هكذا يجيب التاريخ: ماذا لو غابت الدولة المصرية؟
يصور الجيش المصري شرعيته في الحكم على حماية البلاد من الانزلاق إلى الحرب الأهلية، حيث حرب الجميع ضد الجميع. وسردية النظام في مواجهة الفوضى هذه، منطق السلطة التي تقدم نفسها كعقد اجتماعي للتعايش. يتساءل البعض ماذا لو انهارت السلطة المركزية في مصر؟ ماذا لو تحولت قطاعات الجيش لأمراء حرب تتحرك بدافع المصالح الاقتصادية؟ هل سينهار المجتمع ويمارس العنف ضد بعضه؟ هل من الممكن أن تقدم التجربة المصرية مثالًا جديدًا للاحتراب الأهلي بالشرق الأوسط؟
إبان بناء الدولة الحديثة في مصر، هناك تاريخ لشبه احتراب أهلي، زكته ودفعت به أطراف خارجية كأي حرب داخلية، كان ذلك بعد رحيل الاحتلال الفرنسي، واستمر بدرجة أقل بعد تولي محمد علي للسلطة، قبل أن يسعى الأخير لتدمير كل تلك الأحلاف واحداً تلو الآخر.
إن استعراض ذلك التاريخ أمر حيوي، لتتبع حفريات مكونات المجتمع، دفاعاتها وآليتها للتفاعل مع ذلك الاحتراب، ولا يعني ذلك أي تشابه بين المرحلة الحالية وتلك المرحلة من حيث غياب الدولة أو ضعف مركزيتها، وذلك لظهور الدولة الحديثة نفسها، وآليتها في المراقبة وإخضاع مكونات المجتمع. تاريخ تلك الحرب التي امتدت بشكل مباشر 1801-1805، واستمر أثرها حتى عقدين بعد ذلك، يعطينا صورة عن حجم التناقضات التي تخفيها الدولة المصرية، ومن المحتمل أن تزكّيها في حالات الفوضى.
أمراء حرب و أحلاف خارجية
يشير نزيه الأيوبي في كتاب «الدولة المركزية في مصر» إلى وجود الدولة المركزية خلال الحكم العثماني والمملوكي، عكس ما هو شائع بأنه كان أقرب للنظام الفدرالي، بل كانت تمتلك الدولة أدوات وآليات لجمع الجباية والضرائب من الأقاليم، لصالح السلطة المركزية في القاهرة.
يمكن اعتبار الوقت الفعلي لبداية محاولات تحديث الدولة في عهد علي بك الكبير 1768، سواء من خلال محاولات تطوير آليات السيطرة على المجتمع، أو سن بعض التغيرات الاقتصادية الجوهرية، التي استبعدت تدريجيًا سيطرة الانكشارية التابعين للآستانة، كما جرت في عهده المحاولات الأولى للاستقلال عن الدولة العثمانية.
أدت تلك التحولات إلى ظهور تحالفات جديدة بين المجتمع والدولة، وبسبب ضعفها لم تحصل على الاستقلال من الباب العالي، واستفزت بدورها الطموح الفرنسي لاحتلال مصر 1798 – 1801، والذي ما إن انجلى حتى تفجرت تلك التناقضات.
قوى عديدة حملت السلاح وحركت العنف في تلك الفترة، أهمها المماليك الذين وصل عددهم إلى خمسة آلاف مملوك، غالبية نسبهم من الشركس، وربعهم تقريبًا من الروس ومن جورجيا، نُقلوا بمعية القيصر الروسي، إبان حرب روسيا مع العثمانيين، منهم علي بك الكبير. دعمت روسيا هؤلاء المماليك للاستقلال عن الدولة العثمانية كمحاولة لإضعاف الأخيرة.
استقدم علي بك خمسة آلاف جندي من المغاربة لحمايته. شاركوا في أتون الحرب، لتأمين حاجتهم للمال. استقروا في القاهرة، قبل أن ينخرط غالبيتهم في المجتمع المصري تحت ضربات دولة محمد علي.
على جانب آخر وُجد الوالي العثماني. ورغم أنه تمتع بسلطات أقل من البكوات، فإنه كان له حصة من تلك الضرائب التي يجمعها البكوات والملتزمون وشيوخ البلد، إذ كان يُدفع بجزء منها للآستانة.
القوة العسكرية التي كانت تحمي الوالي (قوات الانكشارية)، كقوات العزب، كانت غالبيتها من الترك بالإضافة لبعض العرب، وفيما بعد اعتمد بعض الولاة كخسرو باشا على قوات من النوبة، وخورشيد باشا على قوات من الدلاة[1].
