قصة الطوفان: كيف تغيَّرت عبر الزمن؟
بمجرد أن يظهر للناس بطل ما، فإن الحكايات تأخذ نقطة انطلاقها الأولى من لحظة موت البطل العظيم، ثم لا تتوقف عن الحركة أبدًا، وتظل تتوالد على نحو مختلف في كل مرة، يصبح للبطل سمات جديدة وتاريخ مختلف في كل مرة تتولد فيها الحكاية من جديد، تتجدد على نحو طفيف لدى الفرد، وعلى نحو عميق لدى الجماعة، وهكذا إلى أن يولد في الزمن شخص مبدع ودءُوب، سينطوي عمله العظيم على أن يجمع تلك الحكايات التي تناثرت عبر الزمن عن البطل العظيم، ويدوِّنها في كتاب واحد.
هكذا على النحو الطبيعي للأشياء ستنطوي مهمة الراوي الأخير للحكاية (كاتبها) على شيء من النفع وشيء من الضرر، وبمجرد أن تنتظم حكاية البطل بشكلها النهائي على الورق المكتوب، تتوقف الحكايات عن الحركة والتغيير، يكتسب الكتاب بعد وقتٍ قصير صبغة رسمية ويصبح محرمًا على العامة ممارسة أفعال تجديد سيرة البطل وروحه وفلسفته.
لقد استقر البطل العربي أبو زيد الهلالي بشكله النهائي في كتاب، ذلك بعد أن تجدد وتطور على مدى قرون على أيدي شعراء الربابة في القرى والنجوع، فعلها الشاعر المصري عبد الرحمن الأبنودي منذ ثلاثة عقود أو أربعة من الزمن على أقصى تقدير، وهكذا فعل مانيتون السمنودي حينما جمع حكايات آلهة المصريين (أبطالهم)، وهكذا فعل هوميروس حينما دون حكايات أبطال الإغريق (أخيليس وهيكتور وأوديسيوس)، وهكذا فعل شاعر سومري مجهول لا يُعرف اسمه الآن أحد، حين دوَّن حكاية جلجامش بطل أوروك وصديقه أنكيدو البطل البدائي، مضمنًا فيها لمحة قصيرة عن بطل قصة الطوفان، في الملحمة المعروفة بملحمة جلجامش.
لا يصبح الأمر مأساويًّا إلى هذه الدرجة، فعلى الرغم من العقبة الكبيرة التي يضعها التدوين في طريق تطوير الشعوب لحكاياتها، إلا أن السيرة الشعبية للبطل لا تتوقف عن الحركة بشكل نهائي، لكنها – وبطريقة أخرى للتعبير – تأخذ مسارًا تطوريًّا آخر أبطأ بكثير ومحاطًا بقدر أعلى من الحرص والحذر، خاصة مع حالة التقديس التي تحيط بالنص، لا يجُب قداسة القصة المدونة ساعتها سوى صعود ثقافة جديدة أو حضارة جديدة بكتاب مقدس جديد وحكاية مختلفة عن البطل وحياته وقصته، وقد مرت قصة بطل الطوفان بمحطات رئيسية ثلاثة، حيث ذُكرت كلمحة قصيرة في النص السومري، وهو النص الأول لملحمة جلجامش، وانتقلت مع بعض الاختلافات إلى النص البابلي المقدس، ثم ظهرت على نحو جديد وفلسفة جديدة في النص التوراتي.
متى حدث الطوفان؟
لا أحد يعلم بالضبط متى حدثت كارثة الطوفان، لم تتوفر لدى علماء التاريخ والأركيولوجيا (الحفريات) وعينات التربة العميقة التي تكفي للفصل في هذا الأمر، هذا ما دفع بعض العلماء لأن ينكروا حدوثها تاريخيًّا جملةً وتفصيلًا، لكن الاحتمالات تظل مفتوحة حتى في غياب الأدلة، حيث عدم وجود أدلة الآن لا يشير لانعدام التحقق أبدًا، لكنه يشير لتأجيل الفصل في الحكم، ربما تظهر أدلة جديدة تحسم الجدل وربما لا تظهر أبدًا، إذن يبقى الحُكم مؤجلًا باستمرار وبشكل لا نهائي حتى ظهور الدليل الإيجابي، هذا إذا سحبنا قضية كارثة الطوفان على التأسيس الذي بناه كارل بوبر لفلسفة العلم حول صدقيَّة الحقيقة العلمية. في تأسيس بوبر هناك شرطان لتمييز الحقيقة العلمية عما يمكن أن نسميه بالعلم الزائف، هما: قابلية التكذيب وإمكانية اختبار الدلائل تجريبيًّا.
