كيف تحول «شيرلوك هولمز» أخيرًا لشخص عاطفي
إذا شاهدت أيًا من أفلام «شيرلوك هولمز» أو قرأت أيًا من القصص التى كتبها الكاتب البريطاني «أرثر كونان دويل» في أوائل القرن الماضي عن شيرلوك هولمز التحري الشهير الذي يقوم بحل الجرائم بمساعدة صديقة الطبيب «جون واتسون»، فإنك بالتأكيد تعلم أن شيرلوك شخص غير عاطفي، شيرلوك لا يهتم بآراء الآخرين، ولا يبدي اكتراثا بالقضايا من أجل حماية البشر ولكنه فقط يهتم بالقضايا التي تثير فيه الفضول وتتحدى قدراته على حل الألغاز. شيرلوك لا يحب ولا يكره ولا يمكن التنبؤ بتصرفاته. وبهذا كله مثلت حكايات شيرلوك إلهامًا للكثيرين من بعده ممن ربطوا الذكاء الخارق بغياب العاطفة، والقدرة على التفكير السليم بضرورة التخلي عن أي مشاعر. ببساطة إذا أردت أن تكون مثل شيرلوك عليك ألا تكون إنسانًا.
لن نتحدث هنا عن حكايات «أرثل دويل» ولن نعيد فتح النقاش حول المقارنة بين القصص الأصلية وهذا المسلسل الذي قدم المعالجة التليفزيونية التي قام ببطولتها «بيندكت كامبربادج» في دور شيرلوك و«مارتن فريمان» في دور دكتور واتسون، والذي تدور أحداثه في لندن في القرن الواحد والعشرين، ولكننا سنتحدث عن الحدث الأكبر الذي شاهدناه فى الموسم الرابع من المسلسل الذي انتهت إذاعة حلقاته الثلاثة في التاسع عشر من يناير على قناة BBC. هذا الحدث الأكبر لم يكن حلاً للغز أو جريمة بطريقة عبقرية وغير متوقعة، كما اعتدنا من شيرلوك، كما أنه لا يمكن وصفه بأنه حدث لحظي مفاجئ، ولكنه حدث أدركناه تدريجيًا وتأكدنا منه أخيرًا. لقد تحول «شيرلوك هولمز» أخيرًا لشخص عاطفي!
(1)
في الحلقة الأولى من الموسم الرابع بعنوان «the six thatchers» كان من المفترض أن نعرف إجابة سؤال كيف عاد «جيمس مورياتي» البطل الشرير وخصم شيرلوك الأكثر عنادًا، مرة أخرى إلى تهديد لندن بعد أن مات منتحرًا في نهاية الجزء الثاني. على عكس ما توقعنا وجدنا أنفسنا بدلاً من ذلك نطارد «ماري واتسون» زوجة دكتور واتسون التي سرقت الأضواء بعد أن عرفنا في نهاية الجزء السابق أنها تملك ماضيًا خطيرًا وأنها عملت لسنين كقاتلة محترفة. «ماري» تملكت أحداث الحلقة الأولى بالكامل بعد هروبها إثر مطاردة أحد زملائها القدامى لها ومحاولته قتلها ظنًا منه أنها خانتهم في إحدي عملياتهم القديمة. انشغل الجميع بالحبكة التي صنعها كاتب المسلسل «مارك جاتس» -والذي يقوم بدور مايكرفت هولمز أيضًا- والتي انتهت في نهاية الحلقة بمفاجأة ضخمة وهي مقتل ماري واتسن بعد تلقيها رصاصة كان من المفترض أن تستقر في جسد شيرلوك.
