هنا مرّ المسيح وصلاح الدين: كم مرة هُزمت إسرائيل في جنين؟
من جديد يعود مخيم جنين إلى الواجهة، بعدما كان شاهدًا على مقتل الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، وليتكرّر اقتران اسم المخيم بهزيمة أخرى توجّهها فصائل المقاومة للجيش الإسرائيلي.
وبالحادث الأخير يُضاف إلى تاريخ جنين سطر جديد في تلك المدينة المناضلة التي عُرفت بِاستبسالها في التصدّي للإسرائيليين عامًا بعد عام.
يقول الباحث الفلسطيني زكريا محمد: مخيم جنين أوشك أن يقدم نموذجًا ينسف النظريات الأمنية الإسرائيلية من أساسها، وأن يعيد تثبيت فكرة التجمع الذي لا يقتحم. فقد قدم هذا المخيم أقصى ما يمكن أن تقدمه منطقة مغلقة، واصلاً بالأمور إلى حد التذكير بأساطير المدن المقاومة. صحيح أنه نموذج مصغر، لكنه نموذج محبط بالنسبة إلى نظرية الحرب الإسرائيلية الجديدة.
جنين: عبقرية المكان
أمّنت الجغرافيا لمدينة جنين موقعًا استراتيجيًا في قلب فلسطين جعلتها قريبة من مُدن حيفا (تبعد عنها 50كم وحسب) ونابلس (تبعد عنها 40كم) والناصرة (تبعد عنها 25كم)، وهو ما أجبر أي قائمٍ على حُكم فلسطين على الاهتمام بجنين كمركز مواصلات حيوي للبلاد، وهو ما أظهره البريطانيون من خلال اهتمام بتعبيد طُرقها في فترة مُبكرة جدًا.
ونتيجة لهذا الموقع المهم للمدينة ورد اسمها في العديد من الآثار المصرية والآشورية والبابلية، كما وردت في التوراة بِاسم «عين جانيم» كمدينة كثيرة البساتين أُنشئت بجوار مدينة «بلعمة» الأثرية. في العهد الكنعاني عُرف المدينة بالاسم التوراتي «عين جانيم»، وفي عصر الرومان تغيّر الاسم إلى «جيناي»، وهو الاسم الذي تحوّل لاحقًا إلى «جينين»، وهو اللقب الذي كانت تحمله حين مرَّ السيد المسيح عليها خلال رحلته من القدس إلى الناصرة، وبعد الفتح الإسلامي طال الاسم المزيد من التخفيف وتحوّل إلى «جنين».
عام 1103م، وقعت المدينة تحت نير الاحتلال الصليبي، فتحوّل اسمها إلى «جراند جرين»، وأُلحقت إداريًا بمملكة القدس، وهو الوضع الذي انتهى عام 1187م عقب معركة حطين، والتي أعادت المدينة لسيطرة المسلمين، وعقب المعركة نزل صلاح الدين الأيوبي في المدينة، لكنها عادت إلى الصليبيين عام 1229م إثر اتفاقية الصُلح التي وقّعها الملك الكامل الأيوبي مع الأوروبيين، وفي عام 1244م تحرّرت مُجددًا وعادت للمسلمين في عهد الملك الصالح.
واشتهرت جنين في العهد المملوكي بكونها أكبر بلدة فلسطينية تحوي إقطاعيات مملوكة للأمير الظاهر بيبرس، وفي معيّة المماليك عاشت جنين أجواءً من الانفتاح التجاري بسبب موقعها المهم بين المُدن الكبرى.
كُتب علينا القتال
بسبب أهمية المدينة الاستراتيجية كانت هدفًا دائمًا لأي أطراف تتنازع سيادة فلسطين، وهو ما أوقع أهلها في لجّة الصراعات مبكرًا جدًا. في عام 1799م سانَد أهلها العثمانيون خلال إحدى هجماتهم على قوات نابويليون بونابرت التي سعت للاستئثار بالشام، ولما أفشل الفرنسيون تلك الهجمات صلّت القائد الشهير كليبر مدافعه على المدينة ودمّرها انتقامًا من أهلها.
وخلال الحملة المصرية التي نظّمها إبراهيم باشا على الشام، اهتمّ بالاستيلاء على جنين وعيّن عليها واليًا من قِبله، وإثر انتهاء الخلافات بين مصر وتركيا عادت الشام إلى الخلافة العثمانية التي اهتمت بوضع قوة عسكرية تابعة لها خلال الحرب العالمية الأولى.
وفي عام 1918م، ظفر البريطانيون بالمدينة بعدما انسحب منها العثمانيون من دون أي مقاومة. تحت الحُكم الإنجليزي ظهرت مبكرًا في جنين بوادر رفض مخططات الإنجليز لتهويد فلسطين، وفي عام 1929م حاول عبدالغني أو طبيخ اغتيال نورمان بنتويش السكرتير الثاني للمندوب السامي، وفي عام 1938م اغتال علي أبو عيون الحاكم البريطاني موفيت في مكتبه، وهو ما دفع الإنجليز للانتقام من جنين بهدم قرابة 150 بيتًا.
ومن رحم جنين خرج العديد من مقاومي الحركة الصهيونية، مثل الشيخ فرحان السعدي- ابن قرية المزار- أحد أحد أبرز رجال عز الدين القسام، والذي أُلقي القبض عليه وقُتل في سجن عكا. والشيخ عطية أحمد المصري أحد قادة معركة اليامون عام 1938م مع القوات الإنجليزية، وغيرهم كثير.
