كم «نِصف فرَنك» دفعت اليوم؟
كان لا يزال شابًا يحلم بغد أفضل لموهبته الأدبية، ولكنها كانت أيامًا حالكة لم تدع له الفرصة حتى لالتقاط الأنفاس. بعد شهور من العمل الحكومي انتهت بالرفد وشهور أطول من طرق أبواب دور الصحافة الأحط قدرًا والأضيق سعة من «غرز» الحشيش، كانت المحصلة لا ترقى حتى أن تكون صفرًا. في هذا الوقت كان «محمود السعدني» يغتر ببعض شبابه و تتملكه كثير من الرعونة في تصرفاته، يتذكر أيامه تلك وكيف كان دائم التردد على كازينو شهير لا يرتاده إلا الصحفيين وخاصة صغارهم أمثاله. في البداية كان يفتخر بنفسه كثيرًا مما جلب له الحقد والغيرة من أكثرهم، وحين حلكت الأيام صار كالفأر الأجرب لا يجد ترحابًا في تجمعاتهم، وكلما زادت الأيام حلكة و زاد نفورهم منه زاد هو إصرارًا على أن يرد بعضًا من كرامته بأية طريقة ولو بالحيلة الكذوب.
يروي هو بنفسه القصة: حين كان لم يكن يملك في جيبه سوى «نصف فرنك» لقاء أرخص مشروب في هذا الكازينو؛ القهوة، حينها «رسم» نفسه ودخل يتبختر أمام «الشلة» إياها متظاهرًا أنه لا يهتم بوجودهم، ثم اتخذ مجلسًا على أقرب طاولة منهم طالبًا القهوة، ربما طلبها بزيادة سكر، لكنه لم يكن يعلم أنها ستكون أمر قهوة يشربها طوال حياته، وبعدها تعمّد أن ينادي على أحد الصحفيين حديثي العهد بالكازينو مصطنعًا معه حديثًا عابرًا ليتعمد أن يرفع من صوته في آخر جملة «يبقى عدي عليا كده عشان أشوفلك شغلانة في الجورنال الجديد اللي شغالين عليه». كانت الجملة واضحة، لفتت انتباه الجميع، الصعلوك أصبح مؤسسًا لجريدة ويملك أن يوظف من ينال رضاه. هنا فغرت الأفواه وللحظات كان «السعدني» محط غبطة الجميع، لقد نال الولد الشقي ما كان يريد وحان وقت الانسحاب من المشهد.
ببساطة طلب الحساب، فأتاه النادل ليخبره أن يسدد فاتورة يعلمها السعدني من قبل؛ «نصف فرنك»، وحينها وضع يده في جيبه الأيمن، الأيسر، الخلفي، يكرر المحاولة أكثر من مرة، لقد اختفى النصف فرنك من الوجود، وهنا بدأت ملامح التوتر تظهر عليه وصار يتصبب عرقًا من فرط الخجل، لحظات وحتى تتكشف أمام الجميع اللعبة وكرامته التي أراد أن يستردها سيبددها للأبد، وفي لحظة مفاجئة له هو شخصيًا تفاجأ بالنادل ينحني على الأرض يلتقط بعضًا من الرمل في يديه ويقول بصوت واضح «أهه خلاص لقيته، شكرا»، ويبتسم بهدوء شديد وينسحب وقد التقط أغلى من «نصف فرنك»؛ لقد التقط كرامة الرجل. حتى أن السعدني بعدها يعترف أنه حاول الانتحار من شظف الحال، ولو لم يكن هذا «النادل» التقط حفنة الرمل لربما التقطت جثته قوات الشرطة النهرية من النيل.