الكثيرون من محبي مسلسل شيرلوك لم يفضلوا هذه الحلقة واعتبروها أقل حلقات الموسم تشويقًا وأكثرها بعدًا عن شخصية «شيرلوك » التي اعتادوها، كونه تراجع مفسحًا المجال لظهور كبير وأخير لشخصية «ماري». ولكن ما لم يلاحظه الجميع أن هذه الحلقة وضعت حجر الأساس في الحدث الأكبر الذي شهده هذا الموسم والذي ربما سيكون الموسم الأخير من هذا المسلسل. في هذه الحلقة رأينا شيرلوك العبقري للمرة الأولى وهو يتعرض لمفاجأة لم يتوقعها، كما رأيناه يبدي تأثرًا بمشاعر دكتور واتسون أخيرًا بعد وفاة ماري، هذا على المستوى النفسي. أما على مستوي الحبكة فقد مرت علينا لحظة لم نبدِ بها اهتمامًا يذكر وهي ظهور شخصية نسائية جديدة تتبادل الإعجاب والرسائل مع دكتور واتسون قبيل مقتل «ماري». انتهت الحلقة ونحن نتذكر وجه شيرلوك وهو على وشك البكاء من هول المفاجأة!.
(2)
في الحلقة الثانية تولى صانع المسلسل الآخر، الكاتب البريطاني «ستيفن موف»، كتابة الحلقة التي اتفق الجميع أنها من أفضل حلقات المسلسل في كافة مواسمه، حتى أن أغلب مستخدمي موقع IMDB وضعوها في المرتبة الأولى أو الثانية في ترتيب حلقات المسلسل منذ إطلاقه منذ سبع سنوات.
في هذه الحلقة رأينا «شيرلوك» وهو ضعيف ومعرض للأذى كما لم نره من قبل. في البدء اعتقدنا أنها خدعة جديدة منه ولكننا شككنا في ذلك مع وصول أحداث الحلقة إلى المنتصف وبعدما تأكد الجميع بما فيهم دكتور واتسون من أن شيرلوك يعاني صحيًا وربما تكون حياته مهددة بشكل غير مسبوق.
في هذه الحلقة قدم «موف» لنا أيضًا بطلاً شريرًا جديدًا مثّل تحديًا فريدًا من نوعه لشيرلوك، وهو رجل أعمال صاحب نفوذ وأموال طائلة ولكنه مفتون بالقتل، كما أنه مفتون بسرد حكايات جرائمه إلى المقربين منه ثم محو ذكرياتهم عن تلك الحكايات بطريقة طبية مبتكرة. تستمر الحبكة في التشكل وتنفرج الأحداث أخيرًا ونرى «شيرلوك» وهو على وشك التعرض للقتل بواسطة هذا المجرم الغريب ولكنه ينجو في اللحظات الأخيرة بعد أن يتدخل دكتور جون واتسون لإنقاذه. مرة أخرى في هذا الموسم نرى شيرلوك وهو يتم إنقاذه بواسطة آخرين في اللحظات الأخيرة قبل أن نعرف قبل نهاية الحلقة بلحظات أن شيرلوك فعل كل هذا من أجل أن يتورط ويتعرض لخطر الموت ومن أجل أن يتدخل دكتور واتسون لإنقاذه؛ لأنه وطبقًا لوصية ماري واتسون لن يمكنه إنقاذ جون واتسون من الاكتئاب وفقدان الرغبة في الحياة بعد وفاة ماري إلا بجعله مسئولاً عن إنقاذ شيرلوك نفسه من الموت.
مرة أخرى فاجأنا شيرلوك وهو يدفع نفسه إلى الموت من أجل شخص آخر، وتدريجيًا بدأنا نشعر أن شيرلوك يمكنه أن يكون إنسانًا عاديًا يخاطر بكل شيء من أجل صديق، وهو الرجل الذي لطالما كرر جملته الشهيرة: «أنا لا أملك أصدقاء».
انتهت أحداث الحلقة بمفاجأة غريبة والتواءة حبكة مذهلة؛ وهي أن الفتاة التي رأيناها بشكل عابر في أول حلقة هي نفسها الفتاة التي أتت لمقابلة شيرلوك لتعرض عليه قضية رجل الأعمال المفتون بالقتل، متقمصةً شخصية ابنة هذا الرجل بعد أن ظننا قبل نهاية الحلقة بأن ذلك كان مجرد هلاوس في عقل شيرلوك المريض، وهي السيدة ذاتها التي تتقمص دور المعالجة النفسية التي يزروها دكتور واتسون. وأخيرًا، هي نفسها شقيقة شيرلوك الحقيقية التي لم نعرف جميعًا بوجودها من قبل!.
