العنابي: كيف خططت قطر لبناء منتخب يبهر الجميع؟
كأس العالم قطر 2022، من هنا بدأ كل شيء وتحديدًا منذ عام 2010 حينما تم الإعلان عن فوز ملف قطر لاستضافة كأس العالم 2022.تعالت الأصوات حينها وحتى اليوم مشككة في نزاهة التصويت والأجواء المسيطرة على تقديم الدول المتنافسة لملفاتها، لكن أحدًا لم ينتبه لمنتخب قطر نفسه، ولا إلى الخطة التي وضعها المسؤولون في الدولة الخليجية الصغيرة لأبنائهم بعد أكثر من عشر سنوات من يوم النتيجة.
يخبرك تصريح فيليكس سانشيز المدير الفني لمنتخب قطر بكل شيء. ففي قمة فرحته هو ولاعبيه بالوصول إلى نهائي كأس الأمم الآسيوية، لا ينسى المشروع الأكبر والأهم الذي يعمل عليه منذ 12 عامًا تقريبًا منذ قدومه من المدينة الإسبانية برشلونة إلى الدوحة. جيل جديد من أبناء قطر يحقق لهم حضورًا طاغيًا في المحافل الرياضية لا سيما كأس العالم في الخليج العربي، ومكاسب سياسية بدأت تؤتي ثمارها الآن بالفعل.
كان التحدي حينها هو إيجاد السبيل لبناء منتخب من بلد تعداد سكانه 300 ألف قطري فقط، بعيدًا عن سياسة التجنيس المباشر في سن كبيرة والتي أثبتت فشلها. منتخب حديث العهد تكوّنت أول نسخة له بالأساس عام 1970 حين كانت البرازيل تحتفل بحصد كأس العالم الثالث في تاريخها بالمكسيك. فماذا فعلت قطر حتى تربح هذا التحدي؟
سحر أسباير
الجزء الأنعم في مشروع قطر الرياضي تحضيرًا لكأس العالم 2022 هو أكاديمية أسباير. المشروع الأضخم والأول من نوعه في منطقة الشرق الأوسط. تراقب الأكاديمية ما يزيد على 650 ألف لاعب كرة قدم سنويًا من أغلب قارات العالم. لها أربعة فروع رئيسية أولها في الدوحة، وآخر في تايلاند، أما الثالث في الباراجواي، والأخير في الماما أفريكا وتحديدًا في داكار عاصمة السنغال. وتقوم استراتيجية أسباير على استقدام أهم موهبتين في كل بلد بالقارة للتدرب في فرع الأكاديمية بالقارة ذاتها.
بدأت الأكاديمية في عام 2004 تحت مسؤولية غير مباشرة لأمير دولة قطر حمد بن خليفة آل ثاني، وفي عام 2008 وبعد تبلور فكرة ملف كأس العالم قطر 2022 انتقلت مسؤولية الأكاديمية بشكل مباشر لابنه تميم بن حمد آل ثاني.
ويبدو أن أسباير كانت واحدة من أهم مشاريع تميم الناعمة لتوطيد حكمه المستقبلي فانتدب لإدارة أسباير «إيفان برافو» المسؤول عن الاستراتيجية ذاتها في نادي ريال مدريد الإسباني، والذي وصفه «أوين جيبسون» الصحفي بجريدة الجارديان البريطانية أنه كان أحد أهم الأسباب استعادة ريال مدريد لليجا عامي 2007 و2008 بعد غياب 4 سنوات.
بعد عامين ونصف من قدوم برافو للدوحة أقدمت الأكاديمية على خطوتين مهمتين. الأولى، شراء نادي أويبن الذي يلعب في دوري الدرجة الأولى البلجيكي،وبعده ناديين آخرين في أوروبا أيضًا لتصعيد ناشئي الأكاديمية للعب في الفريق الأول لأندية أوروبية والاحتكاك بلاعبين من جنسيات أخرى. أما الخطوة الثانية، فكانت توفير الإقامة والجنسية القطرية للأطفال من 8 – 12 عامًا ممن بزغ نجم تألقهم مبكرًا لمواجهة أزمة قلة عدد المواطنين القطريين.
يبدو أن المشروع الضخم قد أتى ثماره بعد المستوى الرائع الذي قدمه لاعبو العنابي في كأس أمم آسيا،واعتراف فيليكس سانشيز المدير الفني للمنتخب القطري لموقع جول أن هذا المنتخب، والذي متوسط أعماره 24 عامًا، هو الثمرة الأهم للأكاديمية حتى الآن.
ما هو الوطن؟
يقول تشافي هيرنانديز في لقائه مع صحيفة التليجراف، إن مستوى الدوري القطري حين جاء عام 2015 لم يكن يعجبه وشعر بأنه أقل من المتوقع، لكن بعد مرور 4 مواسم وزيادة معدل استقدام لاعبين ومدربين أجانب على مستوى جيد ساعد في ارتفاع مستوى الدوري القطري بشكل يرضيه تمامًا الآن حتى مع ضعف الحضور الجماهيري.
كذلك مستوى اللاعبين القطريين الشباب الذين استثمرت فيهم قطر لما يزيد على عشر سنوات،يقول اللاعب الدولي الإسباني السابق، إنه لاحظ تطورًا كبيرًا في مستواهم خاصة من الناحية البدنية والمرونة الخططية وأن هذا نتاج طبيعي لما تخطط له قطر منذ عام 2006 تقريبًا.
