ما قبل التصوير: كيف وثّق الناس حياتهم من دون كاميرات؟
ينتج كل مجتمع أدوات التعابير الخاصة به وفقًا لاحتياجاته ومتطلباته، وكما يؤثر كل تغيير في البناء الاجتماعي في الدافع على التعبير الفني، فإنه يؤثر أيضًا على أسلوبه وشكله، لذا تغيرت على سبيل المثال طرق التعبير الفني في المجتمع الفرنسي في عصر الآلة والرأسمالية الحديثة في القرن التاسع عشر، وظهرت الحاجة لتوثيق حياة الأشخاص وتقديم ذاتهم إلى المجتمع عبر الصورة، ولكن كيف كان الحال قبل اختراع كاميرات التصوير الفوتوغرافي؟!
البورتريه لم يعد حكرًا على البلاط الملكي
في كتابها «التصوير الفوتوغرافي والمجتمع» تتبع المصورة الفرنسية جيزيل فروند، تاريخ الاختراعات السابقة على آلات التصوير المعروفة الآن، وتذكر أن أولى أشكال التعبير الفني عن الذات في المجتمع الفرنسي، هي رسم البورتريه النصفي بألوان الزيت والباستيل، لكن هذا الترف كان قاصرًا على البلاط الملكي فقط لقرون طويلة، إلى أن جاء عام 1750، الذي شهد تحولات اجتماعية أدت إلى صعود الطبقات البرجوازية، التي مع نمو رفاهيتها المادية، أصبح احتياجها لإظهار مزاياها كبيرًا، وبدأت البحث عن أدوات للتعبير عن ذاتها، فلم تجد سوى نفس الأشكال الفنية التي استخدمتها طبقة النبلاء، مع تعديلات تلائم احتياجاتها.
مع صعود الطبقة البرجوازية وتأكد سلطاتها السياسية، تغير الزبون بالنسبة لراسم البورتريه، وتغير بالتالي الذوق العام ولم يعد الوجه النبيل هو النموذج المثالي: فقد ظهر بدلًا منه الوجه البرجوازي، وتراجعت ثقافة البلاط التي وجدت أقصى تعابيرها الفنية في لوحات وأعمال الباستيل للاتور وواتو ذوات الحركة الفنية الخفيفة، تاركة مكانها لثقافة البرجوازية بما يتناسب مع الميول الواقعية للمرحلة فيما يعرف باسم «البورتريه المنمنم» أي بورتريه مصغر، يركز على رسم وجه الشخص، معتمدًا على الدقة الفنية والحرفية العالية، باستخدام الألوان الرمادية الكثيفة الثقيلة.
وتصف جيزيل فرويد الوضع حينذاك «كان على الفنان لكي يرضي ذوق هذه الفترة، أن يتفادى الألوان الصريحة، وأن يتعامل مع الدرجات اللونية الناعمة، إضافة لاستعمال أدوات وتقنيات تساعده على إظهار تأثيرات القطيفة والحرير…وقد حصل البورتريه المنمنم على نجاحه كفن بسيط، نتيجة لتوافقه مع العملاء الجدد، وأصبح من السهل على الفنان ضمان حياته عن طريق تنفيذ ما بين 30 و50 بورتريهًا في العام بأثمان معقولة».
السيلويت
كانت هذه هي المحاولة الأولى التي لجأ إليها أفراد المجتمع الفرنسي للتعبير عن نفسها فنيًا، والبذرة التي كانت شرارة لإنطلاق عدد من المجربين والمخترعين في تقديم اكتشافات جديدة، تلبي احتياجات الفئة الاجتماعية الصاعدة في إظهار ذاتها وتخليدها. فظهرت في فترة حكم لويس الرابع عشر، طريقة جديدة لعمل البورتريه. كانت وسيلة للتسلية عن طريق قص ورق لامع أسود على شكل بروفايل للأصدقاء.
