كيف نجح «ساري» نابولي على طريقة «والتر هايزنبرج»
في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، نشرت الصحيفة الإيطالية ذائعة الصيت «جازيتا ديللو سبورت»تقريرًا إحصائيًا هامًا يخص أداء نادي نابولي خلال الفترات السابقة، إذ يكشف محرر الصحيفة «ميمو مالفيتانو» أن النادي الجنوبي تمكن من الفوز تحت قيادة المدرب «ماوريتسيو ساري» بأكبر عدد من النقاط خلال آخر 38 مواجهة بالكالتشيو بين الموسم الحالي والفائت، فقد حصل رفاق «هامشيك» على 97 نقطة من أصل 114 ممكنة، أكثر من أي نادٍ إيطالي آخر!
تصريحات «بيب جوارديولا»، عقب مواجهة نابولي ساري في دوري الأبطال هذا الموسم.
تقرير «ميمو» سبقه تصريحان صادمان عن نابولي «ساري»؛ التصريح الأول هو التصريح السابق لـ «بيب جوارديولا»، المدرب الكتالوني الذي يقود قمة الدوري الإنجليزي حاليًا، أما التصريح الآخر الذي لم يقل ثناء على تجربة البارتونيبي الجديدة جاء على لسان الأسطورة الإيطالية «أريجو ساكي» الذي وصف أداء نابولي بالجاذبية والفاعلية وتوقع أن يشكل «ساري» تهديدًا على عرش اليوفنتوس.
كل تلك الإشادات رفيعة المستوى التي نالها نابولي تحت قيادة «ماوريتسيو» بالإضافة إلى الأرقام التي تكشف قوة منظومة الفريق الهجومية وتطور تلك الدفاعية تمنحنا صورة عن وضعية الفريق المرموقة محليًا عبر الموسمين الأخيرين، لكن تقبع خلف تلك الصورة قصة فريدة من نوعها تحتفظ بأسرار كثيرة عن مسيرة «ساري» وعن أسلوب لعبه وصعوده من دوريات الهواة لقمة الكالتشيو.
من المثير دومًا البحث عن مساحات التماس والتشابه بين مسيرة الشخصيات الافتراضية كأبطال الروايات والدراما وبين تلك الخاصة بالشخصيات الحقيقية التي تصنع الواقع وتخطو على الأرض لا في الخيال، لم أجد من يشبه «ساري» في مسيرته وأسلوب عمله وحتى في ملامح وجهه بين الشخصيات الدرامية بقدر ما يشبه «والتر وايت هايزنبرج» بطل المسلسل الرائع «بريكنج باد»؛ فكيف يمكن قراءة مسيرة مدرب كرة قدم من قصة المدرس التعيس الذي يتجه لإنتاج وبيع مخدر الميث؟!.
فارس بلا جواد
لم يعد مفاجئًا بعد مسيرة «ساكي» الأسطورية مع ميلان ألا يحظى مدرب كبير وناجح بمسيرة استثنائية كلاعب كرة قدم، فبعد أن فاز «أريجو» بكل شيء ممكن مع الروسونيري صانعًا جيلاً تاريخيًا للأحمر والأسود دون أن يقدم كلاعب ما يضاهي ذلك الإنجاز،أطلق تصريحه الأشهر الذي يقول فيه: «لا أحتاج أن أكون جوادًا كي أصبح فارسًا». حالة «ساكي» التي انطبقت على أمثلة متعددة من بعده كـ«مورينهو، فينجر، كلوب» عادت لتجد بطلًا جديدًا من أبناء جلدة الإيطالي، هذه المرة مع موظف البنك «ماوريتسيو ساري».
لم يمارس «ساري» كرة القدم بشكل احترافي أبدًا بسبب قلة إمكانياته كلاعب، لذا أقدم الشاب الذي نشأ في أسرة تقدس الحياة المهنية على دراسة الاقتصاد والمحاسبة، وسرعان ما حظي بفرص عمل جيدة كمصرفي بالبنوك، لكن الوظيفة الآمنة لم تثنه عن مطاردة شغفه الحقيقي بكرة القدم. ابتكر «ماوريتسيو» حيلة تقوم على استغلال وقت فراغه عقب انتهاء أوقات العمل الرسمية، عندها يتوجه رفقة زيه الرياضي وأفكاره التكتيكية لملاعب كرة القدم حيث أقنع عددًا من أندية الهواة بتولي قيادتها، ظل هذا الوضع على ما هو عليه حتى أفسح المجال لمغامرة كبرى ستبدأ عندما يستمع لصوت قلبه فقط.
