كيف واجه الفكر الإسلامي «تحدي الرأسمالية»؟
في كتابه «تحدي الرأسمالية: الإسلام والاقتصاد الأخلاقي» (مدارات للأبحاث والنشر، 2020)، يطرح المؤرخ الإنجليزي تشارلز تريب فكرة عن تعاطي المسلمين مع الرأسمالية، مغايرة لتلك الصورة التي تشكلت عقب 11 سبتمبر/أيلول 2001. فبينما أسقط مسلمون، في ذلك التاريخ، انطلاقًا من قناعاتهم المنسوبة للإسلام، أحد أبرز رموز الرأسمالية العالمية المعاصرة، يرى تريب أن المعاملات الإسلامية، الآخذة بالنمو منذ سبعينيات القرن الماضي، طرحت بديلًا اقتصاديًّا أخلاقيًّا، على نحو حدا بقلاع الرأسمالية الغربية العريقة مثل «سيتي بنك» و«تشيس إنترناشيونال» لفتح فروع مصرفية إسلامية.
يبحث تريب في هذا السياق عن الأسباب التي جعلت هذه الصورة الأخرى من التعاطي مع الرأسمالية، تجد لها مسوغًا شرعيًّا، وعن كيفية مواجهة المسلمين للتحديات التي فرضتها العولمة الرأسمالية، وكيف واجه موروث الفكر الإسلامي الرأسمالية الحديثة كظاهرة اقتصادية واجتماعية؟
المسلمون في عالم رأسمالي
منذ القرن السابع عشر غدا تنظيم الحياة الاقتصادية في أوروبا الغربية رأسماليًّا بأشكال متعددة، وتجسد هذا في نظم الإنتاج الصناعي، شبكات المؤسسات المالية، والهيكل القانوني للشركات والأعمال التجارية.
تحت وطأة الهيمنة والمركزية الغربية التي دشنتها مرحلة الاستكشافات الجغرافية للأمريكيتين والثورة الصناعية والاستعمار، تماهت حضارات وثقافات عالمية مختلفة مع المشروع الرأسمالي الغربي، الذي جمع بين ثلاثة نطاقات، ألا وهي: التصور، الإنتاج، والمؤسسات.
على مستوى التصور اقترنت الرأسمالية برؤية قيمية ومعيارية تعلي من شأن المصلحة الذاتية للفرد، ومن الحساب النفعي للفائدة المادية التي تعود على الإنسان من أفعاله، في إطار رؤية عامة ترتكز في تقييمها للعلاقات الاجتماعية على المنظور الاقتصادي. انعكست تلك الرؤية على الطريقة التي ينظر بها الإنسان إلى نفسه وإلى الآخرين، وعلى تعاطيه مع رأس المال نفسه، ومع الموارد المادية المختلفة كالمواد الخام والآلات والسلع والبضائع.
تميزت تلك الرؤية والطريقة الجديدة التي بدأ يتعاطى بها البشر مع أنفسهم والعالم من حولهم، بأنها لا تقوم على روابط أخلاقية، وبأن عناصرها الجوهرية قابلة لأن تكون ملكية خاصة، خاضعة للحساب، وتقيَّم بقدر إسهامها في العمليات المختلفة للإنتاج، من خلال حساب هامش الربح، في هذا الإطار تزداد الحاجة إلى الاستهلاك على المستويين المادي والرمزي، وترتكز بنية الإنتاج على إشباع رغبات الفرد، الذي تتحول مصلحته ورغباته إلى مرجعية نهائية للقيمة.
تولَّد عن هذه السيرورات شبكة من المؤسسات من جهة، وبدلت شكل مؤسسات كانت قائمة بالفعل من جهة أخرى، مثل: الأسواق،المؤسسات المالية،القوانين، والسلطة.
تداخلت الرؤية الرأسمالية التي نشأت داخل عالم أخلاقي وقانوني يخص أوروبا الغربية وحدها، مع طرائق أخرى لرؤية العالم، وموروثات، ونظم قيمية مختلفة، وتأسست في هذا السياق روابط بين الرأسمالية والثقافات المحلية، من خلال قدرة الرأسمالية على فصل بعض ممارستها عن قيودها الاجتماعية والأخلاقية، ومن ثم عزلها، ثم إعادة تشكيلها مرة أخرى في صور تفضي إلى قبول أكبر للمشروع الرأسمالي الغربي.
