هكذا تكلم نيتشه عن العرب
رغم احتواء أعمال نيتشه على أزيد من 100 مرجع وقول تحيل على عظمة الحضارة الإسلامية والعربية في فكره، إلا أن عددًا قليلًا جدًّا من المفكرين عمومًا، والعرب خصوصًا، درس هذه الأخيرة وصاغ منها ما هو مفهوم لدى القراء من كل الأصناف.
في هذه القلة نجد تيارين، الأول يعظِّم ما قاله نيتشه عن الإسلام والمسلمين العرب والفرس، كنوع من انتصار معنوي للدين الإسلامي على لسان أحد عظماء الفلسفة الغربية. والتيار الآخر يرى أن حب نيتشه للإسلام ليس سوى بديل يملأ به الفراغ الذي خلفه غدره الشخصي لثقافته الأم في نفسه.
وبين الأول والثاني يجد القارئ نفسه بين السندان والمطرقة في فهم منطق نيتشه وكلامه عن الإسلام. إليك، هكذا تكلم نيتشه عن العرب، كل ما هو معلوم لبيان حقيقة رأي نيتشه في العرب من بهتان آراء الآخرين.
نيتشه والمسلمون
لا يمكن ذكر حديث نيتشه عن العرب دون ذكر حديثه عن الإسلام، فالأول من صلب الأخير، والعكس صحيح. ورغم قلة المصادر التي استعملها فريدريك نيتشه في كتاباته عن الإسلام، والتي تجلت في مستشرقين ألمانيين شهيرين هما يوليوس فلهوزن وأوجست مولر فقط، إلا أن انطباع نيتشه -إن صح التعبير- عن الإسلام والمسلمين محترم بشكل كبير.
يرى فريدريك نيتشه في الجزء الثامن من كتابه نقيض المسيح أن الحضارة المسيحية حرمته وحرمت أمثاله من العامة من ثقافة الحضارة الإسلامية في الأندلس، التي بُنيت على سواعد رجال أقوياء، وعلى غرائز كما سماها فحولية تحب الحياة وتقول لها «نعم»، عكس الكنيسة التي تقمع كل ما هو دنيوي وتفرض الاختيار بين الخضوع التام أو الموت، والتي قارنها بالكحول في إفساد الرجل الألماني.
ويضيف نيتشه أنه عقد صداقة مع الإسلام وشن الحرب على المسيحية، وأن حرية الاختيار في ألمانيا المسيحية غير ممكنة سواء تعلق الأمر بالاختيار بين اليهود والعرب، أو بين الإسلام والمسيحية. ففي ظل سيادة الكنيسة التي حاربت ولا تزال كل القيم الأرستقراطية التي يدعو إليها نيتشه، والتي يكبتها الرجل الألماني ليرضي الكنيسة ورواكزها، تنعدم حرية الاختيار وحرية الفكر الحقيقية.
ويذهب نيتشه إلى التنويه بفرقة حسن الصباح والتي عرفت بالفرقة الإسماعيلية أو الحشاشين. ورغم الجدل الذي يحيط بالفرقة، إلا أن نيتشه نوه بها فكرًا وفلسفة، وكذلك بالنظام السائد داخل رتبها الدنيا، وبحرية فكرهم خصوصًا. حيث رادف مفهوم هذا الأخير بحرية القيام بكل شيء، وبالحرية من سيطرة مفهومي الخير والشر على الفكر. وقارن حرية الحشاشين بحرية الصليبيين، فأدى به هذا إلى استنتاج وهم الأخيرة بالحرية.
كما أن تلاقي أفكار نيتشه مع الإسلام وتعاليم النبي محمد فيما يخص تحريف دين عيسى ابن مريم من طرف تلامذته، وحث الرسول على طهارة النفس والبدن وتحريم الخمر لمَّع من صورة العرب والمسلمين لدى نيتشه. فكتب في 13 مارس 1881 لصديقه «Köselitz»: «أريد أن أعيش بين المسلمين لوقت طويل، خصوصًا حيث يكون إيمانهم الأقوى. بهذه الطريقة أتوقع صقل تقديري ونظرتي لكل ما هو أوروبي».
نيتشه والعرب
أقر فريدريك نيتشه رغم محاربته لكل ما هو كنائسي ومسيحي، تأثير المسيح على الغرب، ومعه جميع أنبياء الديانات السماوية حيث وضعهم جميعًا على قدم المساواة. لكن، نجد ميله للرسول محمد ولتعاليمه، حيث يقر أنها من شيم الرجال الذين لا يحنون الرأس أمام النزوات والحالات العاطفية والعوج الذي يبصم على النفسية الأنثوية. بل يملكون روح انضباط تقودهم نحو التفرد والتميز عكس أغلبية الناس التي تعسر على نفسها الحساب. ولو كان تشبيه النساء بالعوج والضعف قد أتى بسيل من الردود ضد نيتشه وفلسفته.