فإذا كانت حادثة الفيضان المائي الكبير تلك قابلة للتكذيب عمليًّا وللاختبار من خلال الأدلة التجريبية (الأحافير الحيوية والوثائق التاريخية) تصبح مرشحة لأن تدخل في باب الحقيقة العلمية ذات يوم، هذا أمر متروك للمستقبل، ربما يحدث وربما لا يحدث أبدًا، وهنا يتحول غياب الأدلة من باب لإغلاق القضية ووصمها بالبطلان إلى العكس من ذلك؛ باب مفتوح لكل الاحتمالات.
لعالم الأشوريات وتاريخ ما بين النهرين صامويل نوا كرامر وجهة نظر مهمة قد تفيد تلك القضية، فجلجامش البطل الأساسي للملحمة لم يكن بطلًا خياليًّا من وجهة نظر كرامر، إنما ملك واقعي من ملوك السومريين، عاش في الفترة التاريخية السابقة على تدوين الملحمة، تطورت سيرته على ألسنة شعبه أثناء حياته وبعد موته حتى دُوِّنت بشكل نهائي في النص السومري.
هذا الأمر يفتح بابًا للتساؤل عن بطل الطوفان الذي وردت سيرته في الملحمة نفسها، هل يمكن أن ينطبق عليه نفس التوصيف؟
لا دخان بلا نار هذه وجهة نظر البعض، تنشأ القصة عن أحداث واقعية ثم تبدأ في التطور والتغيير والاتساع مع الزمن، ربما يكون قد حدث فيضان مائي كبير في منطقة ما بين النهرين حيث دونت قصة الطوفان الأولى أو في المنطقة المعروفة الآن بالشرق الأوسط أو في العالم القديم كله، هذه احتمالات واردة، لكن المؤكد هو أن قصة الطوفان قد مرت بثلاث محطات رئيسية أبطالها هُم: زيوسيدرا وأوتو ناباتشيم ونوح النبي.
زيوسيدرا: بطل الطوفان المجهول
يحكي النص الأول (النص السومري) لملحمة جلجامش:
كان زيوسيدرا بحسب النص السومري الأول رجلًا صالحًا محبًّا للآلهة، وفوق ذلك ملك عادل لمدينة تقع في منطقة ما بين النهرين تُدعى شاروباك.
أوتو ناباتشيم: البطل البابلي الجديد لقصة الطوفان
انهارت حضارة سومر، ونشأت مكانها حضارة جديدة في مدينة بابل، ومن ثم لا يعود اسم زيوسيدرا للظهور مرة أخرى في النص البابلي للملحمة، فقد استُبْدِل به اسم آخر هو «أوتو ناباتشيم».
تمتع «أوتو ناباتشيم» بطل قصة الطوفان الجديد بصلاحيات وسمات لم تتوافر لزيوسيدرا في النص الأول، ومنذ اللحظة الأولى التي يطالعنا فيها النص البابلي لملحمة جلجامش بذكر أوتو ناباتشيم؛ فإنه يظهر كرجل حكيم خالد مقاوم للفناء، اصطفته الآلهة من بين البشر، وأدخلته في مجمعها (مجمع الآلهة) كمكافأة له على إنقاذ البشر.
هذه هي النهاية السعيدة التي ينعم بها بطل قصة الطوفان في النص البابلي، ليس ذلك وحسب، لكنه يعود للظهور للملك جلجامش بعد حادثة الطوفان بزمن بعيد ويشارك بقدر وافر من الحكمة في حل مأساة جلجامش العظيم، وهنا ولأول مرة يتخذ بطل قصة الطوفان السمات الكاملة للبطل الحكيم.
ويحكي النص البابلي:
هنا ولأول مرة يظهر سبب منطقي للقرار الذي اتخذته الآلهة تجاه المخلوقات الأرضية، ليس ذلك، وحسب لكن مدينة شاروباك (المدينة التي حكمها زيوسدرا البطل القديم لقصة الطوفان) تصبح في النص البابلي هي المدينة التي يسكنها ويحكمها الآلهة ويجتمعون فيها لاتخاذ قرار الطوفان، دون أي إشارة لزيوسيدرا نفسه.
على الجانب الآخر فإن ما حدث في النص السومري يتكرر حدوثه في النص البابلي بأسماء مختلفة وأحداث جديدة، خرج «إيا» عن إجماع الآلهة وذهب لأوتو ناباتشيم البشري وأمره بصناعة سفينة عظيمة الحجم وحدد له أبعادها وطريقة بنائها بالتفصيل، يتشارك أقارب أوتو ناباتشيم وجيرانه في بناء السفينة، ويصعدون إليها بصحبة زوج وزوجة من كل أنواع الكائنات الحية، وهكذا تنجح خطة الإله المتمرد إيا.
