كم مرة سقطت الخلافة الإسلامية؟
في الثالث من مارس/آذار عام 1924م أصدر المجلس الوطني التركي الكبير في أنقرة قراراً بإلغاء الخلافة العثمانية، بعد أن قام بإلغاء السلطنة قبلها بنحو ستة عشر شهراً، في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1922م، بزعامة مصطفى كمال، الملقب فيما بعد بـ«أتاتورك»[1].
اضطراب شديد وحزن عميق عَمَّا المنطقة والعالم، أعني به شعور المسلمين في أنحاء العالم، من جراء الصدمة التي كشفت– ولم تصنع- مقدار الهوان والخواء والتشرذم الذي كان يعيشه العالم الإسلامي منذ فترات طويلة، وكان يتمسك بالأمل أو يرضى بمجرد الرمز في مسألة الحكم الإسلامي أو الإمامة والخلافة.
لم يكن هول الصدمة وعلامات الحزن العميق قاصرة فقط على النخب والمثقفين من المُطَّلِعِين على الأحداث ومسبباتها في العمق التاريخي أو مآلاتها في المستقبل القريب أو البعيد، إنما أيضاً للعوام الذين هالهم سقوط كل شيء.
سقوط الخلافة الأموية
فعندما زالت الخلافة الراشدة، وآلت مقاليد الحكم إلى الأمويين، زال معها الشعور بقدسية المنصب وجلال اتصاله بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، وبدأت الشقة تتسع في افتراق الحكم عن شرعيته المتصلة بالله عبر خلافة رسول الله في القيادة المادية والمعنوية للمسلمين.
ثم زال الشعور بالأمان المجتمعي والسياسي عندما استهلت الخلافة العباسية عهدها بخصومة فاجرة ضد الأمويين وأشياعهم، وكل المنتسبين إليهم بالنسب أو المصاهرة والعمل الإداري والسياسي، أو حتى مجرد التعاطف جراء مشاركة وجدانية لما حَلَّ من المحنة وتبدل الحال، وليس تعاطفاً مع عهدهم وسياساتهم.
سقوط الخلافة العباسية
بعدها سقطت شرعية الخلافة العباسية –على الصعيد الديني- بشكل صارخ؛ عندما عجزت جيوش الخليفة عن حماية حجاج بيت الله والكعبة والمسجد الحرام من التعرض لمذبحة رهيبة على أيدي القرامطة، حتى بلغ الأمر بأبي سعيد الجنابي أن يقف على عتبة الكعبة صائحاً:
ويردم بئر زمزم بجثث القتلى، وينتزع ابنه طاهر الجنابي الحجر الأسود، فيظل عند القرامطة في بلاد البحرين أكثر من عشرين سنة[2]!
وقد تكرر هذا الحدث بشكل آخر في القرن التاسع عشر الميلادي، حيث تفصِّل وثائق الأرشيف موقف الدولة العثمانية والحركة الوهابية كلٍّ من الآخر، فالوهابيون يعرضون الإسلام من جديد على أهل مكة، والعثمانيون يرون الحركة الوهابية وقادتها خوارج. بينما بعض أمراء مكة من الأشراف يتقاتلون بالبنادق والمدافع حتى أصابت طلقاتهم الحجر الأسود فتكسَّرت منه قطع، وتوقفت الصلاة ولم يُرفع الأذان أياماً طويلة، في صراع صريح حول المناصب والإمارة، وليس تحت أي مسمى ديني أو غطاء أيديولوجي[3].
خلافة منزوعة الشرعية
ثم تتعدد الدول التي تدَّعِي الخلافة، تلك الخلافة التي صارت مجردة من أبعادها الدينية والشرعية وأهدافها الإسلامية والإنسانية العظيمة: القيادة المعنوية والسياسية لشئون المسلمين والناس أجمعين، وسلمية انتقال الحكم والسلطة إلى الأحق والأجدر، وكونها رمزاً للعدالة والوحدة، ومحاربة الفساد، وملاذ المظلومين.