قرر «ساري» خلال مطلع الألفية الجديدة أن يضع أغلب تركيزه بالتدريب متخليًا عن وظيفته لبعض الوقت، كان يقود فريق سانسوفينو حينها الذي يقبع بالدرجة السادسة وقد حدد لنفسه أهدافًا وخطوات معينة كمعيار لقياس مدى نجاحه التدريبي أو العودة من جديد لغرف البنوك. لم تكن حسابات الإيطالي كاذبة، فقد حقق نجاحًا لا بأس به مع سانسوفينو دفع باسمه بقوة على خريطة مدربي الدرجات الدنيا، حتى حقق مفاجأة كبرى مع نادي أريتسو في السيري بي عام 2006 عندما نجح بخطف نقطة تعادل ثمينة أمام يوفنتوس الذي تصادف وجوده بالدرجة الثانية على خلفية أزمة الكالتشوبولي، بل إنه حقق فوزًا مدويًا على العملاق ميلان بذهاب ربع نهائي الكأس الإيطالية بنتيجة 1-صفر، وكان يفصله فقط 90 دقيقة بالسان سيرو على كتابة تاريخ استثنائي، لكن رفاق «سيدورف» أوقفوا زحفه نحو نصف النهائي على كل حال.
هذه المقدمات والبداية على عشب المستطيل الأخضر لـ«ساري» تشبه بدايات السيد «والتر وايت»، فالكيميائي الشغوف بالمعامل والاكتشافات لم يكن له نصيب في نجاح الشركة التي عمل على تأسيسها وسرعان ما أزاحه شركاؤه نظير بضعة ألوف من الدولارات، ليجد «والتر» نفسه يمارس مهنة التدريس برتابة وملل ودون تقدير مالي أو معنوي كافٍ؛ مما يدفعه للعمل بوظيفة إضافية بإحدى محطات العناية بالسيارات، تضاف لحياته جرعة إضافية من التعاسة عندما يكتشف إصابته بالسرطان وتنشأ بعض الخلافات الأسرية.
«والتر» كان بحاجة لمغامرة تقلب حياته رأسًا على عقب، وتمنح اسمه التقدير الكافي الذي يلائم حجم العبقرية والشر الكامن في نفسه، لذا لجأ مع أقرب فرصة للدخول لعالم جديد مهما كان خطيرًا.
إمبولي، نابولي
إحدى القواعد التي يفرضها سوق العمل هي أن جودة المنتج وحدها لا تكفي أحيانًا، بل ينبغي توفير البيئة التي يمكنك خلالها ممارسة العمل في أفضل شكل ممكن، بالإضافة لتسويق منتجك الجيد في الصورة الأمثل، أن تجتاز العقبات في طريقك مهما بدت صعبة. هذا ما تعلمه «والتر» قبل أن يتخلص من قبضة السيد «جاس فرينج» بعدما أدرك أنه لم يعد يمتلك أي خيار سوى المواجهة المباشرة معه، لذلك ركّز «هايزنبرج» جهوده الشريرة في الجزء الرابع مستغلًا تشابك العلاقات في سوق الميث ليجد الثغرة في كرسي السيد «سالامانكا»!
في حالة «ساري» لا يبدو الأمر مختلفًا، كان على المدرب الموهوب الذي أثبت قدراته تحقيق إنجاز كبير يحرره من عالم الدرجات الدنيا، «ماوريتسيو» وجد التحدي المناسب عندما أوكلت له مهمة الصعود بإمبولي للسيري أيه، كان ذلك التحدي بمثابة اختبار لمدى تماسك أفكاره كمدرب لقيادة فريقه لا لتقديم أداء ممتع فقط، ولكن للصعود لقمة هرم المنافسة الإيطالية.
«ساري» مدرب شغوف جدًا بالتفاصيل، يقضي أغلب الوقت في تدوين الملاحظات ودراسة نقاط قوة وضعف فريقه، لذلك عندما فشل بتحقيق مهمته في الموسم الأول أضاف أدوات جديدة تمنحه إشعارات أكبر فاستعان بطائرة «درون» صغيرة تطوف أرجاء ساحة التدريبات، وعمل على تحويل إمبولي لوحدة جماعية تهاجم وتدافع بنظام داخل أسلوب لعب 4/3/1/2 ليتحقق له ما أراد في الموسم الثاني ويحجز مقعدًا بجوار الكبار!
في السيري أيه استمر إمبولي في تقديم أدائه الهجومي الجذاب القائم على البناء المتدرج للهجمة والتنوع في مباغتة مرمى الخصوم سواء من العمق أو بالعرضيات، وكان أهم ما ميزهم هو استغلالهم للكرات الثابتة والركنيات، وقد تمكن رفاق «ماكروني» من تقديم عروض طيبة للغاية أمام الكبار كروما، ميلان، لاتسيو، إنتر، ونابولي وآمن لهم «ساري» البقاء بعد موسم شهد فيه «ساكي» بنفسه لـ«ماوريتسيو» بالكفاءة والندية.
الأسطورة الأرجنتينية دييجو مارادونا (يمين) و ماوريسيو ساري مدرب نادي نابولي الإيطالي.