أصبحت هذه العملية بمثابة عمل جديد لكثير من الناس الذين يمتلكون المهارة اليدوية، فكانوا يمارسونه في الحفلات المهمة كحفلات الرقص في البلاط، والمهرجانات الشعبية». وسميت هذه الطريقة التي حازت شعبية كبيرة ليس في فرنسا وحدها إنما في بلاد كثيرة بـ«السيلويت»، نسبة إلى وزير المالية الفرنسي في ذلك الوقت السيد دي سيلويت. ورغم انتسابها لاسمه، فإنه لم يكن هو مخترعها. فالمخترع الحقيقي غير معروف.
الفيزيونتراس
لم يستطع اختراع السيلويت التطور بحيث يصبح صناعة واسعة، لكنه كان السبب في ميلاد تقنية جديدة حققت شعبية كبيرة في فرنسا في الفترة بين 1786م و1830م، وعرفت باسم آلة نقل معالم الوجه «physionotrace».يمكن النظر إليه باعتباره رمزًا لفترة انتقالية بين نظام قديم ونظام جديد. فهو يعد بمثابة المقدمة لظهور آلة التصوير.
ولد مخترع هذه التقنية جيل لوي كريتيان في فرساي عام 1754 م، وكان يعمل بمهنة الرسم بالحفر بواسطة الأزميل «الليثوغرافيا»- التي اخترعها الإنجليزي ألو سنفلفدر في عام 1798، وانتقلت إلى فرنسا على يد فيليب دولاستيري- على أمل أن يجني دخلًا أفضل، لكن المنافسة كانت قوية، والعمل بالأزميل يتطلب عناية ووقتًا كبيرين. «وقد اضطره وضعه المالي للبحث عن وسيلة جديدة، تضاعف من دخله من هذه المهن، وفي عام 1786م، اخترع آلة تقوم بميكنة الحفر، تساعده على كسب كثير من الوقت». وقد جمع هذا الاختراع بين طريقتين لعمل البورتريه «السيلويت، والحفر» وخلق نوعًا جديدًا من الفن، وقد سمي المخترع جهازه الفيزيونوتراس آى (آلة نقل معالم الوجه).
اعتمدت الآلة الجديدة على فكرة نظام يسمى (pantogrape) وهو ما يشبه متوازيات أضلاع تتحرك بشكل أفقي، وبواسطة سن مدبب جاف، يقوم محرك الآلة بمتابعة خطوط الوجه، وبريشة بها حبر تتبع حركات السن المدبب، يحفر شكلًا بمقياس رسم يحدده يناسب وضع القلمين.وإضافة لحجمه الكبير، يمتلك الفيزيونوتراس ملمحين أساسيين أولًاـ تحركه الرأسي، ثانيًاـ ما يشبه علامة التسديد التي تساعد على نقل خطوط الموضوع، فبعد ضبط مكان استقرار الشخص، يصعد مشغل الآلة على سلم خلفها، ويبدأ في نقل خطوط الوجه من خلال علامة التسديد، ويلعب بُعد الآلة عن الشخص، ووصع السن المدبب، دورًا في تحديد حجم البورتريه. وتتسم صورة الفيزيونتراس بوجود نفس التعبير على الوجوه:الجمود، والتبسيط والشكل المسطح.
وفي سنة 1788، ذهب كريتيان إلى باريس لاستثمار اختراعه، واشترك مع مصور بورتريهات منمنمة يدعى كنيدي، سرعان ما تركه وأقام مشروعه المنافس، عندما رأى النجاح الذي حققه هذا الاختراع. وقد تبنى العديد من مصوري المنمنمات هذه التقنية الجديدة، وكان أشهرهم كريتيان، وكنيدي، وجونور. «وتدافع كل سكان باريس على فناني الاختراع الجديد، وعلى رأسهم رجال الثروة، ورجال الإمبراطورية….ووقفوا جميعًا أمام الاختراع الذي ينقل ملامح وجوههم بدقة حسابية، وتفنن فنانو الفيزيونوتراس في تقنياتهم، وقاموا بعمل بورتريهات صغيرة على الخشب، وعلى ميداليات، كما رسموا على العاج».