تعددت الدول في المشرق والمغرب التي تدعي أحقيتها بمنصب الخلافة، وهو في أغلبه استجداء لشرعية منقوصة لا يدعمها إلا غَلَبَةُ السيف، ومحاولة لشرعنة حكم وحاكم يتلاعب بمشاعر الناس وعواطفهم الدينية، وقليلاً ما كان هؤلاء يستحقون اللقب، أو يعملون بمقتضى المنصب.
سقوط الخلافة الأندلسية
وتسقط الخلافة في الغرب، خلافة الأمويين في الأندلس، بعدما بنى المسلمون حضارة عظيمة في علومها وآثارها ومآثرها ونموذجيتها لأوروبا كلها، ثم يهدمونها بأيديهم، ويفقدونها شرعيتها عندما يتحولون إلى ملوك طوائف يقاتل بعضهم بعضاً بسيوف المسلمين، ثم يستعينون بأعدائهم –في الدين والسياسة والتاريخ والجغرافيا- ضد إخوانهم في الدم والدين والحكم؛ فتتحول الخلافة الأندلسية الأموية إلى طوائف مُستَذَلَّة تحت أقدام فرديناند وإيزابيلا، وغيرهما من ملوك إسبانيا والبرتغال السالفين، وتصبح مأساة المسلمين –ضحايا الخلافة وتخاذلها وخروجها عن الشرع والشرعية- واحدة من أخطر وأشهر مآسي الإنسانية في التاريخ الوسيط والحديث، مأساة المسلمين الموريسكيين، وتصبح معاناتهم مضرب المثل في الظلم، وهي محاكم التفتيش التي لم تنقطع ضد المسلمين في كل أركان العالم، مروراً بمذابح سربرنيتسا، وليس انتهاءً بمذابح مسلمي الروهينجا والأويغور.
الخلافة العثمانية
ثم يأتي العثمانيون مع بدايات مبشرة وأنموذج فريد يلفت الأنظار في الفتوحات الإسلامية وجهاد الصليبيين، وفتح البلدان ونشر العدل وتخليص الناس من جور الإقطاعيين الأوروبيين ليستظلوا بعدالة الإسلام في كنف آل عثمان، إبان قوة دولتهم التي كانت العدالة والمساواة عماد حكمها في أوروبا، وجعلت شعوب البلقان تدخل في دين الله أفواجاً، بعد أن عرفوا الجانب العملي والعلمي والعبادي والخدمي الرائع للإسلام والمسلمين، عبر قوافل المتصوفين العثمانيين وتكاياهم وزواياهم وخاناتهم في أعماق أوروبا، وما تزال قرى البلقان ومدنها تحمل أسماء مشايخهم وطرقهم وتكاياهم إلى الآن[4].
ذلك النموذج الإسلامي الذي حاول جاهداً أن يستحق منصب الخلافة قولاً وفعلاً وعملاً، حتى كان ملاذ الشعوب العربية في الاستغاثة من ظلم حكامهم، إذ لم تكن نظرة العرب حينها قومية ضيقة، ولم يعتبروا الأتراك العثمانيين أجانب مخالفين في القومية والعرق والجنس واللغة والوطنية والأيديولوجية؛ ما داموا مسلمون يقيمون العدل، فكانت رسائل الاستغاثة ودعوات التدخل من النُّخَب الدينية والشعبية في الشام والجزائر وتونس وجاوة (في إندونيسيا) تطالب السلطان العثماني بأن ينقذهم من حكامهم، أو أن يشملهم بحكمه ويحميهم من غزوات الدول غير المسلمة، وأن يجعلهم ضمن ممالكه العثمانية.
التدهور العثماني
وكما كانت الدولة العثمانية نموذجاً فريداً في صعودها وبنائها وإنجازاتها، كانت كذلك نموذجاً في ضعفها وتدهورها وسقوطها، فقد بدأت علامات الضعف وإشارات الخطر وهي في قمة عصرها الذهبي، في عهد السلطان سليمان القانوني، لكن متانة البناء وقوة الكثير من عناصره وأسسه – السلاطين والوزراء ورجال الدولة ومؤسساتها- كانت حزاماً حديدياً يواجه أعتى الضربات، وينقذها دوماً من الانهيار جراء الزلازل والأزمات الداخلية والخارجية.