بدأ موسم 2015/2016 بانتقال «رافا بينتيز» الذي كان يقود نابولي لإسبانيا لتدريب الميرينجي، عندها استقر مالك النادي الجنوبي «دي لاورينتيس» على التعاقد مع «ساري» في مغامرة كبرى عارضها رمز نابولي «مارادونا» خصوصًا بعد حصول «ماوريتسيو» على نقطتين فقط من الجولات الثلاث الأولى. لكن «هايزنبرج الكالتشيو» لم ينتظر أكثر من أسبوع واحد ليبدد مخاوف رواد ملعب سان باولو عندما قهر لاتسيو في بداية لسلسلة انتصارات شملت يوفنتوس، ميلان، فيورنتينا؛ سلسلة وضعت نابولي على القمة وأعلنت بداية فصل جديد من تاريخ النادي عنوانه الإثارة والحضور بقوة على ساحة المنافسات.
أزرق سماوي
أسلوب عمل «هايزنبرج» يمتاز بشيء فريد، فـ«والتر» لم يحتج أبدًا لمعامل ذات صفات استثنائية أو أدوات خاصة أو حتى مساعدين أصحاب خبرة، ورغم ذلك كان يبرع في صناعة منتج هو الأكثر فاعلية وجودة بين نظرائه. يمكن لـ«هايزنبرج» أن يطبخ في الشارع، في المنزل، في السيارة وبأقل إمكانيات متاحة يحقق معادلة صعبة.
«ساري» هو الآخر حظي بنفس معطيات تلك المعادلة، فعند توليه قيادة نابولي لم يمتلك لاعبين أصحاب تاريخ أو خبرة كبيرة، لم تكن هناك ميزانية ضخمة يقدمها لها «دي لاوريناتس» لسد احتياجاته بالميركاتو، ورغم ذلك نجح في موسمه الأول بالظفر بوصافة الدوري وها هو ينفرد بصدارتها خلال هذا الموسم بعد 13 جولة بلا أي هزيمة!
بمقارنة بسيطة لأرقام بعض لاعبي نابولي قبل وبعد «ساري» يمكنك الوقوف على حجم الأثر الذي خلفه الإيطالي؛«هيجواين» مثلًا سجل بموسمه الوحيد رفقة «ماوريتسيو» 36 هدفًا وهو ضعف ما سجله بموسم «بينتيز» الأخير، أما «ميرتينز» كان قد سجل 10 أهداف فقط في 53 مباراة بموسم 2014/2015 بينما الآن يعد أحد أهم مهاجمي العالم، المدافع السنغالي «كوليبالي» كان يُتهم بالبطء وسوء التمركز وحاليًا يملك نابولي ثاني أقوى خط دفاع بالكالتشيو، لاعب خط الوسط الرائع «جورجينيو» كان على وشك الرحيل قبل «ساري» والآن لا غبار على مستواه، وأخيرًا وليس آخرًا فإن القائد «هامشيك» كان قد صنع 95 فرصة عبر موسمين مع «بينتيز» لكنه صنع 93 فقط في موسم واحد مع «ماوريتسيو».
يعتمد المدرب الإيطالي على تسليم واستلام الكرة بدقة كبيرة بين خطوط فريقه، فيقوم الثنائي «جورجينيو، ألان» بالاستلام من خط الظهر لتبدأ مهمة الخروج السليم بالكرة. تنطلق الأطراف على امتداد الخط وبالأخص «فوزي غلام» الذي تشكل جبهته قوة هجومية ضاربة بتواجد «هامشيك» الذي يشغل المساحة بين الوسط ومنطقة جزاء الخصم كما «إنسيني» الذي يتحول لطرف عكسي يجيد التوغل القطري خلف خطوط الخصم وإرسال التسديدات الصاروخية وتبادل الكرات بينه وبين «ميرتينز»، البلجيكي مهاجم مزعج سريع يتحرك بعرض الملعب للاستلام وهو أيضًا لاعب متنوع يجيد تشكيل الخطورة من العمق أو العرضيات.
في الجانب الأيمن يلعب الإسباني «كاييخون» كطرف تقليدي على امتداد الخط بأدوار في صناعة اللعب وإرسال العرضيات، يسهل من مهامه الهجومية وجود الظهير «هيساي» الذي يلتزم بالتمركز لتغطية المساحة خلفه ومعاونة الثنائي «كوليبالي، ألبيول» في مواجهة المرتدات.
نقاط ضعف نابولي تتمثل بأمرين أساسيين؛ الأول هو عدم وجود دكّة على مستوى قوي من الجاهزية يمكن لها تعويض الغيابات التي تضرب بالفريق ومقارعة اليوفي أو الخصوم الأوروبية، والثانية هي شخصية الفريق، فكثير من لاعبيه من صغار السن الذين لم يسبق لهم الفوز ببطولات أوروبية أو دولية كبيرة.