حائرًا بين العقل والعاطفة: كيف صورت «جاين أوستن» الحب؟
في ليلة وضحاها استيقظت الكاتبة الإنجليزية «جاين أوستن» لتهمس في أذن إحدى بنات أشقائها بهذه الكلمات، معلنة إنهاء خطبتها من الرجل الثري الذي كانت ستتزوجه، وأصبحت تلك الكلمات بعدها شعارًا رفعته في حياتها وحياة بطلات رواياتها، التي صورت فيها قيم الحب والزواج خلال المنظومة المجتمعية التي سادت في القرن التاسع عشر.
في روايات أوستن: «كبرياء وتحامل»، «العقل والعاطفة»، «إقناع»، و«إيما»، ظهر الحب حائرًا ما بين العقل والعاطفة، الكبرياء والصداقة، الانفعال والمثالية. حيث أشعار شكسبير والقصص الخيالية، أو الواقعية وأهمية الثراء والعادات والتقاليد.
ولكن على الرغم من تلك الحيرة إلا أن النهايات دائمًا سعيدة، حيث ينتصر الحب كقيمة إنسانية سامية، في حوار وأحداث تمتزج فيها الواقعية والأخلاقية والانفعالات العاطفية، لتصبح كما وصفتها الأديبة «فرجينيا وولف» أكثر كاتبة مبدعة بين النساء.
حين تكون الكتابة حلًا لقسوة الواقع
على الرغم من أدبها المليء بقصص الحب والزواج السعيدة، إلا أن حياة جاين أوستن التي بدأت في 16 ديسمبر عام 1775 في قرية بجنوب إنجلترا، لم تكن بتلك السعادة، حيث لم يزر الحب جاين إلا مرة واحدة طوال حياتها في قصة عاطفية لم يكللها النجاح.
فعندما أحبت أوستن الشاب الطموح «توماس ليفروي»، رفضت أسرته تلك العلاقة وهددت بحرمانه من تعليمه وتأسيس عمله في المحاماة، لذلك انفصلا، وتزوج ليفروي بأخرى، في حين ظلت جاين عزباء حتى وفاتها في 18 يوليو من العام 1817، وهي في سن الواحدة والأربعين.
ولكن هذا الحب الذي لم يكتمل وظفته أوستن بطريقة مختلفة في رواياتها، فجاءت النهايات فرحة مريحة، وكأنها تعطي بطلاتها السعادة التي فقدتها في الواقع، لتكون بكتاباتها أهم روائيات القرن التاسع عشر، على الرغم من أنها لم تنل شهرتها إلا بعد نصف قرن من وفاتها منذ عام 1869.
العقل أم العاطفة؟
ما بين عقل «إلينور» وعاطفة «ماريان»، دار الحوار الرومانسي في الرواية الشهيرة «العقل والعاطفة»، والتي كتبتها جاين أوستن في العشرين من عمرها عام 1795، ولم تُنشر إلا عام 1811.
تدور الرواية حول «آل داشوود» وهن ثلاث شقيقات وأمهن يمتلكن قدرًا كبيرًا من الجمال والذكاء، عانين بعد وفاة الوالد من انخفاض مستوى معيشتهن، وكانت أغلب الأحداث تدور حول الشقيقتين «إلينور» و«ماريان». «إلينور» هي الكبرى وتمتاز بالعقل والحكمة، بينما «ماريان» فهي الوسطى وتمتاز بعاطفتها وشغفها ونظرتها المثالية للحب. كل منهما تسعى للرومانسية والحب، كل منهما تواجه العقبات في سبيل حبها، ولكن لكل منهما طريقتها وإيمانها الخاص.
الفكرة الرئيسية للرواية هي خطر العاطفة المفرطة، فعلى الرغم من اهتمام كتاب وأدباء ذلك العصر بالناحية الرومانسية، وخاصة فترة الستينيات من القرن الثامن عشر، إلا أن أوستن اهتمت بنقد هذا الجانب العاطفي، حيث أبرزت الرواية خطر الإصغاء الأعمى للعاطفة كما في حالة «ماريان» وتفوق العقل عند «إلينور».
في علاقة «ماريان» ظهر خطر الانجراف وراء العواطف وعدم الاهتمام بما ينصه العقل والتأني، فهي التي أحبت «ويلبي»، الذي يشبهها في شغفها وشاعريتها وتهورها، ولكن ذلك الحب المثالي هجرها مفطورة القلب ليتزوج بامرأة ثرية، بينما في علاقة «إلينور» بالشاب «إدوارد»، والتي كان يحكمها العقل والحذر والتحكم في العواطف تكللت بالنجاح رغم رفض أسرته وتهديده بحرمانه من الميراث.
وفي نهاية الرواية أوصلت أوستن رسالتها في أسلوب أدبي منمق تغلبت فيه الواقعية على الشاعرية، فالعاطفة ليست دائمًا مرشدًا واقعيًا للحقيقة، فدرس ماريان كان قاسيًا ولكنه ساعدها على إدراك أن الحب الحقيقي يمكن التعبير عنه بعيدًا عن كتب الشعر والموسيقى، وإنما بالجدارة والثقة والاحترام كما في علاقتها في نهاية الرواية بالكولونيل «براندون» الذي يكبرها في السن.
