إنجلترا للإنجليز وفلسطين للعرب: كيف حارب غاندي الصهيونية؟
بفضل المكانة الدولية الهائلة التي امتلكها غاندي على وقع نضاله السلمي ضد الاحتلال الإنجليزي لبلاده في الهند، سعت الحركة الصهيونية مبكرًا لكسب ودّه ودعمه من قبل إنشاء إسرائيل.
وبرغم تلك الجهود، فإن غاندي حافظ على موقفٍ واحد لم يغيّره أبدًا وهو أن أرض فلسطين حقٌّ أصيل للعرب والمسلمين.
عبّر غاندي عن هذه الجهود بمقالٍ تلو الآخر وبتصريحات عدّة، ولم تفلح كافة اللقاءات التي أجراها قادة الصهيونية في تغيير موقفه حتى مات.
غاندي واليهود: أصحاب ولكن
حكى غاندي أن علاقته باليهود تعود إلى أواخر القرن الـ19 حينما كان يقيم في جنوب أفريقيا، ومن أبرزهم هنري بولاك (Henry S. L. Polak) وهيرمان كالينباخ (Hermann Kallenbach)، واللذان تمتّع بعلاقة صداقة كبيرة معهما ودعمًا كبيرًا في مساندة دعوته لمقاومة التمييز العنصري، حتى إن كالينباخ تبرّع لغاندي بمزرعة فاقت مساحتها الألف فدان لخدمة أنشطته.
على الرغم من توثّق علاقته بالجالية اليهودية في الهند فإنه سيرفض كافة محاولات قادة الصهيونية لجرِّه إلى دعمها وعلى رأسهم عالم الرياضيات سيليج بروديتسكي (Selig Brodetsky)، والصحفي اليهودي البارز ناحوم سوكولوف (Nahum Sokolow) وأخيرًا صديق كفاحه كالينباخ الذي اختلف معه بشدّة بشأن الحركة الصهيونية لاحقًا.
أثار غياب هذا التأييد كثيراً من الضيق في صدر قادة الحركة الصهيونية، وسعوا لنيل دعم غاندي بأي شكل حتى إن موشيه شاريت- رئيس الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية حينها، وأول وزير خارجية لإسرائيل لاحقًا- رتّب لقاءً معه عام 1939 حيث تودّد إليه بكل السُبُل لإقناعه بدعم مطامع اليهود في فلسطين ولم يفلح.
وفي كتابه «المهاتما غاندي والوطن القومي اليهودي» يلوم كوماراسوامي أصدقاء غاندي من يهود الهند على موقفه السلبي من «حق العودة إلى فلسطين» لأنهم لم يكونوا يهودًا متدينيين، وبالتالي لم يمكّنوا غاندي من التعرّف على وجهة النظر اليهودية بشأن فلسطين كما يجب، بل على العكس تأثر كالينباخ صديق غاندي وعضو الحركة الصهيونية، وأقنعه الأخير بعد الذهاب إلى إسرائيل مرة أخرى.
غاندي: فلسطين عربية لحمًا ودمًا
في أعقاب الحرب العالمية الأولى، صاغ غاندي موقفه النهائي من المسألة الفلسطينية بشكلٍ نهائي، والتي انسجمت بمواقفه الداعمة للمسلمين داخل الهند وخارجها.
خلال هذه الفترة كانت الأمة الإسلامية تمرُّ بمنعطفٍ تاريخي بعدما تعرّضت الدولة العثمانية لهزيمة ساحقة على أيدي الحلفاء. هزيمة مكّنتهم من توقيع معاهدة سيفر 1920م أجبروا بها الدولة العثمانية عن التنازل عن مساحات شاسعة من ممتلكاتها، وعلى رأسها البلاد العربية من الشام وحتى مصر والمغرب.
مثّل تآكل دولة الخلافة حالة من الرعب عند مسلمي الهند الذين كانوا يخوضون صراعًا ذي وجهين من بلدهم؛ فمن ناحية يتبنّون أجندة قومية تدفعهم لقتال المحتل الإنجليزي، ومن ناحية أخرى فهم يخافون من يوم استقلال تستأثر فيه الأغلبية الهندوسية بالحُكم بكل ما ستحمل هذه الخطوة من خطورة على المسلمين.