أما عن أصول اللاعبين غير القطرية يقول تشافي، إن ابنته الصغرى وُلدت في قطر، وإنه في انتظار مولودة أخرى في قطر. هو يشعر بالامتنان الشديد لهذا البلد الذي وجد فيه من الرعاية والاهتمام ما ولّد بداخله شعورًا بالحب الذي لم يكن يتوقعه تجاه قطر.
أعلم أن البعض ممن يقرؤون هذه السطور يفكرون الآن في المقابل المادي الهائل الذي يحصده تشافي هيرنانديز من السد القطري، وهو ما يجهل شهادته قد تبعد عن الموضوعية بشكل أو بآخر. تلك الاتهامات التي طالته حينما توقع مشوار المنتخب القطري في البطولة ووصوله للنهائي. ولكن ماذا حدث بعدها؟ قطر في النهائي بالفعل. تشافي كان يراهن على مشروع يراه يتقدم خطوة تلو الأخرى طيلة سنوات.
وبغض النظر عن موضوعية تصريحات تشافي من عدمها، ما الذي يمنع أن يكون البلد الذي يرعاك في السادسة من عمرك ماديًا ورياضيًا وتعليميًا هو وطنك؟ ما الذي من المفترض أن يقدمه الوطن ويزرع بداخلك الانتماء أكثر من ذلك؟
الأب فيليكس سانشيز وأطفاله
كانت هذه كلمات فيليكس سانشيز عقب صعود منتخب قطر تحت 20 عامًا لكأس العالم في نيوزيلندا عام 2015. هذا الجيل الذي يدرب سانشيز أغلب لاعبيه منذ عام 2007 تقريبًا في أكاديمية أسباير.
ما حدث أن المسؤولين في قطر أدركوا مبكرًا قيمة الاستقرار الفني لأي فريق كرة قدم حول العالم، فاختاروا سانشيز بعناية في نفس الآونة التي اختاروا فيها هؤلاء اللاعبين لرعايتهم وجلبهم إلى الدوحة، وراهنوا على المجموعة كلها وعلى الاستثمار فيها لسنوات.
منصور محمد الأنصاري الأمين العام للاتحاد القطري عام 2014 عن منتخب فيليكس سانشيز في لقائه مع BBC
ما حدث باختصار من مدرب حديث السن قد أتوا له بأطفال في الثامنة ليبدأ معهم الرحلة، وهاهم في عام 2019 يصلون إلى نهائي كأس الأمم اللآسيوية بعد العديد من النجاحات المبشرة خلال هذا المشوار كالتتويج بكأس آسيا تحت 19 عامًا عام 2014 وبرونزية البطولة ذاتها تحت 23 عامًا منذ عام واحد. قصة جديرة بالإعجاب بالطبع!
الهدف ليس رياضيًا فحسب
في عام 2013 كتب الصحفي البريطاني «ديفيد كون» صاحب كتاب «سقوط بيت الفيفا» عن المشروع القطري الرياضي، ومليارات الدولارات التي خصصوها لزيادة نفوذهم الرياضي وتواجدهم داخل جدران الفيفا بالتزامن مع نشاطهم الرياضي الملحوظ في أكاديمية أسباير.
يقول ديفيد إن العديد من الملاحظين ممن قام بعمل لقاءات معهم أثناء تحقيقه عن قطر، يؤمنون بأن مشروع قطر الرياضي هو مشروع سياسي بالدرجة الأولى. هم يريدون تنويع مصادر ازدهار اقتصادهم وعدم اعتماد اقتصادهم على الغاز الطبيعي فحسب. أما عن السبب الأهم فهو دفاعي بحت، يريدون الخروج بالمنطقة من الظل والنفوذ السعودي الذي يهددهم على فترات مختلفة.
«للحق قوة تحميه»، يبدو أن تميم بن حمد قرر العمل بتلك المقولة منذ أن بدأ التخطيط لشكل دولة قطر في عهده. فالوسط الرياضي العالمي ليس شفافًا بالدرجة التي يحاول الفيفا تصديرها للإعلام. وإن كنت تشك في ذلك، فاسمح لي أن أخبرك أن بعد ذلك التصريح بشهور تولى «لوران ميشيل بلاتيني» إدارة شركة «Burrde» للملابس العالمية والخاضعة لمؤسسة قطر للاستثمارات. وبالطبع لم ينس أن يصرح بأن تلك الوظيفة ليس لها علاقة بمنصب أبيه!
هل سألت نفسك لماذا اختارت قطر دولتي الباراجواي وتايلاند تحديدًا لإقامة فروع رئيسية لأكاديمية أسباير؟ لماذا لم يختاروا البرازيل أو الأرجنتين أو الصين؟ أعتقد أن الإجابة ستصير سهلة حين أن تعلم أن البارجواياني نيكولاس ليوز والتايلاندي وراي ماكويدي هما أحد أبرز أعضاء اللجنة التي صوتت لصالح ملف قطر 2022 في عام 2010.
أدركت قطر اللعبة جيدًا وقررت أن تسير في المسارين الرياضي والسياسي على التوازي، وإذا حقق العنابي أداءً مبهرًا في المونديال المقبل ستكون قطر ضربت أحد أروع أمثلة التخطيط الرياضي والسياسي في العصر الحديث.