دسوق وقُم والقيروان: كيف ارتبطت الأساطير بالمدن الإسلامية؟
عرفت الحضارة العربية الإسلامية تأسيس عددٍ كبيرٍ من المدن في كل من مصر والشام وإيران والمغرب وغيرها من الأقاليم الإسلامية شرقاً وغرباً.
المسلمون الذين خرجوا فاتحين من شبه الجزيرة العربية في القرن الأول الهجري/ القرن السابع الميلادي، سرعان ما تحولوا من حالة البداوة إلى حالة التحضر، وتأثروا في ذلك التحول بمعايشتهم لأهل البلاد المفتوحة، والذين كانوا– في أغلب الأحيان- من أهل الحضارات والثقافات العريقة، لا سيما في وادي النيل وبلاد الرافدين.
يمكن القول إن ذلك التحول الحضاري الكبير، والذي وقع بسرعة خاطفة تزامناً مع التوسع العربي، قد أثار مجموعة من الأسئلة العميقة في الذهنية العربية التقليدية، وهو الأمر الذي استدعى ظهور بعض التفسيرات الدوجمائية التي تميل– في الغالب- نحو الاعتماد على التفسير الإعجازي- المناقبي، الذي يرى أن تأسيس مدينة ما يجب أن يقترن بنوع من أنواع الخوارق.
هذا الحس الميتافيزيقي سرعان ما سيقترن بمجموعة من التوجهات المذهبية – السياسية المتمايزة، والتي ستعمل على تخليد لحظة تأسيس مدينة أو عمرانها، من خلال مجموعة من الروايات المنسوبة لبعض الشخصيات المُعتبرة في كل مذهب.
على سبيل المثال، ستحتفي الذاكرة السنية بلحظات تأسيس الفسطاط والقيروان وفاس، في الوقت الذي سيهتم فيه المخيال الشيعي بمدنه المقدسة، مثل النجف وكربلاء وقم والمهدية والقاهرة، أما الذاكرة الإباضية فستسلط الأضواء على وقائع تأسيس تاهرت عاصمة الدولة الرستمية، في حين ستظهر أسماء مدن دسوق وطنطا وغيرها في المدونة الصوفية.
في المُتخيل المذهبي السني
يولي المُتخيل السني اعتباراً خاصاً للمدن التي أُسست في القرون الأولى من تاريخ الإسلام، وذلك تأسيساً على كون بُناة تلك المدن هم إما من طبقة الصحابة أو طبقة التابعين أو طبقة تابعي التابعين، وثلاثتهم من الطبقات الخيرية الواقعة في القرون الثلاثة الأولى المفضلة، والمُشار إليها في الحديث المرفوع، المتفق عليه: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ».
المُتخيل السني الذي اهتم كثيراً بعصر الفتوحات والتوسعات العسكرية في عهد الراشدين والأمويين (11-132هـ/ 632- 750م) عمل على أسطرة العديد من اللحظات التي شهدت تأسيس المدن في الأقاليم الجديدة في الدولة الإسلامية، وسنضرب هنا ثلاثة نماذج معبرة عن ذلك الميل الأسطوري.
النموذج الأول، وهو مدينة الفسطاط في مصر، والذي تقدم الروايات الإسلامية ما يمكن اعتباره إرهاصاً مستقبلياً بفتحها، من خلال الروايات التي ذكرت وصية الرسول بالأقباط من جهة، وفي الأخبار التي تحكي عن زيارة الصحابي عمرو بن العاص–فاتح مصر المستقبلي- لمصر قُبيل الإسلام، وعن النبوءة التي توقعت ملكه لمصر من جهة أخرى، وهو الأمر الذي انعكس بشكل واضح على السردية الإسلامية لبناء وتأسيس مدينة الفسطاط فيما بعد، بصفتها أولى العواصم الإسلامية في مصر.