في هذا الإطار، كانت السلع على سبيل المثال، حاضرة منذ أن بدا البشر في المقايضة، إلا أن فكرة السلعة في أكناف الرأسمالية أخذت منحًى آخر، حيث هيمن التسليع على الحياة بصورة مدهشة، بفضل مؤسسة قديمة هي الأخرى، ألا وهي مؤسسة السوق، التي لم تعد فقط مجرد المكان الذي يحدث فيه تبادل السلع، بل المؤسسة المهيمنة على الاجتماع الإنساني برمته،حيث باتت تلك المؤسسة في موقعها المركزي الجديد، تشجع المزيد من التسليع، وتفرض أشكالًا من المبادلات شديدة الخصوصية.
العديد من الأسئلة المحورية التي أرقت الفقهاء المسلمين في هذا السياق، كالسؤال عن مدى اتساق البيوع الصورية مع البيوع الحقيقية على سبيل المثال، كانت تدور في عمقها حول فكرة جوهرية تعكس مخاوف الفقه الإسلامي من تحول النقود عندما ننظر إليها منفصلة عن الأشياء التي تكسبها القيمة، إلى سلطة مطلقة تفتقر إلى الحس الأخلاقي، على نحو يمثل تهديدًا حقيقيًّا للنظام الاجتماعي.
تمتعت الرأسمالية في هذا الإطار بقدرة كبيرة على زعزعة المناحي الأخلاقية في النظم الاقتصادية التي سبقتها، بسبب نزعها الصبغة الإنسانية عن عنصر العمل من خلال تسليعه، وبسبب قدرة الرأسمالية على دفع من يعملون ويتصرفون حسب معاييرها على تفكيك العلاقات الاجتماعية والسلع والخدمات جميعها، وإعادة صياغتها حسب شروطها المستبيحة للأخلاق.
دفع كل هذا العالم الإسلامي لصياغة خطاب يسعى إلى أن يمتلك القوة نفسها، حتى يستطيع أن يكسر دائرة رأس المال – السوق – المقايضة – الربح- رأس المال، التي هيمنت على الحياة الاجتماعية، وفرضت ثقافة التبادل وفق مفهوم الرأسمالية، ويعيد أسس النظام الأخلاقي الذي أطاحت به، وتكمن هنا القيمة البارزة للاقتصاد الإسلامي على المستوى العالمي في زماننا الراهن.
الاستجابة الإصلاحية للتحدي الرأسمالي في العالم الإسلامي
وفق المنحى النقدي نفسه الذي تبناه الاشتراكيون المسيحيون الغربيون للرأسمالية الصناعية وهشاشة تأسيسها الاجتماعي، تبنى الكثير من المفكرين الإسلاميين بشكل مبكر نقدًا جوهريًّا للرأسمالية قائمًا على فكرة التكافل الاجتماعي الضائع بين أكنافها، وأفول معنى الأخوة الدينية والإنسانية بين عموم الناس، نتيجة للآليات الرأسمالية التي تعمل على تآكل هياكل المجتمع التقليدي، وتقوض صور التكافل كافة، وتذرر أفراد المجتمع، من خلال الفردانية والأثرة الأخلاقية وركض كل فرد وراء مصالحه وسعادته الشخصية.
في ضوء الظروف السياسية السائدة في العالم الإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، تمحور الجدل في تلك الأثناء حول دور الدولة ومسئوليتها، بصفته الملاذ الأخير لحماية المجتمع من غوائل الرأسمالية، وتأثيراتها المهددة للمجتمعات الإسلامية، وكان هذا انعكاس لواقع حقيقي تمثله تحولات الاقتصاد السياسي في الكثير من دول العالم الإسلامي.
في ظل ما تميز به عقدا الخمسينيات والستينيات من بروز لحركات التحرر الوطني من الاستعمار في بلدان العالم الإسلامي، سيطر على الخيال السياسي الجمعي تصور مثالي للدولة في أدبيات الإصلاح الاجتماعي التي كُتبت في تلك الفترة، وتبلورت في هذا السياق فكرة «الاشتراكية الإسلامية» التي صكها مصطفى السباعي المراقب السابق لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا.
اصطدمت تلك الرؤية بالطابع السلطوي للنظم السياسية الاشتراكية الجديدة في العالم العربي والإسلامي، في إجراءات الإصلاح الزراعي وتأميم الشركات الأجنبية، التي هيمن عليها المنطق النفعي والعلماني الكامل في تعزيز سلطة الدولة وقدرتها على تعبئة رأس المال الخاص والتخطيط الشامل لإدارة الأصول الإنتاجية والممتلكات العامة، الذي تحكمه منطلقات قادمة من جهاز دولة لم يصنع على عين الإسلاميين.
لم يكن سجل إدارة الدولة للاقتصاد الوطني في العالم العربي والإسلامي مشرفًا بحال، بسبب انخفاض حجم الإنتاجية، وظهور البطالة المقنعة، والعجز عن زيادة حجم التجارة أو تحسين شروطها مع بقية العالم.
