الليزر: من شعاع الموت إلى تنبؤات أينشتاين
منذ أن عاش «أرخميدس» حتى كتب «ويلز» روايات الخيال العلمي ظل شعاع الموت مهيمنا على المخيلة البشرية فيما يخص أسلحة المستقبل. لم يكن شعاع الموت Death ray أكثر من نسخة مكبرة من لعبة الليزر التي يلهو بها الأطفال الاّن، فقط ضاعف حجمها وقدرتها على إنتاج الشعاع الجبار، وها أنت تصنع المستقبل، شعاع من الطاقة الفتاكة المركزة بشدة في خط مستقيم طويل.
كثيرة هي الكلمات التي أصبح مدى تداولها واسعا رغم خلفيتها العلمية والتقنية المتخصصة. لكن يظل الليزر هو الكلمة الأسبق في الربط بين ميدان العلم البحت وميدان التطبيق الصناعي والهندسي وميدان الحياة اليومية. بين استخدامه للتحكم بالصواريخ وأجهزة القياس المعقدة إلى مؤشرات Pointers قاعات المحاضرات، هيمن الليزر على مساحة واسعة من مختلف أوجه الحياة.
فما هي طبيعة الليزر وكيف يصبح بالإمكان توليده وعلام يعتمد؟ تبدأ الإجابة من عند أينشتين.
أينشتين مرة أخرى
رغم أن نظريتي النسبية العامة والخاصة هما أشهر إنجازاته، فإن عقل «أينشتاين» لم يستطع أن يصنع ثورة في الفيزياء النظرية فقط، بل في التطبيقية أيضا. كان بور قد درس امتصاص الذرات للطاقة –الفوتونات- وإشعاعها للفوتونات الممتصة بشكل طبيعي بعد مرور زمن محدد life time حسب مستوى الطاقة، سميت هذه العملية بالانبعاث التلقائي Spontaneous Emission.
جاء أينشتين هنا لتضع عبقريته بصمة على هذا الشأن ليكتشف حدوث عملية غريبة. لنفترض أننا نمتلك ذرة مثارة –أي أنها قامت بامتصاص طاقة وصعد إلكترون منها من مستوى طاقة منخفض إلى مستوى طاقة أعلى-مسبقا، ماذا يحدث إذا قذفنا هذه الذرة المثارة بالمزيد من الطاقة والفوتونات التي تساوي فرق الطاقة بين مستوى الطاقة الأقل والمستوى الأعلى منه؟
بديهيا سنتوقع أن الإلكترون سوف يقفز للمستوى الأعلى مرة أخرى وهو ما يحدث بالفعل. إلا أنه أحيانا ما يحدث أمر مختلف تماما. ما نواجهه هنا هو أن الإلكترون المثار يمتص الفوتون الجديد ثم ينهار مباشرة ليشع فوتونين معا (الفوتون الأصلي والفوتون الذي امتصه وهو مثار).
هنا اكتشف أينشتين ما يطلق عليه الانبعاث المستحث Stimulated Emission.
ستظل الظاهرة التي تنبأ بها أينشتين عام 1917 مغمورة في أبحاث الضوء حتى عام 1958 عندما أتى شاولو وتاونز واستطاعا الإتيان بأساسيات توليد شعاع الليزر عن طريق التضاعف Ampilification. هذا التضاعف الذي سيأتي منه لفظ ليزر LASER، والذي لا يعني أكثر من مجموع الحروف الأولى من فكرة الجهاز: Light Amplification of Stimulated Emission Radiation أو تضخيم الضوء بواسطة إشعاع الانبعاث المستحث.
في هذا الفيديو تجد تاونز شخصيا يقوم بشرح تطور التقنية
هنا بدأت الستينيات وبدأت حقبة علوم الليزر بصناعة أول ليزر ياقوتي عام 1960 بواسطة مايمان، ثم أول ليزر غازي –هيليوم نيون- بواسطة يافان عام 1961.
نسخة مركزة من الطبيعة
إذن ما هو الليزر؟ لا يتعدى الليزر كونه ضوءا أو إشعاعا كهرومغناطيسيا. مع هذا فإن الليزر هو نوع خاص جدا من الإشعاع الكهرومغناطيسي وحالة مثالية جدا بالنسبة للضوء. يتمثل الليزر في حزمة من الإشعاع تسير موجاتها في انتظام شديد يدعى Coherence بحيث يمكن بمعرفة وضع أي موجة في هذه الحزمة توقع وضع وخواص أي موجة أخرى في نفس الحزمة.