تؤكد الروايات الإسلامية الشائعة أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب هو الذي قرر انتقال العاصمة السياسية لمصر من الإسكندرية إلى مدينة الفسطاط، عندما أرسل إلى عمرو بن العاص يخبره بألا يحول بينهما بحر. كما تتحدث المصادر التاريخية عن نوعٍ من التقدير الإلهي الغيبي في تحديد مكان المدينة واسمها، وهو ما يظهر في رواية تقي الدين المقريزي الواردة في كتابه «الخطط المقريزية»: «… وإنما سُميت الفسطاط لأن عمرو بن العاص لما أراد التوجه إلى الإسكندرية لقتال من بها من الروم، أمر بنزع فسطاطه فإذا فيه يمام قد فرخ، فقال عمرو: لقد تحرم منا بمتحرم، فأمر به فأقر كما هو، وأوصى به صاحب القصر. فلما قفل المسلمون من الإسكندرية قالوا: أين ننزل؟ قالوا: الفسطاط، لفسطاط عمرو الذي كان خلَّفه، وكان مضروباً في موضع الدار التي تُعرف اليوم بدار الحصار عند دار عمرو الصغيرة…». وعلى الرغم من شيوع تلك الرواية في المصادر التاريخية الإسلامية، فإن المراجع الحديثة تشكك فيها كثيراً، وتنظر لها على كونها مجرد أسطورة رائجة، وتميل بعض تلك المراجع للقول بالأصل البيزنطي الذي اشتُقَّ منه اسم الفسطاط.
المسجد الجامع بالفسطاط أيضاً حظي بقدر كبير من الأساطير الشعبية الشائعة، والتي راجت بين المصريين على مر القرون، من أهمها أن هناك ركناً من أركان هذا المسجد تُستجاب فيه الدعوة، وأن البئر التي اعتاد المصلون الوضوء منها، تقصده النساء اللائي يعانين من العقم لمساعدتهن في الحمل والإنجاب، كما أن أحد الأعمدة الرخامية الموجودة في ناحية القبلة بالمسجد، قد ضربه الخليفة الثاني بكرباجه لما عجز الصنَّاع عن حمله ونقله إلى مصر، وأن أثر الضربة لا يزال ظاهراً حتى الآن على العمود، أما أشهر الأساطير المرتبطة بالمسجد فهي تلك التي يزعم أصحابها أن المسجد كان على ضعف مساحته الحالية، وأن نصفه قد طار إلى الجنة في إحدى ليالي رمضان.
النموذج الثاني هي مدينة القيروان في تونس الحالية، والتي دخلت الأسطورة في أحداث تأسيسها على يد التابعي عقبة بن نافع الفهري، والي إفريقية في سنة 50هـ، فبحسب ما هو شائع، فإن عقبة لما وصل لموضع مدينة القيروان وعزم على اتخاذها قاعدة للعرب الفاتحين، وجدها مليئة بالوحوش والهوام بما يستحيل معه سُكنى البشر، فقام منادياً بأعلى صوته: «أيتها الحيات والسباع، نحن أصحاب رسول الله، ارحلوا عنا إنا نازلون، ومن وجدناه بعد ذلك قتلناه، فنظر الناس في ذلك اليوم إلى السباع تحمل أشبالها، والذئاب تحمل أجراءها، والحيات تحمل أولادها، فأسلم الكثير من البربر، ونادى عقبة في الناس كفوا عنهم حتى يرتحلوا عنا»، وذلك حسبما يذكر ابن الأثير في كتابه «الكامل في التاريخ».
الأسطورة تزداد عمقاً وحضوراً من خلال التأكيد على خلو القيروان التام من أي من تلك الهوام، إذ ورد في بعض المصادر، ومنها على سبيل المثال رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وإفريقية لأبي بكر عبد الله بن محمد المالكي، «أن أهل إفريقية أقاموا بعد ذلك أربعين سنة ولو التمست حية أو عقرباً بألف دينار ما وجدت».