قبيل الاحتلال الفرنسي توسعت ظاهرة الاحتجاج الشعبي، كما حدث بعد الطاعون والمجاعة عامي 1784 و 1792، إلا أن القوة الشعبية ظهرت جلية في انتفاضتي القاهرة الأولى والثانية ضد الفرنسيين، مما سيجعلهم شركاء في تكوين مشهد ما بعد جلاء الفرنسيين.
الطرف الأخير الذي سيشارك في تلك المرحلة، هم جنود الأرناؤوط بقيادة طاهر باشا ثم محمد علي. وهم جنود قدموا إلى مصر ضمن جيش عثماني بريطاني لطرد الفرنسيين. استقروا في مصر ليحصلوا على مستحقاتهم مقابل ما قدموه من خدمات. تمتعت تلك الفرقة بعلاقات طيبة مع القنصل الفرنسي.
كما بقيت بعض القوات البريطانية – انسحبت بعدها بعامين، متحالفةً مع أحد قادة المماليك، محمد بك الألفي.
تحولات اقتصادية
أجرى علي بك بعض التغييرات التجارية، فبدأ ببيع الحبوب لأوروبا بشكل غير منتطم. اهتمت فرنسا بذلك كونها كانت قد خسرت مستعمراتها وراء البحار لصالح بريطانيا، في حرب السنين السبع. تحالفت فرنسا مع التجار المسيحيين الشوام الذين أعطى لهم علي بك الحماية في مصر.
أدت المجاعات في فرنسا وممارسات الحكم الثنائي (مراد بك وإبراهيم بك 1792) وزيادة الضرائب على التجار التابعين لفرنسا إلى استفزاز الطموح الفرنسي في تأمين مصدر الغذاء من مصر، والتفكير في استعمارها لقربها وقلة التكلفة العسكرية والاقتصادية لاحتلالها.
بالنسبة للتجار العرب والمصريين تضررت تجارتهم بسبب تراجع طلب البن اليمني أوروبيًا، وعدم استقرار الوضع الأمني والسياسي في جنوب البلاد ما هدد طريق التجارة إلى أفريقيا. إضافةً إلى أزمة الوهابية في نجد والحجاز التي حالت دون استمرار تجارتهم مع الحجاز.
تراجعت عوائد الانكشارية، التي تعتمد على الضرائب التي تُجمع من الحرفيين والمهاريين، لتراجع سلعهم أمام ما أحدثته طفرة السوق الفرنسي في المنسوجات والصناعات عبر التجار المسيحيين الشوام، حيث تحول في تلك الفترة أكثر من 15 ألف حرفي[2] إلى باعة جائلين في الطرقات وعمال يومية، سيشارك العديد منهم في انتفاضات القاهرة.
تضخمت مصالح طبقة العلماء في تلك الفترة، فأصبح منهم الملتزمون[3]، بالإضافة إلى الوقف الذي يشرفون عليه. سيتحرك غاليتهم فيما بعد بناء لحماية تلك المصالح.
شرارة الاقتتال الأولى
انقسم الإقليم المصري وقتها إلى عدة مقاطعات؛ الإسكندرية وكانت تتبع الآستانة مباشرةً لا الوالي في القاهرة، وإقليم الدلتا المكون من الفلاحين والبدو العرب على ضفتيه، في شماله مدينة دمياط وهي مركز تجاري حيوي للولاية المصرية، بل أهمهم على الإطلاق باعتبار الإسكندرية خارجة عنهم، والقاهرة يتركز فيها طبقة التجار والصيارفة الأقباط واليهود، والصعيد فيه العرب والنوبة وأفارقة.
انقسم المماليك إلى فئتين، جزء مع البرديسي وآخر مع الألفي. الصعيد غالبيته مع البرديسي بك مدعومًا من تجار القاهرة الذين ترتبط تجارتهم بدارفور وكردفان. أما الألفي المتحالف مع الإنجليز ففي تحالف مع بدو الشمال في الشرقية والغربية وهم قوته الضاربة التي سيقاتل بهم أمام قوات البارديسي، وتمتد علاقته بتجار دمياط.
شكّل مماليك الألفي أو البرديسي تحالفاً قائماً مع الملتزمين والعلماء والأقباط الذين كانوا يتولون الأمور المالية، وزُج بهم في الصراع حتى بعد انتصار محمد علي، فقد سلب أرضهم وضم وقفهم إلى الدولة. بدأ الصراع بعد ما سير خسرو باشا جيش بقيادة يوسف بك ومحمد علي من الأرناؤوط والانكشارية نوفمبر/تشرين الثاني 1802، وبسبب سوء إدارة محمد علي انهزم الجيش في دمنهور.