ومن أشهر معارك المقاومة التي شهدتها جنين، هي معركة «أحراش يعبد» التي قادها الشيخ عزالدين القسام ضد الإنجليز، والتي انتهت باستشهاد القسام بصحبة 4 من رجاله.
أما عن أشهرها على الإطلاق -بعد معركة 2002م التي سنشرح تفاصيلها لاحقًا- فهي المعارك التي استضافتها القرية عام 1948م، بعدما تمكّنت مقاومي المدينة بدعمٍ من القوات العراقية من منع العصابات الصهيونية من اكتساح المدينة مثلما جرى في باقي البلدات الفلسطينية، ولم تُقرُّ الهدنة إلا وجنين محررة بالكامل بفضل جهود العراقيين، وهو النصر الذي احتفى به محمود شيت خطاب قائد القوة العراقية في جنين شِعرًا بقوله:
نضال القضية
مع اندلاع انتفاضة الأحجار عام 1987م انتشرت احتجاجات واسعة في عموم التراب الفلسطيني احتجاجًا على دهس شاحة إسرائيلية لعمال فلسطينيين، سقط في المواجهات مع جيش الاحتلال قرابة 1432 شهيدًا منهم 150 شهيدًا من منطقة جنين، أما عن المخيم نفسه فخرج منه 16 شهيدًا.
شهدت هذه الفترة تراجعًا كبيرًا في استراتيجيات المقاومة المسلحة داخل منظمة التحرير الفلسطينية، ما أدّى لتبنّي قوى أخرى- خارج إطار المنظمة- خيارات المقاومة، وشهدت جنين البدايات الأولى لعددٍ من حركات المقاومة مثل: الفهد الأسود التابعة لحركة فتح، والنسر الأحمر التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكتائب القسام التابعة لحركة حماس.
بمرور الوقت تحوّل مخيّم جنين إلى مأوى لكافة القيادات العسكرية في تنظيمات المقاومة التي تُطالب إسرائيل بالقبض عليهم، لجأوا جميعًا إلى المخيم واحتموا بين جدرانه بعدما نفذوا- أو شاركوا في تنفيذ- عمليات عسكرية في الداخل الإسرائيلي أسقطت قرابة 146 إسرائيليًّا في شهرٍ واحد، أبرزها عملية فندق بارك في نتانيا التي قُتل فيها 30 إسرائيليًّا، وهو ما دفع الحكومة الإسرائيلية- في اجتماع رسمي- للاعتراف بأن المخيّم تحول إلى «عش دبابير».
يقول الباحث الفلسطيني زكريا محمد: إن تفاهمًا ما جرى بين السلطة والمطلوبين يقضي بأن السلطة لن تلاحقهم إلى المخيم. إنه تفاهم غريب حقًا، لكنه حدث على أرض الواقع فعلاً. فكل مطلوب من جانب السلطة تحت الضغوط الإسرائيلية، يستطيع أن يذهب إلى المخيم من دون أن يخشى اعتقال السلطة له. وعليه تكون السلطة وضعت هذا المخيم، بإرادتها أو بغير إرادتها، خارج سلطتها. لقد صار منطقة لا تنطبق عليها القوانين ذاتها.
وينقل زكريا عن أحد مقاتلي المقاومة قوله:
عملية الدرع الواقية
في عام 2002م بلغ صبر إسرائيل الزبى وأعلنت نيتها تنفيذ عملية عسكرية ضد المخيم، وعلى الرغم من مناشدة عددٍ من السياسيين الفلسطينيين المطلوبين بالخروج من جنين، مثلما فعل رمضان شلح رئيس حركة الجهاد الإسلامي، إلا أن هذا الطلب قُوبل بالرفض، وأصرَّت القيادات الحركية الفلسطينية على البقاء.
وبقيادة القائد يوسف ريحان، المعروف بلقب «أبو جندل»، اتّحدت الفصائل الفلسطينية في كيانٍ واحد لا يهدف إلا إلى الصمود في وجه الاجتياح الإسرائيلي المرتقب.
وفي نهاية مارس، أطلقت إسرائيل عملية «الدرع الواقية» التي اجتاحت بموجبها عددًا من المدن الخاضعة لسيطرة السُلطة الفلسطينية، وعلى رأسها مدينة جنين ومُخيمها.
وحتى الآن لا تزال معركة جنين تُخلّد ضمن أدبيات المقاومة الفلسطينية بعدما نجح المخيّم في الصمود أمام جحافل الجيش الإسرائيلي رغم افتقار المقاومين لأبسط المعدّات الحربية، واعتمدوا فقط على البنادق والمسدسات والقنابل ذاتية الصُنع، ولم تضع المعركة أوزارها إلا بعدما أصبح المخيم أسطورة نضال.
وبحسب ما نشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت» عن أحد الجنود الإسرائيليين المُشاركين في العملية: لم يكن باستطاعتك التنبؤ بمكان العبوات الناسفة. لقد حفر الفلسطينيون حفرًا في الأرض وزرعوا العبوات، كان كل شيء مفخخًا حتى جُدُر المنازل، كانت هناك عبوات ناسفة على الطرق وتحت الأرض وبين الجُدُر.
ويضيف:
- العدد 51 من مجلس الدراسات الفلسطينية
- معركة مخيم جنين: التشكيل والأسطورة، جمال مصطفى عيسى
- معركة مخيم جنين الكبرى 2022: التاريخ الحي، جمال حويل