وكعادة الأساطير التي تربط بين المدينة ومسجدها الجامع، في إشارة للارتباط الوثيق المنعقد بين المدنية والعمران من جهة، والشعائر والطقوس الدينية من جهة أخرى، فإن الأسطورة تختار عقبة بن نافع مرة أخرى ليكون بطلها، فعندما يعجز المسلمون عن تحديد اتجاه القبلة، يسمع عقبة في منامه من يحدثه قائلاً: «إذا أصبحت فخذ لواءك في يدك واجعله في عنقك، فإنك تسمع بين يديك تكبيراً لا يسمعه أحد غيرك، فانظر الموضع الذي ينقطع عنك فيه التكبير فهو قبلتك ومحرابك، وقد رضي الله لك أمر هذا العسكر وهذا المسجد وهذه المدينة، وسوف يُعِزُّ الله بها دينه، ويذل بها من كفر به»، وهكذا يستيقظ عقبة من منامه ويتوجه للمسجد الجامع منتظراً تحقق الرؤيا المنامية، «فلما انفجر الصبح، وصلى ركعتي الصبح بالمسلمين، وإذا بالتكبير بين يديه، فقال لمن حوله: أتسمعون ما أسمع؟ فقالوا: لا. فعلم أن الأمر من عند الله تعالى، فأخذ اللواء فوضعه على عنقه، وأقبل يتبع التكبير حتى وصل إلى موضع المحراب فانقطع التكبير. فركز لواءه وقال: هذا محرابكم، فاقتدى به سائر مساجد المدينة، ثم أخذ الناس في بناء الدور والمساكن والمساجد، وعمرت وشد الناس إليها المطايا من كل أفق، وعظم قدرها…» وذلك بحسب ما يذكر ابن عذاري في كتابه «البيان المغرب».
أما النموذج الثالث لأساطير تأسيس المدن في المُتخيل المذهبي السني، فيتمثل في مدينة فاس، والتي تم بناؤها كقاعدة للمغرب الأقصى في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري/ القرن الثامن الميلادي، في عصر دولة الأدارسة.
إذا ما تغافلنا عن الشكوك التي تحيط بالهوية المذهبية للأدارسة الأوائل، وأيدنا الرأي الذاهب إلى اعتناقهم التسنن مع مسحة علوية معتزلية، فإنه يمكن القول إنه ورغم الاختلاف الكبير السائد بين المؤرخين حول تحديد هوية باني ومؤسس مدينة فاس، وتحديد توقيت بنائها، فإن واحدة من أشهر الأساطير المرتبطة ببناء وتأسيس المدن كانت تلك التي اتصلت ببناء مدينة فاس.
تذكر الأسطورة الشائعة أن الإمام إدريس الثاني لما وصل لموضع مدينة فاس صادف راهباً عالماً من أهل الكتاب، وأن الراهب قد سأل إدريس عن اسمه وصفته، فلما أجابه، قال له الراهب إنه قرأ في بعض الكتب السماوية أن إدريس الثاني هو الذي سيبني مدينة فاس، فقال له إدريس عندئذٍ: «أنا إدريس بن إدريس، وأنا بانيها إن شاء الله تعالى»، وشرع بعدها في بناء المدينة، وذلك بحسب ما يذكر أبو العباس أحمد بن عبد الحي في كتابه الدر النفيس والنور الأنيس في مناقب الإمام إدريس بن إدريس.
الأسطورة تحيط أيضاً بالأصل الذي جاء منه اسم المدينة، إذ ذهبت بعض الآراء إلى أن اسم فاس قد اُقتبس من نبوءة الراهب، أو أنه اشتُق من الفأس الذهبي الذي استعمله الإمام إدريس بن إدريس أثناء مشاركته العمال في بناء المدينة.
وكعادة الكثير من الأساطير التي تحاول أن تربط بين المدينة المحدثة من جهة وبشارات الرسول من جهة أخرى، فإننا نجد بعض المصادر المغاربية التي تنقل عن الصحابي أبي هريرة، قول الرسول: «ستكون بالمغرب مدينة تسمى فاساً؛ أقومُ أهل المغرب قبلة، وأكثرُهم صلاة، أهلها على السُّنة والجماعة ومنهاجِ الحق، لا يزالون متمسكين به، لا يضرُّهم مَن خالفهم، يرفع الله عنهم ما يكرهون إلى يوم القيامة»، وهكذا تتمدد الجذور التاريخية المُتخيلة لفاس حتى تصل لعصر النبوة والرسالة.