وكما هو الحال دائمًا يتراجع القديم أمام الحديث، فإن الصور المرسومة بالفيزيونوتراس قللت من فرص رسامي البورتريهات المنمنمة، وتذكر مؤلفة الكتاب أنه أقيم بفرنسا صالون عام 1739، حجزت به اثنتي عشرة صالة لهذا الفن، وعُرض في كل صالة خمسون بورتريهًا لفناني الفيزيونوتراس المعروفين. وقامت منافسات حامية بينهم، بخاصة بين الثلاثة الأكثر شهرة، وكان يتهم كل منهم الآخر بسرقة آخر تحسيناته… ويعلن كل منهم أنه المخترع الوحيد للتقنيات الجديدة. ولكن رغم حصول قطاع كبير من البرجوازية على صور بفضل الفيزيونوتراس، فإن هذا الشكل الفني لم يصل لقطاعات عريضة من البرجوازية المتوسطة، وكذلك جماهير الشعب، وكما لم يصل إلى الريف.
الداجريوتيب
في عام 1826، اكتشف نيسفور نيابس، اختراعًا غير شكل الحياة في باريس، أُطلق عليه «الداجريوتيب». فكان نيابس الذي ولد عام 1765، مولعًا بالبحث والتجريب، وساعده على ذلك البيئة الريفية الثرية التي نشأ فيها، وشكّل فشل نيابس في الحصول على أنواع معينة من الحجارة تستخدم في الطباعة– التي وصلت إلى فرنسا نحو 1814- بسبب إقامته في الريف، حافزًا قويًا للتفكير في بديل مناسب، ففكر في استبدال الحجر بلوح معدني، وقلم الحفر بضوء الشمس. «وبعد العديد من التجارب الفاشلة حصل نيابس سنة 1826، على نتيجة قاطعة لأول مرة، ولكن العملية كانت بدائية للغاية».
توفى نيابس في 5 يوليو 1833، تاركًا عمله الذي كرس له حياته في وضع غير معروف بعد أن قضى سنوات عديدة في محاولات غير موفقة لإيجاد ممولين، لكن لحسن الحظ، تدارك الأمر الرسام المعروف حينذاك «داجر»، الذي ما لبث أن وقع عقدًا مع ابن نيابس، ينص على استثمار الاكتشاف مناصفة. وعلى العكس من نيابس استطاع داجر عن طريق الدعاية أن يجعل الاختراع محورًا مفضلًا لأحاديث الأوساط الاجتماعية، الأمر الذي لفت انتباه الحكومة، حتى استطاع الحصول على تصديق من الحكومة لتبني المشروع في جسلة مجلس الشيوخ 15 يونيو 1839.
قدمت الدولة المشروع للشعب يوم 19 أغسطس 1839، في حفل كبير أقيم بأكاديمية العلوم، حضره كل الصفوة المثقفة، والعلماء والفنانون الأكثر شهرة في ذلك الوقت، كما تزاحمت كل باريس على المقاعد المخصصة للعامة. وقدم زعيم المعارضة الديمقراطية فرانسو أراجو المشروع للجميع قائلًا: «تخيلوا معي مدى الإثراء الذي سيحصل عليه علم الآثار من الاختراع الجديد، سيمكن نقل ملايين الكتابات الهيروغليفية التي تغطي حوائط المعابد الفرعونية، في طيبة، وممفيس، والكرنك… في الماضي كنا نحتاج لعشرات السنين، ولكتيبة من الرسامين للقيام بهذا العمل. الآن يستطيع رجل واحد باستعمال الداجريوتيب أن يقوم بهذا العمل الضخم».
وتصف جيزيل فروند الحالة العامة في باريس بعد ذلك الحفل «تحولت باريس إلى مشهد لم يكن معروفًا من قبل. مدينة مأخوذة بمرض التجربة. صار الباريسيون يتجولون حاملين آلات تزن بضع مئات من الكيلوجرامات، بحثا عن منظر يلهمهم على التقاط صورة…وفي خلال أيام امتلأت ميادين باريس بآلات تصوير موجهة للنصب التذكارية والتماثيل الأثرية…».