حمّل خسرو باشا الأرناؤوط تلك الهزيمة، وحاول اغتيال محمد علي، فما كان من الأرناؤوط إلا الانتفاضة ضده، حيث أجبروه على الفرار إلى دمياط بقوات من الانكشارية وقوات من النوبة.
تولى طاهر باشا قائد الأرناؤوط الحكم، لكنه لم يدُم طويلًا وقتل على يد الانكشارية، وتولى محمد علي قيادة الأرناؤوط، ودخل في حلف مع مماليك البرديسي بك وابراهيم بك. أجرى البرديسي ومحمد علي صلحًا مع العلماء وطبقة التجار، وخفّضوا الضرائب لتهدئة الأوضاع.
أصدرت الآستانة أمرًا بتعيين والٍ جديد هو أحمد باشا، كان متجهًا إلى نجد وطالبوه الانكشارية بتولي الحكم، لكن البرديسي تحرك وسجنه.
سير البرديسي جيشًا لاستعادة دمياط من خسرو باشا، وبعد حصارها استباح 10 آلاف جندي المدينة لثلاثة أيام كما أشار الجبرتي، وسُجن خسرو باشا. عينت الآستانة والٍ جديد هو علي باشا الجزائرلي، فقبض على أخيه في محاولة لإخضاع رشيد، وتحرك باتجاه القاهرة قادمًا من الإسكندرية. استولى على مناطق شاسعة من الدلتا، لكنه هُزم على تخوم القليوبية وطُرد إلى سوريا.
تزامن ذلك مع انخفاض النيل وارتفاع تكلفة الحرب التي كانت تعني النهب وفرض إتاوات ضخمه على الفلاحين. فكان الفلاحون يتركون الأرض ويهرعون إلى الجبال ويعملون كقطاع طرق. انخفضت الزراعة بشكل كبير، كما فسدت الدلتا بسبب المناوشات بين كل فصيل، حتى بلغت حد أخذ السبايا من النساء والأطفال في القرى.
جرى العرف بأن يدفع الفلاحون للعرب والبدو لحمايتهم من أنفسهم ومن بقية القوات، حتى إذا ما تحالف البدو مع أحد الأطراف كمماليك الألفي صاروا من طائفته، فإذا انتصر البرديسي ترك الجنود تسعى بالفساد والنهب وهكذا في قرى الفلاحين هؤلاء.
صراعات وتحالفات
وصل الألفي من بريطانيا سنة 1804، على متن سفينة القنصل محملًا بالهدايا إلى البكوات. انفض العديد من المماليك من حول البرديسي، وخضعت غالبية الدلتا للألفي والجيزة والفيوم. بدأ الصراع يشتد حيث التقى جيش البرديسي المتحالف مع محمد علي بجيش الألفي في الشرقية، وانتصر عليه البرديسي، ثم قامت قواته بدخول حرب شرسة مع البدو الذين أيدوه.
تطلبت الحرب مزيداً من المال. تراجعت زراعة الحبوب في الصعيد الذي كان يدين بالولاء للبرديسي بسبب جفاف النيل، بدت البلاد وكأنها أوشكت على مجاعة.
فُرضت الضرائب على العمال والحرفيين والفلاحين، مما استثار العلماء والملتزمين الذين كانوا قد وعدوهم بألا يفرضوا عليهم تلك الإتاوات. تحركت الزعامة الشعبية بقيادة عمر مكرم وبدعم من شيوخ الأزهر ضد البرديسي، خصوصًا وأن القوات عملت بالنهب والسلب وشاركت فيه قوات المغاربة وبعض البدو وقوات المماليك واستباحت القاهرة، حتى خرجت الجموع تهتف «إيش تعمل من تفليسي يا برديسي» عام 1804.
خرجت قوات الأرناؤوط بتوجيه من محمد علي لحماية الأسواق والعامة من النهب، قُتل أثناء ذلك 300 من المماليك. أصبحت القاهرة تحت قبضة قوات محمد علي، وهنا برز تحالف عمر مكرم ومحمد علي. ثورة القاهرة أدت لانفضاض التحالف بين الأرناؤوط والمماليك فطُرد المماليك، واستدعى محمد علي آخر المنافسين على حكم مصر خورشيد باشا من الإسكندرية، وراسل الآستانة لتعينه.
تعاظم تهديد مماليك البرديسي الذين يحكمون الصعيد، ويقطعون الحبوب عن القاهرة، والألفي الذي أخضع الدلتا. أمر خورشيد محمد علي بالخروج بحملات الى المماليك، إحداها كانت بقيادة محمد بك الأمير ومحمد علي لإخضاع إقليم المنيا مركز قيادة المماليك، وسيّر حملة أخرى إلى الألفي قبل أن يتحالف معه.