في السياق نفسه، بالغت بعض المصادر في وصف حسن وبهاء مدينة فاس، للدرجة التي قربت الوصف من الأساطير والخرافات، ومن ذلك ما ذكرته بعض الروايات المُمتدحة لماء نهر مدينة فاس، من كونه يزيد القدرة على الجماع، وينظف الملابس بغير صابون، ويخرج منه الصدف «الذي يقوم مقام الجوهر النفيس، تباع الحبة منه بمثقال ذهب وأقل وأكثر، وذلك لحسنه وصفائه وحسن جرمه».
في المُتخيل المذهبي الشيعي
تحظى أحداث تأسيس المدن بأهمية خاصة في المُتخيل المذهبي الشيعي التقليدي، إذ ربطت السرديات الشيعية بين بعض المدن المهمة عند الشيعة الإمامية –الاثنا عشرية والإسماعيلية- من جهة، والعديد من الأئمة من ذوي المكانة المعتبرة والمقام المهم من جهة أخرى.
من أهم المدن التي تناولتها الأساطير وربطتها بالمعتقدات الشيعية الاثنا عشرية، كل من الكوفة والنجف وكربلاء وقم. على سبيل المثال، تم ربط مدينة الكوفة بواحدة من أهم الأحداث المركزية في عصر النبوة، ألا وهي حادثة الإسراء والمعراج، فبحسب ما ورد في الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني «أن رسول الله لما أسرى الله به قال له جبرائيل: تدري أين أنت يا رسول الله الساعة أنت مقابل مسجد كوفان، قال: فاستأذن لي ربي حتى آتيه فأصلي فيه ركعتين، فاستأذن الله عز وجل فأذن له»، وهكذا تحظى الكوفة التي أُسست في العام السابع عشر للهجرة على أرجح الأقوال بدور فعال في سيرة الرسول.
أما مدينة النجف الأشرف –القريبة من الكوفة- فقد ارتبطت أهميتها في المُتخيل الشيعي بكونها المدينة التي احتضنت جثمان الإمام الأول علي بن أبي طالب، وتبدو الأسطورة واضحة في اختيار موضع المدينة التي بُنيت حول المرقد الشريف، إذ ذكرت مجموعة من المصادر الشيعية أن هذا الاختيار قد تم بشكل إلهي غيبي بحت، وهو ما يظهر في الوصية المنسوبة إلى علي بن أبي طالب، والتي كان مما جاء فيها بحسب ما يذكر المجلسي في كتابه بحار الأنوار: «… أن أخرجوني إلى الظهر فإذا تصوبت أقدامكم واستقبلتكم ريح فادفنوني، وهو أول طور سيناء ففعلوا ذلك». قداسة النجف تأكدت من جراء الاعتقاد السائد في الأوساط الشيعية بكونها تحتضن مدافن عدد من الأنبياء، ومنهم آدم ونوح وهود وصالح، كما تنقل بعض الروايات الشيعية أن سفينة نوح قد رست بالقرب من المدينة عقب انتهاء الطوفان.
الملمح الغيبي نفسه يظهر في الأساطير التي تناولت تأسيس وعمران مدينة كربلاء، والتي تُعدُّ واحدة من أهم المدن مكانةً وتقديساً في المذهب الشيعي الإمامي، وذلك بسبب ارتباطها بمأساة الحسين بن علي واستشهاده في أرضها في العاشر من محرم عام 61هـ.
كربلاء لاقت اهتماماً متعاظماً من الشيعة منذ تلك الحادثة الأليمة، فتم تشييد ضريح كبير للحسين، وشُيد ضريح آخر لأخيه «أبو الفضل العباس»، واعتاد الشيعة من داخل العراق ومن الدول المجاورة له على زيارة تلك المراقد المقدسة بأعداد هائلة، حيث وردت العديد من الروايات والأحاديث التي تشجع على زيارة ضريح الحسين، ومن ذلك ما ورد عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: «زِيارَةُ الحُسين بن علي واجبة على كل من يقرُّ للحسين بالإمامة من الله عزَّ وجلَّ»، وقوله في موضع آخر: «زِيارةُ الحسين تعدل مِائة حَجَّة مَبرورة، ومِائة عمرة مُتَقَبَّلَة».
