كيف تعلَّم الناسُ في العصور الإسلامية؟!
د. نيللي حنّا
كيف كان التعليم في العصر الإسلامي الوسيط؟!
على المستوى النظري تمثل وجهة نظر نللي حنا موقفًا صائبًا وصحيحًا، فقد كان الدين باعثًا وملهمًا لانتشار التعليم بين الناس منذ القرن الأول للهجرة، منذ اللحظة التي بدأ المسلمون فيها يكتبون الوحي على كل ما تصل إليه أيديهم آنئذ من أدوات بسيطة من الجلود واللحاف والرقاع والأدم وغيرها، حتى جمعه عثمان رضي الله عنه في مصاحف، أرسلها إلى الأمصار، وبدأت حلق العلم تظهر خدمة لهذا النص، فظهرت علوم اللغة والحديث والفقه ثم العلوم المصاحبة من التاريخ والرياضيات والأدب وغير ذلك، حتى وصل ذروة التخصص في تلك العلوم في القرنين الثاني والثالث الهجريين، فكان حقًا على الذي يريد أن يتصدّر مكانة “العالم” أو “الفقيه” أن يمرّ بهذه التجربة من حفظ القرآن، ثم تعلم العلوم والفنون التي ما وُجدت إلا خدمة له.
أما في إطار الوسائل، فقد لعبت المساجد دورًا أساسيًا في انتشار التعليم الديني ونشره، وكانت حلق العلم كاشفة لنا على الأنماط الأولى التي اتخذها المسلمون لهذا السبيل، سواء في التعليم الابتدائي للأطفال، أو حتى تعليم الكبار، وظل هذا النمط سائدًا حتى أواخر القرن الرابع الهجري.
ومنذئذ بدأت تظهر المدارس الأهلية في الحارات والشوارع سواء في بغداد العباسية أو بعض مدن المشرق الإسلامي مثل مرو ونيسابور، حتى رأى السلاجقة في القرن الخامس الهجري أهمية هذه الوسائل الجديدة في نشر التعليم، فتبنى وزيرهم الشهير نظام الملك الطوسي (ت485هـ) إنشاء سلسلة المدارس النظامية في كل من بغداد ونيسابور ومرو وغيرها، ودرّس في هذه المدارس كبار أعلام عصرهم مثل الجويني وتلميذه حجة الإسلام الغزالي وغيرهم.
أما في الشام فقد تبنى نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي (ت549ه) هذا النمط الجديد، فنشره في ربوع الشام، لكن الثورة الكبرى في هذا الشأن كانت على يد صلاح الدين الأيوبي (ت589هـ) إذ نشر المدارس في مصر لأول مرة بعد قرن ونيف من ظهورها في بغداد ونيسابور عقب دحره للفاطميين، ثم ما لبث أبناؤه وأقاربه من الأيوبيين في نشر المدارس في بلاد الشام ومصر والحجاز واليمن، حتى جاء المماليك فتوسعوا في إنشاء المدارس، حتى نخال إنه كان مشروعًا ثوريًا عامًا تنافس فيه سلاطين المماليك وأُمراؤهم مع كبار التجار وأهل الدعة والثراء، فلم تخلُ حارة من حواري القاهرة من مدرسة أو خزانة كتب في تخصص أو مجموعة من التخصصات الشرعية والعلمية.
ومعنى المدرسة حينئذ يشمل ما نسميه اليوم المدارس الثانوية والكليات، أما التعليم الابتدائي فقد كانت المكاتب “الكتاتيب” هي الأصل الذي لا بد منه في التدرج في سلم التعليم، ونملك اليوم عددًا من المصادر التاريخية المهمة التي تملك قوائم بأسماء هذه المدراس، وتخصصاتها، وطريقة النفقة عليها، ومواضعها، وسبل التعليم فيها، وأسماء من درّسوا، وكيف درّسوا، وما هي الأنماط التي سلكوها في سبيل خروج عملية تعليمية متقدمة من التعليم التقليدي أو المناظرات، مثل “الدارس في تاريخ المدارس” للنعيمي، أو “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار” للمقريزي، أو “الأنس الجليل بذكر القدس والخليل” لمجير الدين العليمي، أو ما يُستشف من حجج الأوقاف التي حُققت ونشرت وصارت اليوم بين أيدينا، نعرف منها كيف تعلم الناس في العصر الإسلامي الوسيط.