التحالفات التي كان يبرمها محمد علي مع العرب في الجنوب كانت تقتضي تحصيل الضرائب منهم، في مقابل طرد المماليك ورد بعض الأراضي لهم، أفضى ذلك إلى تحزب أهل الصعيد بعائلاتهم، كٌل إلى طرف، واستمرت الصراعات حتى بعد انتصار أحدهم على الآخر.
في هذه الأثناء استجلب خورشيد باشا الدلاة من الأكراد، وهي قوات بربرية عاثت في الأرض فسادًا، ولما علم أمير بك ومحمد علي عادا إلى القاهرة. حدث صدام بينهم وبين الدلاة، لكن منطق المرتزق واحد، فقد أقنع محمد علي قادة الدلاة أنه عاد من أجل أقواتهم، وفي نظر المرتزقة الدلاة هذا حق مشروع.
أفسح الدلاة الطريق لجيش محمد علي، كانت القاهرة بدأت تعاني من اضطرابات جديدة، بعد إقراره ضريبة عقارية على المسكن، وضريبة على الإرث بلغت 10%، وضريبة باهظة على التجار مما أدى إلى كساد تجارتهم، وعليها خسر العديد من الناس وظائفهم وأشغالهم.
استغل المماليك هذا الاضطراب وهجموا على القاهرة من ناحية البساتين، وكادوا يفتكون بجيش محمد علي. فرض حصار خانق على القاهرة، ضجت منه الناس واستنجد عمر مكرم بمحمد علي للتصرف، فراسلهم وأخبرهم برغبته في أن يحكموا بدلًا من خورشيد، ثم باغتهم ليلًا وفك الحصار عن القاهرة.
ضجت الجماهير من هذا المشهد العبثي، الذي مارس فيه الجند عليهم العنف، ومارس بعضهم العنف كالسرقة والنهب وقطع الطريق خصوصًا في الدلتا. ضاقوا شيوخ الطوائف الحرفيه والتجارية ذرعًا لهذا الوضع، فخرجوا في احتجاجات ضد خورشيد، وانحاز العلماء والتجار والملتزمون لهذه الهبّة.
تمثلت القيادة الشعبية في عمر مكرم، الذي قاد تلك الجموع وأشرف على تسليحهم، حتى بلغت جموعهم 40 ألف شخص، سيطروا على القاهرة، وشكلوا لجان حماية من العامة، وعزل عمر مكرم خورشيد باشا وعين مكانه مملوكًا آخر وأخيرًا هو محمد علي.
ماذا لو؟
كان المماليك طبقة اجتماعية حاكمة، تحكم الناس بمنطق الدفاع عنهم، وتتحالف معهم. مارست العنف انطلاقًا من حماية وضعها الاقتصادي، إلا أن التحولات الاقتصادية أدت بصورة ما إلى ظهور فئات جديدة.
ساهمت تلك الفئات في إعادة صياغة التحالف المهيمن، واقتضى ذلك ممارسة العنف ضد بعضهم البعض، فتضررت العامة والناس من هذا الصراع، لكنها انخرطت فيه مُجبرة. التحالف داخل الدولة كان شريكاً في إشعال فتيل الحرب شبه الأهلية، فالقلق ليس من غياب الدولة بل في وجودها، واختلال التحالف بداخلها.
ليست المشكلة نابعة من غياب السلطة المركزية، بل من التحولات التي تطرأ على شكل التحالف المهيمن، والذي قد يفضي إلى العنف لينتظم بعده تحالف جديد، وهذا هو التخوف في الحالة المصرية الحالية، فالتحولات الاقتصادية التي تجريها الدولة، عبر المؤسسة العسكرية قد تفضي إلى تشكل تحالف جديد، ينزلق للعنف لكي يثبت وجوده، مع اختلاف الوضع لظهور الدولة الحديثة وولادة المواطنة وتغير بعض فئات المجتمع الفاعلة بسبب عمليات التحديث.
- استقدم خورشيد باشا في صراعه مع محمد علي1804م، 3 آلاف من الدلاة “المجانين” وهم كرد، يلبسون الطراطير المخروطية من الجوخ الأسود وتسليحهم سيف وطبنجة، كانت لهم ممارسات عنفية وشرسة، حتى أنهم في نهاية عهدهم سبوا نساء وأطفالًا في طريق عودتهم إلى الشام1805م، وذلك من شمال مصر، ويشار في الأمثال الشعبية المصرية الى استهجانهم.الياس الأيوبي، محمد علي، هنداوي 2014.ص42.
- بيتر جران، الجذور الإسلامية للرأسمالية مصر 1760-1840.
- هو الوسيط بين السلطة والشعب في جمع الضرائب، حيث يقومون بدفعها للدولة ثم يجمعونها بالقوة من الفلاحين.