من جهة أخرى أبرزت الأسطورة العوائق والتحديات التي تعرضت لها كربلاء في بداية عمرانها، ولا سيما تلك المنبثقة عن العداء المتوارث بين الخلفاء وأئمة الشيعة، ومن ذلك أن الخليفة العباسي المتوكل على الله قد أمر بعض أتباعه بهدم مرقد الحسين، ولكن التابع فشل في مهمته، وبرر ذلك لبعض السائلين، بحسب رواية المجلسي في البحار: «…إن بموضع القبر قوماً قد حالوا بيننا وبين القبر، وهم يرموننا مع ذلك بالنشاب فقمت معهم لأتبين الأمر، فوجدته كما وصفوا، وكان ذلك في أول الليل من ليالي البيض، فقلت: ارموهم فرموا فعادت سهامنا إلينا فما سقط سهم منا إلا في صاحبه الذي رمى به، فقتله».
في السياق نفسه، استمدت مدينة قم الإيرانية قداستها في الوجدان الشيعي، لكونها المكان الذي دُفنت فيه السيدة فاطمة المعصومة، أخت الإمام الثامن علي الرضا في 201هـ/ 816م.
العامل الأول الذي أسهم كثيراً في عمران مدينة قم تمثل فيما ورد من روايات في فضل زيارة المعصومة في العديد من الكتب الشيعية، فعلى سبيل المثال يروي المجلسي في بحار الأنوار عن الإمام الرضا أنه قال في فضل زيارتها: «مَنْ زارها عارفاً بحقها فله الْجَنَّة»، كما أن النوري الطبرسي يذكر في كتابه مستدرك الوسائل أن الإمام جعفر الصادق قال: «إنَّ لله حرماً وهو مكَّة، وإنَّ للرسول حرماً وهو المدينة، وإنَّ لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، وإنَّ لنا حرماً وهو بلدة قم، وستُدفن فيها امرأة من أولادي تسمَّى فاطمة، فمن زارها وجبت له الجنَّة». أيضاً ساعدت بعض المزارات الأخرى في تنشيط عمران قم، ومن أهمها مسجد جمكران الذي يقع في الجنوب الشرقي من مدينة قم، والذي تروي الكتب الشيعية أنه قد بُني بأمر مباشر من المهدي محمد بن الحسن العسكري.
على الجهة المقابلة، نجد أن الكثير من الأساطير قد ارتبطت بمدن ومعاقل الشيعة الإسماعيلية، والتي تقف كل من المهدية والقاهرة وقلعة آلموت على رأسها.
فيما يخص مدينة المهدية -وهي أولى عواصم الدولة الفاطمية- فقد شاع في المصادر التاريخية أن مؤسسها الخليفة الفاطمي الأول، عُبيد الله المهدي، كان عنده علم غيبي حدثاني بقيام قائم على ذريته وخلفائه، وبحسب ما ورد في كتاب رحلة التجاني فإن المهدي قد بحث عن مكان لبناء مدينته «وأقام يلتمس ذلك مُدَّة، فلم يجد موضعاً أحسن ولا أحصن من موضع المهدية، فبناها هنالك، وجعله دار مملكته»، بحسب الرواية المشهورة، فإن المهدي لما أتم بناء مدينته، استدعى أحد أتباعه وأمره أن يرمي بقوسه إلى أبعد مكان ممكن، فلما سقط السهم في مكان بعيد، قال المهدي لأصحابه: «إلى ذلك الموضع ينتهي صاحب الحمار»، وأمر بعدها بقياس مسافة هذه الرمية، فكانت «مائتي ذراع وثلاثاً وثلاثين ذراعاً، فقال المهدي: هذا منتهى ما تقيم المهدية في أيدينا من السنين».
المؤرخون اعتادوا أن يربطوا بين تلك النبوءة الغامضة والثورة التي ستقوم فيما بعد في زمن حكم محمد القائم بأمر الله، وستستمر لمدة ثلاث عشرة سنة كاملة، إلى أن تنتهي في زمن حكم المنصور بالله 334هـ-341هـ. وكان قائد هذه الثورة هو مخلد بن كداد اليفرني، المشهور بأبي يزيد صاحب الحمار.