مع التدفقات المالية الهائلة التي دخلت اقتصاديات الدول النفطية الإسلامية خلال مطلع سبعينيات القرن الماضي، ظهرت الحاجة إلى بديل فعال وعادل للرأسمالية، بعد فشل التجارب الاشتراكية السلطوية، الأمر الذي مهد الطريق لظهور حقل معرفي جديد، ألا وهو حقل «الاقتصاد الإسلامي» الذي لا يعتمد على الدولة ولا مواعظ التضامن الاجتماعي، ويشكل الأساس لتصور نظام جديد بديل للرأسمالية الغربية يقوم على مبادئ الإسلام.
في سياق المشاريع المبكرة لتدشين مصرفية إسلامية، قبل تطور رؤية معرفية إسلامية خلال مساق دراسات مستقل، جرت بعض المحاولات في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، لإنشاء مؤسسات مالية إسلامية لا ربوية تمامًا، منها على سبيل المثال، إنشاء أحمد النجار في مصر عام 1963 بنك توفير على غرار مصارف التوفير الزراعية الألمانية، أسماه «بنك الادخار المحلي»، في مدينة ميت غمر بمحافظة الدقهلية.
رغم انحصار أعمال هذا البنك في المناطق الريفية بدلتا مصر، نجح في جذب نحو ربع مليون مودع، غير أن السلطات المصرية أغلقت البنك عام 1968، وضمته إلى البنك الأهلي المصري.
وقد ظهرت العديد من التجارب الشبيهة في هذا السياق في مختلف أنحاء العالم الإسلامي مثل: صندوق الحج الماليزي «تابونغ حاجي» في 1963، الذي اجتذب الكثير من صغار المودعين، من خلال استثماره فقط في الأعمال التي لا تخالف الشريعة الإسلامية، الأمر الذي حفز تأسيس أول بنك تجاري إسلامي في ماليزيا، ألا وهو «بنك الإسلام ماليزيا بيرهاد».
وتعتبر هذه المشاريع جهودًا متواضعة، بما جرى في عقد السبعينيات الذي شهد تأسيس «البنك الإسلامي للتنمية» التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، بمشاركة أربعين دولة، منها أربع دول رئيسية مصدرة للنفط وهي: السعودية، ليبيا، الإمارات، والكويت، وما أعقبه من ازدهار للمصرفية الإسلامية الخاصة منذ تأسيس «مصرف دبي الإسلامي» في عام 1975، بفضل الدعم الذي تلقته هذه المصارف من أسر مالية خليجية رائدة في البداية، قبل أن تتسع قاعدة عملائها لتشمل الملايين من صغار المودعين في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
مخزون المقاومة الفكري الإسلامي المناهض للرأسمالية
اكتشف العديد من المفكرين المسلمين الذين حاولوا التعاطي مع الرأسمالية أن سلطتها ليست مادية وحسب، بل تخييلية أيضًا؛ حيث تسهم في هيكلة الأسلوب الذي يتفاعل به الأفراد مع العالم من خلال صياغتها للمنظور الذي ينظرون إليه من خلاله.
في هذا السياق عبَّر كل من سيد قطب وعلي شريعتي عن نفورهما من نوع العالم الذي خلقته الرأسمالية الغربية، واعتقد الاثنان أنه من الضروري من الناحية المعرفية أن يكون الفكر الإسلامي منبت الصلة عن غيره من النظم الفكرية في إطار مفاصلة مطلقة بين فسطاطين متباينين لكل منها منظومته الفكرية وفرضياته الأخلاقية الخاصة به.
كان مفهوم الجاهلية بصفتها نقيضًا للإسلام عند قطب، ومفهوم الفارق بين قابيل وهابيل عند شريعتي، هو التمثيل الموضوعي في هذا السياق للانقسام الذي يشهده العالم بين الرأسمالية الإمبريالية وبين العالم المتخيل لمجتمع إسلامي خالص يسعى كل منهما من خلال مشروعه الفكري في تحقيقه.
رسم قطب وشريعتي على المستوى الفكري حدود الصراع بين الإسلام والقوى النقيضة له على المستوى الرمزي، وكان لهذا الأسلوب فائدة مفصلية في إعادة تنظيم خطوط دفاع إسلامية خالصة، وفي فتح أعين المسلمين على واقعهم، ما ينتظرهم من كفاح؛ ومن ثم حشد قواهم في سبيل التعاطي الناجع مع قوى المادية المتمثلة في الرأسمالية ونقيضها التلقائي، ألا وهو الاشتراكية.