أتاتورك والمسمار الأخير
ولم يكن قرار المجلس الوطني التركي الكبير بإلغاء الخلافة في 3 مارس 1924م هو الذي هدم الخلافة العثمانية والإسلامية حتى الآن، كما لم يكن قرارها السابق في 1 نوفمبر 1922م هو الذي هدم السلطنة العثمانية عندما ألغى السلطنة استعداداً لإعلان الجمهورية، كل ذلك لم يكن سوى دق المسمار الأخير في نعش السلطنة والخلافة، ولم يكن أتاتورك سوى الرجل الأخير في طابور طويل ممن قاموا بإلغاء الهوية وطمسها والتغريب والعلمنة التي مرت بمراحل كثيرة ومتجذرة في الدولة والمجتمع العثماني.
جدير بالذكر أيضاً أن الثالث من مارس من كل عام يحمل إلينا ذكرى أخرى ذات علاقة بإلغاء الخلافة، وإن شئت فقل هي واحدة من ذكريات إلغاء الهوية وفقدان البوصلة؛ إذ أصدر السلطان محمود الثاني «قانون القيافة» (الملابس/الزي) سنة 1821م، وجعل الملابس الأوروبية هي الملابس الرسمية والشعبية والتقليدية لجميع المواطنين[5].
ولعلها تذكرنا أيضاً بما قام به أتاتورك عندما أصدر «قانون القبعة» في 25 يناير/كانون الثاني سنة 1925م، وألزم الناس ارتداءها بدلاً من الطربوش الذي اعتبره رمزاً دينياً عثمانياً رجعياً يجب التخلص منه، وكان تطبيق القانون إلزامياً بعقوبات رادعة، كان أول ضحاياها الشيخ عاطف أفندي الإسكليبي، إذ صدر ضده حكم بالإعدام في 27 يناير/كانون الثاني 1926م[6].
بدايات السقوط
ويرى الكثيرون من دارسي الدولة العثمانية وفلسفة تاريخها وحركاتها الإصلاحية أن ما يسمى بخط كلخانة وفرمان الإصلاحات والتنظيمات، لم تكن سوى تكريس رسمي لتغريب الدولة، وخضوع لضغوط أوروبا الاستعمارية في علمنة الدولة العثمانية.
أتاتورك سبقه الكثيرون في إلغاء السلطنة والخلافة، بعضهم بحُسن نيَّة ودون إدراك وتبصر للعواقب، لكن حُسن النوايا لا يبني الدول ولا يمنع النتائج الكارثية، وربما لا يغفر لصاحب القرار أن يكتبه التاريخ في عِداد أصحاب الأثر السيئ، ممن أسهموا في تدهور الدولة.
«فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم»
خلاصة ما أريد قوله هو المعنى الذي حملته الآية الكريمة: «وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»[7]. أي أننا جميعاً مُتَّهَمون بإفساد النموذج، مُقَصِّرون في العمل على حفظ الكيان، مُسَاهمون في تدهور الأحوال، بصمت الجبان وتقصير غير العاجز واستخزاء المستكين وفُجر المنافق، فالجميع، حكاماً ومحكومين، من النخبة إلى العوام، مسئول بقدرٍ ما عن سقوط الخلافة، ومعه سقوط الدولة وسقوط الحضارة، وسقوط شخصيته وأسرته. ولست أدري من العبقري من أئمة الدين والإصلاح القائل: «أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم على أرضكم»[8].