يستطيع شعاع الليزر الحفاظ على هذا الترابط لمسافات بعيدة دون أن يعاني من انحراف Divergence أو تشتت يذكر، إذا قمت بتوجيه كشاف عادي على حائط فستلاحظ أن رقعة الضوء تتسع مع المسافة، أما الليزر فإنه يظل مركزا في نقطة كما صدر عن المكشاف الليزري الصغير في يدك.
تلك الميزة التي تجعله على قمة عالم القياسات في الآونة الأخيرة.
كيف إذن يمكن صناعة هذا الليزر؟ هذا الشعاع أحادي الطول الموجي ذو اللون الواحد الدقيق الذي لا يعني الانحراف ولا تشوبه شائبة؟ لننظر في المكونات الأساسية لجهاز ليزري معتاد.
إلى العمل
إذا نظرت إلى عمق الأجهزة المتقدمة المعقدة لتوليد الليزر فستجد أن المكونات الأساسية لها في النهاية واحدة. يختلف تطور كل جهاز عن الآخر في مدى كفاءة كل من هذه المكونات، إلا أن فكرة توليد الشعاع هي ذاتها دائما، عليك أولا أن تضخ بعض الطاقة.
تبدأ رحلة الليزر من مادة تدعى الوسط Medium، والتي قد تكون صلبة أو سائلة أو غازية أو مخلوط من الغازات أو حتى شبه موصل مكون من بلورتين. يتم تعريض هذا الوسط إلى مصدر طاقة ما –ضوئي أو كهربي– بحيث يتم إثارة ذراته وترتفع إلكتروناتها من المستوى منخفض الطاقة إلى مستوى طاقة أعلى.
لما يطلق على مصدر الطاقة هذا اسم مضخة Pump؟ يعود الأمر إلى أحد شروط تولد الليزر، وهو الانبعاث المستحث الذي تنبأ به أينشتين. ليحدث هذا الانبعاث يجب أن تحتوي مستويات الطاقة الأعلى في الذرات على عدد إلكترونات أعلى من عددها في مستوى الطاقة المنخفضة. يسمى هذا الوضع انقلاب الإشغال Population Inversion.
تستخدم المضخة في إجبار عدد أكبر من الذرات على الاستثارة، وبالتالي ضمان احتمالات أكبر لوجود إلكترونات في مستوى الطاقة الأعلى مما يعني رفع احتمالات الحفاظ على الانقلاب Population Inversion قائما.
مع استمرار ضخ الطاقة تصطدم الفوتونات بذرات مثارة بالفعل بشكل أكبر. تبدأ هذا الذرات بالانهيار De-excitation للمستوى الأقل للطاقة وينبعث منها فوتونان، الفوتون الممتص للإثارة في أول الأمر، والفوتون المصطدم بها وهي مثارة بالفعل. هكذا تكونت بذرة شعاع الليزر.
نقول بذرة لأن هذين الفوتونين فقط لا يمكن تسميتهما باسم ليزر. علينا أن نقوم بتضخيم الأمر. لهذا نضع الوسط بين مرآتين.
خرج الفوتونان من الذرة وسارا يدا بيد نحو المرآة الأولى التي ستقوم بعكسهما ليعودا مرة أخرى إلى الوسط ويصطدما بالمزيد من الذرات المثارة. هكذا تبدأ فوتونات أكثر وأكثر بالتولد، وكلها تمشي في خط واحد مع بعضها البعض مكونة الشعاع.
يستدعى الأمر وقفة هنا. كيف يمكن الاستفادة بالشعاع إذا كانت المرآتين قد حبستاه بينهما؟
الحل هنا بسيط للغاية. ماذا إذا كانت إحدى المرآتين عاكسة تماما بنسبة تصل إلى 99.99 بالمائة بينما كانت الأخرى عاكسة جزئيا؟ تلك المرآة العاكسة جزئيا Output Coupler ستؤدي لتسرب جزء كافٍ من الشعاع للاستخدام بينما يظل في داخل الوسط ما يكفي لاستمرار العملية التوليدية. حلت المشكلة.
بهذا الشكل يصبح لديك شعاع يمكنك بواسطته قياس المسافة بين الأرض والقمر، إجراء عمليات معقدة وخطرة للغاية، إجراء عمليات جراحية دون جراحة وغيره الكثير. رغم العمر القصير لتقنية الليزر فإنه يصعب تخيل أي تقنية حديثة لا تعتمد ولو جزئيا على الليزر بشكل ما. في وقته القصير بين أيدينا، استطاع الليزر أن ينير لنا الطريق مهما بعدت المسافة كما هي عادة تنبؤات أينشتين.
ملاحظة: إذا أردت الاطلاع أكثر على تفاصيل تقنية الليزر، ينصح بالرجوع إلى مرجع Orazio Svelto: Principles of Laser.