كيف يكون الكبرياء عدوًا؟
«وعزة نفسي منعاني»، كما غنتها أم كلثوم، صورتها جاين أوستن بشكل مفصل في روايتها المحببة «كبرياء وتحامل»، وهي الرواية الأشهر لها، كتبتها عام 1796 ونُشرت عام 1813، حيث كان كبرياء وفخر السيد «دارسي» ذي الثروة الهائلة هو الحائل بينه وبين حبه «إليزابيث بنيت»، الفتاة التي تنتمي إلى أسرة أقل من مستواه الاجتماعي، فكتم حبه وإعجابه بها.
كما كان سببًا في انفصال أختها «جاين» عن صديقه السيد «بينجلي» الذي يماثله في مستوى الثراء، ولكن عندما أصبح حبه أقوى من ذلك الفخر والكبرياء طلب منها الزواج، إلا أن عزة نفس «إليزابيث» تلك الفتاة الذكية والمستقلة، كانت سببًا لرفض طلبه الذي رأت فيه ازدراء لعائلتها فردت قائلة:
ولم ينل السيد دارسي رضاها إلا بعد عدد من المواقف التي أظهرت حبه لها ومواقفه النبيلة مع أسرتها وبعد خطاب شرح فيه نظرته الحقيقية لعائلتها.
لم يكن عداء الكبرياء للحب فقط هو الذي اهتمت به الرواية، حيث صورت أوستن خلال الأحداث القيم الأخلاقية والمجتمعية بين الطبقات الوسطى في القرن التاسع عشر، وخاصة منظومة الزواج، والتي ظهرت جلية في افتتاحية الرواية «الكل يعرف أن هذا صحيح: لابد لرجل أعزب يمتلك ثروة هائلة أن يحتاج إلى زوجة».
وخلال فصول الرواية وشخصياتها وضحّت الكاتبة كيف كان سعي هذه الطبقات الوسطى للزواج من الأثرياء، فكان المال وليس الحب هو الهدف الأول للزواج، وأقوى مثال كان شخصية «مدام بنيت» التي لم تهتم إلا بالبحث عن أزواج أثرياء لبناتها، وكذلك شخصية «شارلوت» حين ذكرت لصديقتها المقربة «إليزابيث» سبب موافقتها على الزواج من السيد «كولينز» قائلة: «إنني بطبيعتي غير مهتمة للرومانسية، كل ما أريده بيت مريح ومستقل لذلك أعرف أني سأجد السعادة مع السيد كولوينز»، و«كونيلز» هذا سيكون له إرث كبير بعد وفاة عمته.
وكبطلتي «العقل والعاطفة»، كانت «إليزابيث بنيت»، «جاين بنيت» بطلتي رواية «كبرياء وتحامل» تمثلان شخصيتين متناقضتين، فمثلت «جاين» العاطفة الهادئة العقلانية، ذات الشخصية اللطيفة والمحبوبة من الجميع، بينما «إليزابيث» كانت الفتاة المستقلة ذات الشخصية الحيوية والعنيدة.
هناك دائمًا فرصة أخرى
هل يقتل الانتظار الحب؟ في حالة «آن إليوت» بطلة رواية جين أوستن الأخيرة «إقناع»، لم تكن ثمان سنوات كافية لنسيان حبها، حيث تبدأ الرواية والبطلة في سن التاسعة عشر من عمرها، وجندي البحرية «فريدريك كمنتثون» يتقدم إلى والديها لطلب الزواج منها، ولكن أسرتها رفضت عرضه لعدم توافقهما الاجتماعي.
بهذه الجملة أقنعت «الليدي راسل» «آن إليوت» بصرف النظر عن الزواج بفريدريك، وبالفعل اقتنعت الفتاة الصغيرة بحجة صديقة والدتها.
بعد مرور 8 سنوات، لم تتزوج فيهم البطلة، تشاء الأقدار أن تجمعها بحبها القديم مرة أخرى، عندما قامت أخته وزوجته بشراء منزل والدي آن، يشتعل قلبها مرة أخرى، وتكتشف خلال أحداث رومانسية وشيقة أنه أيضًا ما زال مولعًا بها، فتقرر هذه المرة أن تتمسك به ولا تخضع لمحاولات أسرتها لإقناعها بعكس ذلك، تقول: «الآن تفكيري اختلف عما تم إقناعي به منذ 8 سنوات».
كغيرها من روايات أوستن، أبرزت «إقناع»، التي كتبتها أوستن قبل وفاتها مباشرة، ونٌشرت عام 1818،المنظومة المجتمعية والنظرة الطبقية خلال تلك الفترة، ولكن تتميز «إقناع» عن غيرها بالصراع الذي ناقشته حول الأخذ بآراء الآخرين، حيث كانت محاولات إقناعهم سببًا في تعاسة بطلة الرواية، ولكن في المقابل منحت جاين تلك البطلة سحر الفرصة الثانية لتصحح أخطاءها.
في أدبها، اهتمت جاين أوستن بإبراز أهمية الحب والاحترام المتبادل والصداقة للزواج، فكما كان زواج المصالح مرفوضًا، كذلك العاطفة الهوجاء غير المتعقلة غير ناجحة، بالإضافة إلى اهتمامها بتمتع بطلاتها بالذكاء الذي يتعلمن به من أخطائهن ليصلحنها ويصلحن نظرتهن للحياة والحب.