بعد أن تزول آثار الطوفان عن الأرض يتفاجأ الآلهة بوجود السفينة، فيُصاب إنليل البطل وزير الآلهة بنوبة غضب عارمة: من تسبب في إفساد قرار مجمع الآلهة؟ كان لا بد للبشر وجميع المخلوقات أن يزولوا بالطوفان العظيم ولا يتبقى لهم أثر، إلا أن نوبة الغضب هذه لا تلبث أن تتحول إلى هدوء. يندم الآلهة على ما فعلوه بالبشر ويقنعون إنليل بصواب ما فعله إيا وبالخير الذي تسبب به البشري أوتو ناباتشيم حتى لو كان في ظاهره تمردًا على قرار الآلهة.
يقول النص البابلي:
وهكذا تتسع قصة الطوفان وبطله لتشمل أحداثًا وتفاصيل جديدة، ومعها سمات جديدة للبطل.
نوح: آخر أبطال الطوفان
تنشأ بالقرب من حضارة بابل قبيلة صغيرة يخرج عنها كتاب مقدس ينادي بالإله الواحد في مقابل مبدأ تعدد الآلهة الذي ساد في ديانة بابل وديانات المدن المجاورة، ثقافة مختلفة لكنها لا تستطيع الفرار من التأثر والتأثير بجيرانها، خاصة مع حادثة السبي الجماعي لليهود إلى أراضي ما بين النهرين في عهد الملك البابلي نبوخذنصر.
يتوارى اسم «أوتو ناباتشيم» كما توارى من قبله اسم «زيوسيدرا»، ويظهر بطل حادثة الطوفان باسم النبي نوح في النص التوراتي، حيث لا ذكر لمجمع الآلهة «أونو – إنكي – إنليل – إيا – عشتار …) إنما إله واحد بأسماء متعددة «يهوا» أو «إيل»، وبسبب فساد البشر يندم الإله الواحد «أنه صنعهم». في النص التوراتي الذي بين أيدينا الآن يتمتع الإله الواحد بصفات بشرية كالتي تمتعت بها الآلهة البابلية القديمة «مثل الندم».
هكذا تمضي القصة بالضبط كما حدث في النصين السومري والبابلي؛ يصنع بطل قصة الطوفان سفينة عظيمة تكون سببًا في نجاة البشر وتجدد نسلهم على الأرض بعد الطوفان العظيم، فضلًا عن بقية المخلوقات الأخرى، لكن نوح النبي لا يتحول إلى شخص خالد لا يصيبه الموت كما حدث مع أوتو ناباتشيم، حيث الخلود في الديانة اليهودية هو صفة حصرية للإله الواحد، لكنه بدلًا من ذلك يُعمر على الأرض زمنًا طويلًا لبضع مئات من السنين، وحين ينحسر الماء عن وجه الأرض وتنجو السفينة يصبح نوح النبي أبا البشر الجديد من بعد آدم.
إذن بطل الطوفان في نهاية الأمر هو شخص كُلِّف بإنقاذ البشرية والمخلوقات الأخرى بصناعة سفينة ضخمة، يظهر أولًا باسم زيوسيدرا، ثم أوتو ناباتشيم، إلى أن يتخذ اسمه النهائي وسماته النهائية في النص التوراتي، لكن لماذا حدث التطور في القصة على هذا النحو لا سواه، هذا ما يمكن أن نجد له تفسيرًا في نظرية الميمياء.
نظرية الميمياء والانتخاب الثقافي
تأتي نظرية الميمياء لتتساءل كيف انتقلت قصة الطوفان عبر ثقافات مختلفة ومتجاورة، وكيف تطورت عبر الزمن من تلميح خافت في النص السومري لملحمة جلجامش لقصة مكتملة في النص البابلي، ثم إلى قصة مكتملة بفلسفة مختلفة في النص التوراتي.
نظرية الميمياء هي نظرية حديثة نسبيًّا وما زالت غير معروفة بشكل كبير في الأوساط العلمية العربية، وهي تحاول تفسير كيفية تطور الثقافة عبر الزمن على غرار التطور البيولوجي، لكن مع فروق جوهرية.
الفارق الأهم بين التطور البيولوجي الذي يعتمد على التطور الجيني والتطور الثقافي الذي يعتمد على التطور الميميائي، هو أن الجين له أساس مادي، أما الميمة فهي ذات أساس فكري مجرد تشبه في تجريدها مفاهيم مجردة أخرى في العلوم الإنسانية، مثل الأنا والأنا العليا، لكنها تستلهم مع ذلك بعض الآليات التي يعمل بها التطور البيولوجي، وعلى رأسها الانتخاب الطبيعي.