أما العاصمة الفاطمية الثانية، القاهرة، فقد تعرضت لها الأسطورة المشهورة التي ذكرت أن المنجمين قد اجتمعوا مع العمال إبان العمل على بناء القاهرة، وكان من المفترض أن يعطي المنجمون إشارة البدء في العمل عن طريق شد الحبال التي عُلقت الأجراس في نهايتها، ولكن صادف أن غراباً قد وقف على الحبل وجذبه بمنقاره فتحرك الجرس وسمع العمال صوته فبدأوا العمل، وكان كوكب المريخ في هذه اللحظة في شدة سطوعه في السماء، فسميت المدينة بالقاهرة نسبة لكوكب القاهر، وهو الاسم الذي كان المريخ يُعرف به في تلك الفترة.
النموذج الشيعي الإسماعيلي الثالث للمدن التي دخلت الأساطير في قصة تأسيسها، هي قلعة آلموت في إيران، والتي كانت مركز حكم جماعة الإسماعيلية النزارية بقيادة زعيمها الغامض الحسن بن الصباح الحميري المتوفى 518هـ.
تظهر ملامح الأسطورة فيما ذكرته عدد من الكتابات المتأخرة والتى ذكرت أن استيلاء الحسن بن الصباح على القلعة قد وقع عن طريق احتياله على صاحبها بحيلة ماكرة، وهي تلك المعروفة بحيلة ديدو، وملخص تلك القصة أن الحسن، الذي وصل إلى القلعة متخفياً في زي شيخ صوفي زاهد، قد قابل حاكم القلعة، وطلب منه أن يبيعه مكاناً أو قطعة أرض فى القلعة بمقدار سلخ بقرة حتى يتفرغ للعبادة فيها، وبعد موافقة الحاكم فإن الحسن قام بتقطيع جلد البقرة إلى حبال رفيعة جداً، وقام بربطها ببعضها البعض حتى أصبح الحبل طويلاً جداً، ثم قام بإحاطة القلعة بهذا الحبل، وطالب حاكم القلعة أن يفي بوعده ويترك القلعة، فرضح الحاكم لطلبه وترك القلعة.
في المُتخيل المذهبي الإباضي
على العكس من بقية الأنساق المذهبية الإسلامية التي اهتمت كثيراً بإبراز الأساطير والرموز الغامضة والأمور الخارقة للطبيعة، تشكل المُتخيل المذهبي الإباضي دون اهتمام يُذكر بالنبوءات والغيبيات.
على سبيل المثال، لم يعرف المُتخيل الإباضي شخصيات نهاية الزمان والملاحم، من أمثال كل من المهدي المنتظر والمسيح الدجال، ولم يعترف هذا المُتخيل بعودة المسيح عيسى ابن مريم مرة أخرى إلى الدنيا.
تأسيساً على ما سبق، لم يكن من الغريب أن نعدم أي ارتباط يُذكر بين تأسيس المدن الإباضية من جهة والأساطير والنبوءات من جهة أخرى، ولم يشذ عن هذه القاعدة إلا مدينة تاهرت عاصمة الدولة الرستمية في المغرب الكبير.
بحسب المصادر الإباضية، فإن تأسيس عبد الرحمن بن رستم، الأمير الأول للدولة الرستمية، لمدينة تاهرت في سنة 160هـ، قد ارتبط بأسطورة مشهورة، ذلك أن الرستميين لما عزموا على عمارة موضع تاهرت، وعاينوا ما بها من الوحوش، فقد «أمروا منادياً ينادي إلى من بها من الوحوش والسباع والهوام: أن اخرجوا، فإنما أردنا عمارة هذه الأرض، وأجلوا لها أجلاً ثلاثة أيام، فبلغنا أنهم رأوا الوحوش تحمل أولادها بأفواهها خارجة منها، فزادهم ذلك ترغيباً في عمارتها، وزادهم بصيرة في إنشائها…».