(3)
في الحلقة الأخيرة اجتمع صانعا المسلسل «مارك جاتس» و«ستيفن موف» لينهيا ما بدأ في الحلقتين السابقتين. بنهاية مفاجئة ومذهلة في «الحلقة السابقة» كان الجميع يتنبأ بالكثير من السيناريوهات الخاصة بالحبكة. لم يخب ظننا حقًا وتنقلنا برفقة شيرلوك وأخيه مايكروفت ودكتور واتسون في مطاردة شيقة لشقيقة شيرلوك «إيروس» التي أخبره مايكروفت أنها محتجزة في سجن شديد الحراسة؛ لأنها منذ أن كانت صغيرة أظهرت عبقرية مختلطة برغبة في إيذاء الآخرين، بدأت بقتل كلب حراسة كان بمثابة صديق شيرلوك الوفي وهو طفل، ثم انتهت بحرق منزلهم القديم بعد أن هددت بقتل شيرلوك من أجل التسلية.
تنقلب الأحداث مرة أخرى حينما نشاهد شيرلوك ودكتور واتسون ومايكروفت وهم يتحولون لرهائن لدى «إيروس» على عكس ما توقعنا، ولنراهم وهم يقعون فريسة لمجموعة من الألعاب النفسية المميتة التي تضع «إيروس» قواعدها. نراهم وهم يعبرون هذه الألعاب خطوة بخطوة ونرى الأمر وهو يخرج عن سيطرتهم حينما تقرر إيروس قتل البشر دون أي مشاعر، مرة تلو الأخرى ونرى شيرلوك وهو يتحول لجندي يعمل من أجل المجموعة في هذه المعركة على عكس ما اعتدنا. تنتهى الحلقة بحدث كاشف خطير يفسر لنا كل ما عرفناه لسنوات عن شخصية شيرلوك.
نرى في التواءة حبكة محكمة أن «إيروس» الأخت الصغرى لشيرلوك لم تقتل كلبه أثناء طفولتهم، ولكنها قتلت أقرب أصدقائه بعد أن اختطفته وأخبرت شيرلوك أنها خبأته وأنه يجب أن يستغل عبقريته لحل هذا اللغز وإيجاد صديقه. فشل شيرلوك ومات صديقه الصغير غرقًا. تعرض شيرلوك لصدمة نفسية صعبة وخرج منها في حالة نكران لما حدث وقرر محو كافة ذكرياته عن هذا الحادث الأليم، فنسي صديقه وشقيقته وكل ما حدث.
تأثر شيرلوك بشقيقته وأصبح مفتونًا بالألغاز وكيفية حلها عن طريق التفكير والابتعاد تمامًا عن العاطفة، كما أنه ظل مرتبطًا دائمًا بتذكر الماء واحتمالية الغرق في اللحظات السيئة، فظلت هذه الخاطرة تطارده في يقظته وأحلامه، ولكنه بشكل أهم خرج إنسانًا آخر لا يعترف بالمشاعر ولا يريد أن يتورط في صداقة أو علاقة مقربة بأي شخص.
انكشفت الكثير من الألغاز. رأينا شيرلوك معرضًا للهزيمة ورأيناه وهو يعترف بمشاعر الحب، كما رأيناه أخيرًا يقامر بكل شيء لإنقاذ أعز أصدقائه من نفس المصير الذي انتهت به حياة صديق الطفولة. رأينا شيرلوك وهو يحتضن شقيقته ويخبرها أنه يفهمها، كما رأيناه يحتضن صديقه الذي يمكنه أن يضحي بكل شيء من أجله. انتهت أحداث القصة وعرفنا كيف أصبح شيرلوك أخيرًا شخصًا عاطفيًا، وإن كان الأدق أنه لم «يصبح» ولكنه «عاد».