في حياتك هناك من سيلتقط لك أنصاف الفرنكات، وهناك من سيصر على أن يسلبك إياها. لربما كان من أسباب كرهي للتعليم الإلزامي كلمة عابرة من مدرّس تعمد إحراجي أمام باقي رفقائي، إصراره على أن ينادينا بالعيال. لا زلت بعد كل السنوات أتذكر أحد المدرسين في مرحلتي الإعدادية وكيف رمى لي دفتري في الأرض لأني لم أكتب تاريخ الدرس مهينًا إياي بين رفقاء الفصل، فأتذكر الموقف وأتعجب، ما ضرّه لو التقط لي نصف فرنك يومها؟.
أوجد مجموع الأرقام القابلة للقسمة على 9 بدون باقٍ، والواقعة بين رقمين (X,Y)، مسألة غاية في التفاهة برمجيًا، كانت من نصيبي في الواجب المنزلي بعد ثالث محاضرات البرمجة بعد أن كنت بدأت أرى نفسي في المجال، جاءت هذه المسألة لتقضّ مضجعي بمعنى الكلمة. اقترب موعد تسلّم الحلول وأنا لم أكتب سطرًا واحدًا يشفع لي. حينها أتذكر المعيد -وقتها- «علاء زكي» حين لمح على وجهي أمارات التشتت، و لم يكن بيننا أي سابق معرفة، فاستوقفني يسألني عن حالي وضغط علي لأعترف له أني لم أتمكن من فهم حل المسألة حتى اليوم. فببساطة شديدة أمسك بقلمه و خط بعض الإرشادات في أقل من دقيقتين، فصار الصعب بسيطًا، هو دفع نصف الفرنك الذي لم يكلفه شيئًا، ومنحني ما أبقاني متعلقًا بمجالي الذي برعت فيه بعدها؛ البرمجة. وفيما بعد اكتشفت أن هذا الرجل لا يعي ما تفعله تلك النصف فرنكات في طلبته؛ بسمة عابرة، التضحية ولو بدقيقتين من الوقت يشعر فيها الطالب أنه ذو شأن لدى أستاذه، كلها أنصاف فرنكات كان جيبه عامرًا بها طوال اليوم حتى ولو كان راتبه متأخرًا ولديه من المشاكل في العمل الكثير، فذلك لم يكن يمنعه أن يتأكد أن لديه ما يكفي من الفرنكات ليمنحها كلما سنحت الفرصة.
لا تنس أن تخرج كل يوم وفي جيبك أنصاف فرنكات تبعثرها في طريقك، تمنحها للأصغر منك خبرة في كلمة تقدير قبل أن تمليَ عليه ملاحظاتك المرهقة، أن تمنحها لموظف خدمة العملاء الذي قادته الظروف إلى أن يقبض حفنة قروش ليجلس يتلقى
سبابًا» لا استفسارات العملاء حول مشاكل مزمنة بسبب شجع الشركة الكبيرة لا الموظف المغلوب على أمره، أن تمنح أنصاف فرنكات لرفيقك وزوجك في كلمات عابرة، أن تمنح نصف فرنك لطفلك فتفتخر به أمام أقرانه في العائلة وتضحك لنكاته الطفولية الساذجة، أن تهب الفرصة الثانية والثالثة طالما لن تكلفك شيئًا، أن تمتنع عن ممارسة جلد الذات ولو لمرة في السنة مع نفسك، فهي أيضًا تستحق نصف فرنك.
لربما نقلل من شأن الأمر فنقول «نصف فرنك» ولكن فرنكات الكرامة لطالما كانت سلعة نادرة، والأصعب من كونها نادرة أنها لا تعترف بقوانين التجارة؛ فقد تدفعها بسخاء فلا يعود لك منها إلا القليل في حياتك، و تنالها دون مقابل فتتساءل كيف استحققتها، وربما تدفع نصف فرنك فيغتر الناس بك فيطلبون الملايين بدون مقابل، المهم أن تتعود أن تنظر بين الحين والآخر إلى محفظتك؛ هل تملك ولو نصفًا واحدًا تقدمه لمن حولك اليوم؟