أما الذي أبقى على هذه المدارس لقرون متطاولة، ولتخريج آلاف من علماء الأمة النابهين، فقد كان يتمثل في الأوقاف، والوقف يعني تحبيس الأصل وإبقاؤه، سواء كان هذا الأصل مدرسة أو عقارًا أو أرضًا أو مشروعًا أو أي شيء له ريع وأرباح، وتسبيل منفعته، أي الاستفادة من هذا الريع في الإنفاق على المدارس التعليمية، وهذا النمط من الإنفاق يعني أن الدولة والساسة لم يكونوا متحكمين فيه، وهو الأمر الذي مثّل ازدهارًا للعملية التعليمية ولا شك، وكان المشرف على هذه الأوقاف وإداراتها يُسمى ناظر الوقف، وغالبًا ما كان قاضي قضاة الشافعية في مصر هو المسئول عن ذلك، وظهر منهم أعلام عظام مثل العلامة ابن حجر والبُلقيني وابن جماعة وغيرهم، ممن حرصوا على الأوقاف وتنميتها والإنفاق من ريعها على الكتاتيب والمدارس والكليات.
المناهج الدراسية
وأما أهل أفريقية (تونس) فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب، ومُدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها، إلا أن عنايتهم بالقرآن واستنظار الولدان إياه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه، وعنايتهم بالخط تبعٌ لذلك، وبالجملة فطريقهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس
ونلحظ فيما سبق أن تعليم “إفريقية” (تونس وغرب ليبيا وبعض الجزائر) للأطفال كان مهتمًا أشد الاهتمام بالقرآن الكريم ولا يتعدى الطفل هذه المادة الإجبارية إلا إذا أتمها إتمامًا جيدًا، ثم تأتي علوم الحديث والخط وبعض العلوم العقيلة كالحساب وغيره تبع للقرآن الكريم، ولكنها ليست بنفس الدرجة والمرقاة، وقد شبه ابن خلدون هذه المناهج بمناهج أهل الأندلس، لكن ما هي طريقة أهل الأندلس في تعليمهم أبنائهم وبناتهم؟
هذه المناهج الأندلسية ذكرها ابن خلدون أيضًا في مقدمته القيمة بقوله:
وأما أهل الأندلس فمذهبهم: تعليم القرآن والكتاب من حيث هو، وهذا هو الذي يراعونه في التعليم، إلا أنه لما كان القرآن أصلُ ذلك وأسّه، ومنبع الدين والعلوم، جعلوه أصلًا في التعليم، فلا يقتصرون لذلك عليه فقط، بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب، والترسُّل [1] وأخذهم بقوانين العربية وحفظها، وتجويد الخط والكتاب، ولا تختصُّ عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها، إلى أن يخرج الولد عن عمر البلوغ إلى الشبيبة، وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر والبصر بهما، وبرز في الخط والكتاب، وتعلق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم، لكنهم ينقطعون عن ذلك لانقطاع سند التعليم في آفاقهم، ولا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول، وفيه كفاية لمن أرشده الله تعالى، واستعداد إذا وجد المعلم
وهنا أيضًا يوضح ابن خلدون أن أهل الأندلس اهتموا أكثر ما اهتموا بتعليم أولادهم للقرآن الكريم، وأما بقية العلوم والمعارف فهي ثانوية فرعية لا تقاس أهميتها بأهمية القرآن، وحتى تعليم الخط لم يكن يلقى العناية المرجوة، وكان تعلميه غالبًا ما يكون بالمجهود الفردي للشاب في المراحل اللاحقة من التعليم، والتعليم ينقطع في الأندلس في أوقات الطالب يكون أحوج إلى العلوم والمعارف فيها من أي شيء آخر، ويكون تحصيله الأولي في الكتاب هو ذخره وإرثه!
إن هذا المقال كان توطئة لابد منها لمعرفة كيف تعلم الأطفال والشباب في تلك المراحل الزمنية، وبعض المناهج التي درسوها، وهو مهم لنرى كيف تعلم المصريون فيما بعد في العصر العثماني، وذاك مقالنا القادم إن شاء الله.
[1] أي الإنشاء وطرق الكتابة.
- 1- نيللي حنا: ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية، ترجمة رؤوف عباس، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2004م
- 2- تاريخ ابن خلدون، تحقيق خليل شحادة، دار الفكر، الطبعة الثانية، بيروت، 1988م.
- 3- محمد شعبان أيوب: كيف ربى المسلمون أبناءهم، رحلة في تاريخ التربية الإسلامية، مؤسسة اقرأ للنشر، القاهرة، 2011م.