وعلى الرغم من اهتمام المجتمع الكبير الذي اتجه نحو الديجروتيب، فإن الوصول إليه لم يكن سهلًا إلا على الطبقة البرجوازية الغنية، وبعض الهواة الأغنياء والعلماء.فقد كانت الآلة ضخمة وتزن مع بقية الآدوات 500 كيلو جرام، ويتراوح سعرها بين ثلاثمائة وأربعمائة فرنك هذا إضافة إلى صعوبة التعامل معها، حيث كان الزمن الذي يستغرقه التصوير عائقًا آخر «فقد كان يصل إلى نصف ساعة…إضافة إلى ما يتراوح بين ثلاثين وأربعين دقيقة للتحضير فقط، وبسبب ضرورة إتمام كل العمليات في موقع التصوير، كان تصوير المناظر الطبيعية يتطلب نقل خيام كبيرة، ومعامل متحركة، وكان البورتريه بمثابة سخرة لصاحبه، كان العرق الذي يسيل على الجبهة والخدين يترك آثارًا على بودرة مكياج الوجه، تظهر في الصور». كما كان هناك عيب أساسي في طريقة داجر وهو عدم القدرة على عمل نسخ من نفس الصورة.
تطورات الاختراع
بدأ التطور التقني أولًا في صناعة العدسات، فعند نهاية عام 1839م، صنع البارون سيجييه، آلة لا يزيد وزنها على أربعة عشر كيلو جرامًا، وبالتالي كان يمكن حملها، وفي العام التالي أُنتجت آلات تصوير جديدة انخفض سعرها حيث وصل ما بين 250 و300 فرنك، وألواح من الفضة انخفض سعرها أيضًا. «لقد أدى إتقان الصناعة إلى تقليل زمن التقاط الصورة، ففي سنة 1839، التي اشترت الدولة ملكية اختراع الفوتوغرافيا، كان زمن تعريض لوح الفضة لضوء شمس قوية، لا يقل عن خمس عشرة دقيقة، انخفض إلى ثلاث عشرة دقيقة بعد مرور عام واحد، وانخفضت هذه المدة إلى دقيقتين أو ثلاث سنة 1841م، ووصلت إلى ما بين عشرين وأربعين ثانية فقط سنة 1842.
وتحقق تقدم الفوتوغرافيا عندما استبدل لوح الفضة- الذي لم يكن يسمح بعمل نسخ- بالسلبية الزجاجية، أي طباعة الصورة على لوح زجاجي رقيق، باستخدام عملية التصوير السلبية- التي تظهر فيها المناطق المضيئة في الأصل مظلمة في الصورة، والمناطق المظلمة في الأصل مضيئة في الصورة، وتظهر فيها الألوان بدرجاتها العكسية، مما ساعد على ملء النقص في صور ألواح الفضة.
الفوتوغرافيا في متناول الجمهور العادي
في نحو 1852- 1853، أدرك الفرنسي تير ديزيديري، أن الفوتوغرافيا يمكن أن تحقق له الثراء، فقرر إقامة أستوديو عام للتصوير، ولأنه يعلم جيدًا أن تكلفة الصور لا يقدر عليها إلا الأغنياء، ففكر في بديل يمكنه من إتاحة الصور للعامة «لاحظ ديزيديري تكلفة الفوتوغرافيا العالية، التي لا يقدر عليها إلا الطبقة الغنية الصغيرة، فجاءت فكرته بتصغير مقاس الصور، وابتدع البورتريه الكارت، الذي يقرب للمقاس المعروف الآن 6×9، واستبدل اللوح المعدني بالسلبية الزجاجية التي اكتشفت سابقًا.
وبهذه الطريقة استطاع عمل كليشيه يصل إلى خمس السعر الموجود». وبهذا التغيير الحاسم في مقاس الصورة وفي سعرها استطاع أن يجعل الفوتوغرافيا في متناول الجمهور العادي. وكان لذلك أثر حاسم وقاطع على تطور الفوتوغرافية فيما بعد.