من الواضح أن هذه الأسطورة قد تأثرت كثيراً بأسطورة بناء مدينة القيروان على يد التابعي عقبة بن نافع الفهري، وربما وقعت المشابهة بين القصتين بسبب المنزلة العظيمة التي حظيت بها مدينة تاهرت لعشرات السنوات المتتابعة في القرنين الثاني والثالث الهجريين، للدرجة التي وضعتها في مقارنة واضحة مع القيروان، أعظم مدن إفريقية الإسلامية.
في المُتخيل المذهبي الصوفي
حظيت قصص تأسيس وعمران المدن بالكثير من الاهتمام في المُتخيل الصوفي التقليدي، إذ أسهمت العلاقة المنعقدة بين بعض الصوفية والمدن التي سكنوها في إسقاط البعد الغيبي على سرديات التطور العمراني لتلك المدن، ومن الأمثلة الدالة على ذلك مدينتا طنطا ودسوق بمصر.
المدينة الأولى هي مدينة طنطا، التي نزلها الصوفي المعروف السيد أحمد البدوي المتوفى 675هـ في بدايات القرن السابع الهجري، بعد قدومه من المغرب، فاتخذها مستقراً له، ولم يمر وقت طويل، إلا وقد أضحت طنطا محطاً لأنظار المتصوفة وأهل العرفان، فقدموا إليها من كل صوب للتحلق حول مقام البدوي، ولانتهاج نهجه، مدفوعين في ذلك بما شاع من أساطير حول هذا المقام، ولعل أشهرها القول بأن البدوي قد اعتاد على الحديث مع بعض زواره بعد مماته، وأنه كان يبشرهم بالكثير من الأمور العظيمة المفرحة، مثل زواج البنات ورد الأسرى.
الروايات الصوفية الأسطورية، وضعت طنطا في واحدة من الرؤى الشهيرة المنسوبة للبدوي، والتي تؤكد أن اختيار تلك المدينة لم يقع عن طريق الصدفة، بل كان أمراً مخططاً له سلفاً، إذ يذكر الشعراني في طبقاته أن البدوي قد سمع في المنام قبل أن يأتي إلى مصر هاتفاً يقول له: «يا أحمد سر إلى طنطدتا فإنك تقيم بها وتربي بها رجالاً وأبطالاً: عبد العال وعبد الوهاب وعبد المجيد وعبد المحسن وعبد الرحمن…».
في السياق نفسه، حرصت الروايات الأسطورية على إظهار وفود الزيارات السلطانية إلى طنطا لتعظيمها وتعظيم البدوي، ومن ذلك ما شاع: «وكان الملك الظاهر بيبرس، أبو الفتوحات، يعتقد في سيدي أحمد، اعتقاداً عظيماً، وكان ينزل لزيارته، ولما قدم من العراق، خرج هو وعسكره من مصر، فتلقوه وأكرموه غاية الإكرام».
أما المدينة الثانية فهي مدينة دسوق، التي تقع في شمال الدلتا، وارتبطت في الثقافة الصوفية بالعارف بالله سيدي إبراهيم الدسوقي المتوفى 696هـ، الذي يعتبره الصوفية آخر الأقطاب الأربعة الكبار، وينسبون إليه الكثير من الكرامات، التي يتضافر أغلبها في التأكيد على المكانة العالية التي تحتلها تلك المدينة الصغير الهادئة في الثقافة الصوفية الجمعية.
من أهم تلك الأساطير ما ورد في كتاب طبقات الشرنوبي، من أن السلطان المملوكي الأشرف خليل قد ذهب بنفسه إلى دسوق، وعرض على الدسوقي أن يشغل منصب شيخ الإسلام، ولكن القطب الصوفي رفض العرض، وطلب من السلطان أن يوقف نصف الجزيرة المقابلة لدسوق، للإنفاق على أتباعه من الفقراء والمساكين، وهو الأمر الذي امتثل له السلطان من فوره. أيضاً تحكي الأساطير الشعبية عن حماية الدسوقي لمدينته، وأنه قد وقف بالمرصاد للتماسيح والوحوش التي تحيط بالمدينة، وهو الأمر الذي تسبب في عمرانها مع مرور الأيام.