فرّق نيتشه بين الفرسان المحاربين، والجنود. ففي الفرقة الأولى من الفرسان علو الهمة والشجاعة والقيادة، وهم تجسيد لإرادة القوة لدى نيتشه التي عادة ما يضرب المثل بالشعوب التي جسدتها. بينما يرى الجنود كرمز للخضوع والتشابه وغياب التفرد والتميز. ويضيف في جينالوجيا الأخلاق قوله: «في هذه الأعراق يجد المرء الأسد العظيم يبحث عن النصر: الرومان، العرب، الألمان، اليابان، هؤلاء جميعًا لهم الصفة المشتركة». وهنا، أدرج نيتشه العرب ضمن الشعوب العريقة التي تأبى الخضوع والسيطرة، والتي تتميز على غرار الفرسان بالشجاعة والقيادة والقدرة على التفرد والتميز.
كما نجد في كتابات نيتشه عدة صور لفظية وتمثيلية تحيل على الحضارة العربية، ففي كتابه «هكذا تكلم زرادشت» نجد أن الأسد العظيم الذي شبه به العرب في جينالوجيا الأخلاق، هو الحالة الثانية في تحول الروح وسعيها نحو الرقي وتجاوز الذات، فالأسد في هذه المرحلة يريد ويفرض ويتوعد بالضرر كل من يحاول أن يمس بحريته.
وقبله نجد الجمل كمرحلة أولى، وهو حيوان الصحراء ومن رموز الحضارة العربية. ويعني به نيتشه الروح التي تعيش وتحمل تجارب الحياة وتجمعها. أما أخيرًا، فنجد التجدد والصفاء والنسيان والبداية الجديدة في مرحلة الطفل. كما تغزل فريدريك نيتشه بصفة واضحة بالشرف والبيئة الصحراوية عمومًا والعربية خصوصًا في قصيدته بنات الصحراء. فيقول:
وما يدهش المرء في فكر وعقل نيتشه الفذ، هو خلاصته لهذه الاستنتاجات والآراء عن العرب وعن الحضارة العربية الإسلامية رغم قلة تواجد العرب والمسلمين في ألمانيا مقارنة بالتواجد اليهودي. فنيتشه وغالبية مفكري تلك الفترة من الألمان لم يعطوا الأولوية لدراسة الحضارة العربية فلسفيًّا لزهدهم مقارنة بما أتوا به في اليهود الذين تواجدوا في أوروبا لغاية الحرب العالمية الثانية.
الحب ونقيضه، دوافع صلح نيتشه مع العرب
تميل النفس إلى الظن بأن نيتشه يدافع عن الإسلام لما في الإسلام من حق وحنف، لكن واقع نيتشه المتذبدب والذي يغذيه حقد عميق تجاه ثقافة الألمان يجعل من الصعب تصديق أقواله تجاه المسلمين ولو كانت ذات صبغة منطقية. ففي رسالة لصديقٍ له، أراد العيش في تونس بين المسلمين في أقوى أماكن إيمانهم التي لا يمكن لغير المسلم ولوجها، وذلك فيما يؤول كهاجس لمعرفة الإسلام تأثرًا بحضارة الأندلس ورغبةً في إحياء قيمها. لكن بعد أربعة أعوام من رسالته تلك، كتب لأخته بنفس الشدة رغبته في العيش في اليابان!
غرض نيتشه السابق ليس لمعرفة الإسلام، لكن لمعرفة النفس عن طريق الإسلام وعن طريق الشعوب التي يرى أنها ذات نبل وقوة. حيث يميل نيتشه لما له قوة في وجوده. فالاقتباس من الإسلام بالنسبة له، ما هو إلا معادلة لقوة الحضارة الغربية المسيحية، وموازنة لقيمها بقيم أخرى مماثلة من الشرق.
كما نجد أن نظرة نيتشه المتفائلة نحو الإسلام والعرب والفرس بصفة خاصة تأتي من كرهه المطلق لثقافته الأصلية الألمانية، حيت لم يقتصد نيتشه أو يزهد في وصفها بأبشع الأوصاف وشن الحرب عليها جهارة في صفحات نقيض المسيح الأخيرة. وما لا يعيب رأي نيتشه أنه ليس الأول، وبالتأكيد لن يكون الأخير في كره ثقافته الأم، فشاركه في هذا الكره الموسيقي هنريك هاينه، وشاركه في حب الشرق الأوسط قبله غوته.
فبعد عصر الأنوار الذي أعطى ولادة الثورة الفرنسية، أعيد للمسلوب حقه في العلم عن حقيقة الرسول والإسلام بعد أن احتكرت الكنيسة هذه المعلومات لعقود، وهو ما ظهر في الأعمال الأدبية والفنية التي تلت. ورغم عيش الكراهية في نفوس البعض المتعصب من المثقفين والمتنورين، كفولتير، إلا أن آخرين دافعوا عن شخص الرسول ودينه من قبيل غوته. الذي كان من عائلة ثرية مثقفة، سهرت على تعليمه، وعلى تقديم مؤلف ألف ليلة وليلة له، والذي سحره. كما لعب الباحث هردر دورًا مهمًّا لاحقًا في حياة غوته حيث عرفه على الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي والقرآن، اللذين بصما على أعمال غوته. ومن بعده نيتشه كذلك الذي قدر أعمال الشيرازي وغوته، رغم عدم اطلاعه على القرآن. فهل يكون حب نيتشه الإسلام مبنيًّا على قناعة؟ أم مجرد بديل للمسيحية التي لم يحبها؟