فالثقافة بناءً على ذلك تتطور بالانتخاب الطبيعي، لكن على أساس غير فيزيائي، المهم أن لدينا الآن ولحسن الحظ مرجعًا وحيدًا بالعربية عن الميمياء، وفيه عرض مفصل لتطور قصة الطوفان عبر الثقافات المختلفة وعبر الزمن، يرجع الفضل في ذلك للدكتورة منى عبود في كتابها «الميمياء … نظرية تطورية في تفسير الثقافة»، حيث فتحت الباب لتأمل تطور ملحمة جلجامش على نحو مختلف.
إذا اتبعنا وجهة النظر الميميائية؛ فإن قصة الطوفان قد تطورت على ألسنة الناس وتفرعت إلى حكايات عديدة بانحرافات مختلفة بعضها عن بعض حتى لحظة ظهورها في النص السومري الأول لملحمة جلجامش، ثم تطورت مرة أخرى على ألسنة الناس في حضارة جديدة وثقافة تالية حتى ظهرت في النص البابلي المقدس للملحمة، لكنها أخذت أبعادًا جديدة وفلسفة مختلفة تتفق مع منظور التوحيد التوراتي في النص التوراتي.
هذا الأمر يعني أن من بين كل التطورات التي حدثت للحكاية كان النص المدون ينتهي في كل مرة إلى تبني شكل الحكاية التي تتفق مع ثقافة بعينها في زمن بعينه؛ بقية الأشكال الحكائية التي فشلت في الانسجام مع الثقافة السائدة سقطت من تلقاء نفسها، وبالتالي لم تُدَوَّن، إنه الانتخاب الثقافي للحكاية الشعبية حين ينتقي شكلًا واحدًا من بين أشكالها المختلفة، نفس آلية الانتقاء التي يعمل بها قانون الانتخاب الطبيعي الذي ابتكره داروين في البيولوجيا، لكن مع فارق مهم، وهو أن التطور البيولوجي يعمل طبقًا لأساس فيزيائي هو الجين، أما التطور الثقافي فهو يعمل طبقًا لأساس غير فيزيائي.
تتطور سيرة البطل على ألسنة جماعته البشرية، وتأخذ في التطور والتغيير والتحريف زمانًا ممتدًا، وكانت ملحمة جلجامش هي النص الأول الذي دُوِّنَت فيه حكاية الطوفان بعد تداولها زمنًا طويلًا على ألسنة السومريين، لا أحد يعلم إلى أي مقدار امتد هذا الزمن الذي تطورت فيه قصة الطوفان، احتمال أن تكون قد ترددت على ألسنة القبائل البدائية التي نشأت منها حضارة سومر هو احتمال وارد، ربما يمتد زمن نشأتها لأبعد مما كنا نتخيل.
لا دخان بلا نار كما قُلنا، تنشأ الحكاية عن قصة واقعية ثم تتطور وتتغير وتتعرض لانحرافات شتى عن الحكاية الأصلية، وهكذا تطورت قصة الطوفان على ألسنة الناس ولزمان ممتد، قد يصبح من العسير على إنسان العصر الحديث تصور الطريقة التي نشأت بها سير الأبطال في العصور القديمة وتطورت مع الزمن، في عصر وضع فيه فيه التدوين وانتشار القراءة قيودًا عديدة على تطور الحكايات.
لم يتوقف العالم عن إنتاج أبطاله، لكن فعل التدوين جعل من الصعب على الأبطال أن يتجددوا باستمرار في المخيلات الجمعية للبشر، ومع انتشار القراءة أصبح تطور الحكاية أشد صعوبة، طالما أن هناك كتابًا مُدوَّنًا وشخصًا قادرًا على القراءة، فإن الرواية يصيبها الثبات، يتوقف أبطال الزمان الحديث عند لحظة موتهم، ولا يتبقى منهم سوى مقالات كثيرة وكتاب للسيرة الذاتية عن حياة إنسانية لكائن إنساني، قد تكون أكثر إلهامًا لهؤلاء الذين يقدسون الحياة بكل عظمتها وترخصاتها، أما بالنسبة إلى هؤلاء الذين يبحثون عن بطل خارق، فقد انتهى عصر الأبطال الخارقين لأن التدوين قتله، وشاركه في فعل القتل انتشار القراءة.
من يعلم! ربما يعودون ذات يوم على نحو مختلف، التاريخ يفرض شروطه الموضوعية التي تتغير في كل مرة، وربما يأتي وقت يخفت فيه الأثر الضار للتدوين لشروط موضوعية جديدة لا يعلمها أحد الآن، وربما تنشأ كذلك محطة جديدة وفلسفة مختلفة لقصة الطوفان وبطلها.
- الميمياء نظرية تطورية في تفسير الثقافة، منى أحمد عبود
- منطق البحث العلمي، كارل بوبر
- Kramer S. N Sumerian Mythology: A Study of Spiritual and Literary Achievement in the Third Millennium B.C