ليس دفاعاً عن أتاتورك
لستُ هنا مدافعاً عن أتاتورك ورجاله، إنما محاولاً التنبيه إلى خطأ تاريخي ومنهجي، الخطأ التاريخي في إلصاق كل التُّهَم والمصائب بأتاتورك وحده، والخطأ المنهجي في تفكيرنا العاطفي الانفعالي الذي لا يدرك المتهمين الحقيقيين، بل يبحث عن مشجب يعلق عليه كل عناصر الجريمة، حتى لا يرهق نفسه في البحث عن الأسباب والدوافع، خائفاً من أن يجد نفسه أحد هؤلاء المتهمين. هذا المنهج الانفعالي لو أردنا تقييمه بشكل شرعي –كما يُقِيِّمُون الخلافة- لوجدناه مخالفاً تماماً للشرع؛ الذي يضع شروطاً كثيرة قبل أن يتهم السارق ويحكم عليه بقطع اليد، منها أن يكون صاحب الشيء المسروق قد وضع ممتلكاته في حرزٍ يمنعها من السرقة، ولم يبحها سهلة النوال لكل مار، كذلك توفير حياة كريمة لذلك السارق الذي ربما لم يجد ما يسد حاجته وجوعه إلا بالسرقة، وكثير من التفاصيل والشروط الأخرى في كتب الفقه والأصول.
الأحوال العامة في الدولة والمجتمع هي التي مهدت البيئة لظهور أتاتورك وأنصاره، وهي التي تركت الباب مفتوحاً لتدخل القوى الأجنبية في مقدرات الدولة العثمانية، وقرارات الكثيرين من السلاطين والوزراء التغريبيين، وتخاذل علماء السلطان، والانحراف العقدي في الطرق الصوفية، والفساد المستشري في الجيش لا سيما فرقة الإنكشارية، كل تلك الأسباب -وغيرها- هي التي هيأت الأرض لتنبت فيها بذور غريبة عن المجتمع الإسلامي وعاداته وتقاليده ومبادئ دينه الحنيف؛ فكان من الطبيعي جداً أن تكون الثمرة هي السقوط المعنوي للخلافة والسلطنة قبل سقوطها المادي والرسمي، رغم جهود السلطان عبد الحميد الثاني وغيره، ولكن ماذا تفعل جهود سلطان واحد في ثلث قرن لإصلاح سلطنة تأتيها الضربات من الداخل قبل الخارج، منذ قرون.
وأخيراً، يجب الحزن هنا على غفلتنا التي ربما تُسقِط الإسلام نفسه من قلوبنا، بعدما أُسقِط رمزه –الخلافة- وشعائره من مجتمعاتنا، تحت دعاوى مختلفة، ظاهرها فيها الرحمة وباطنها مِن قِبَلِها العذاب.
وأوجِّه الدعوة إلى القراء والباحثين والإصلاحيين والنهضويين إلى قراءة ودراسة ومحايدة للتجربة العثمانية في القيادة والريادة، وما تعرضت له من الضعف والتدهور، وجميع محاولاتها الإصلاحية، ما نجح منها وما فشل، لأنها تجربة تاريخية شديدة الثراء، لصيقة بتاريخنا الحديث والمعاصر في جذورها وثمارها؛ لعلنا نجد فيها عناصر جديدة للنهضة والإصلاح، تغنينا عن التخبط في البحث عن تجارب الشرق والغرب.
- يزعم الدكتور رضا نور في مذكراته أنه هو صاحب فكرة واقتراح إلغاء السلطنة، ولكنه كان ضد إلغاء الخلافة، انظر: أحمد الشرقاوي: أتاتورك ورفاقه ونهاية العثمانيين.
- الذهبي: سير أعلام النبلاء، 15/321.
- كمال خوجة أوغلو وأحمد الشرقاوي: الأشراف في وثائق الأرشيف العثماني، ص 156-158؛ C.DH.66/3271.
- للمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع انظر: محمد الأرناءُوط: دور الوقف في المجتمعات الإسلامية؛ محمد الأرناءُوط: دراسات في التاريخ الحضاري للإسلام في البلقان؛ محمد حرب: البوسنة والهرسك من الفتح إلى الكارثة.
- يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، 2/21.
- محمد حرب: العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص 231-236.
- سورة إبراهيم، الآية 22.
- ربما القائل هو شيخ الإسلام ابن تيمية، أو ابن القيم، أو غيرهما.