلقة خبيثة من الطوارئ التي تتطلب مزيداً من الطوارئ، وصولاً لقدره المحتوم مُتمثلاً في: دولة رخوة تتقلّص وظائفها إلى مجرد القمع السياسي بسبب تعاظم حاجاتها الأمنية مع تدهور قدراتها المالية؛ فتكون النتيجة ثورة: إما تكتسحها لتقيم نظاماً بديلاً أو تشعل حرباً أهلية تحوّل رخاوتها لفشل كامل!
- World Bank. 2008. Egypt – Development policy review. Washington, DC: World Bank , p 33