اعتبر مسلمو الهند (أكبر تجمّع إسلامي في العالم وقتها) أن سقوط الخلافة التركية سيُشكل خطرًا كبيرًا عليهم في مساعيهم للتشبث بعقيدتهم في الهند.
لذا سريعًا دشن قادة المسلمين الهنود، مثل الأخوَان محمد وشوكت علي، حركة «الخلافة»، فنظموا عشرات المؤتمرات لنيل تأييدها في جميع أنحاء الهند.
لم يتردّد غاندي في إعلان دعمه هذه الحركة وناصرها بكل قوة، فهو يمتلك علاقات شديدة التميز بقادتها حتى إنه وقّع ميثاق تعاون بين حزبه المؤتمر الوطني الهندي و«الرابطة الإسلامية» منذ عام 1916م.
أصبح غاندي عضوًا بارزًا في «حركة الخلافة»، وعنصرًا دائمًا في مؤتمراتها الجماهيرية.
وعلى الرغم من فشل هذه الحركة في تحقيق هدفها، وإلغاء الخلافة على يدي القوميين الأتراك عام 1924م فإنها كانت مؤشرًا كبيرًا على تجذّر علاقة غاندي بالمسلمين ودعمه قضاياهم الكبرى، وعلى رأسها فلسطين بالطبع.
غاندي عند الصهاينة: قديس زائف
خلال هذه الفترة تعدّدت مواقف غاندي الداعمة لحقِّ العرب في فلسطين، فأعلن رفضه وعد بلفور معتبرًا أن هذا الوعد «غدر بمقدسات 70 مليون مسلم في الهند».
ثم أضاف: «لقد قطعت بريطانيا وعدًا للصهاينة، رغم ذلك فإنهم لا يمكنهم امتلاك فلسطين، فلسطين كمكان عبادة لجميع الطوائف هو أمر له احترامه، ومن حق اليهود أن يشتكوا إذا منعهم المسلمون من التعبّد، لكن لا يمكنهم ادّعاء امتلاك فلسطين».
واعتبر غاندي في تصريحات أخرى أنه وإن كان يؤيد أن تكون فلسطين للمسلمين إلا أنه يضع عليهم التزامًا أخلاقيًّا بعدم منع اليهود من زيارة الأراضي المقدسة أو الإقامة فيها أو تملّك العقارات.
خلال هذا الوقت لم تنقطع جهود اليهود لحشد تأييد هندي لإنشاء دولتهم، فأرسلت الحركة الصهيونية المبعوثين واحدًا تلو الآخر لمقابلة قادة الهند، وعلى رأسهم غاندي بالطبع.
رغذم ذلك تمسّك غاندي بموقفه المعادي للصهيونية، وكتب مقالاً طويلاً في 26 نوفمبر من عام 1938م بدأه بعبارة «يُطلب منّي أن أعلن آرائي حول النزاع العربي – اليهودي في فلسطين»، وبعدها استفاض في دعمه للحقّ العربي في فلسطين.
أثارت هذه المقالات حالة من الجدل بين اليهود، البداية كانت مع صحيفة «المحامي اليهودي» (The Jewish Advocate)، ومقرّها في بومباي، هاجمت غاندي في صفحتها الأولى، كما وجّه إليه الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر عدة رسائل مفتوحة اشتهرت لاحقًا في التاريخ بـ«مراسلات بوبر وغاندي».
في ردِّه على غاندي اعتبر بوبر أن حقّ اليهود في العودة إلى فلسطين لا يختلف كثيرًا عن حق الهنود الذين عاشوا في جنوب أفريقيا في العودة إلى الهند!
كما اتُّهم بأنه ينظر للقضية الفلسطينية بعدسة معادية للسامية، فيما وصفه قيادي صهيوني في الهند بأنه «قديس زائف وغبي».
لم تُثنِ هذه المواقف غاندي عن دعمه فلسطين فعاد مجددًا وكتب أن اليهود لا يُمكنهم الاستقرار في فلسطين إلا بـ«تحويل القلب العربي تجاههم»، مضيفًا «إذا شاركوا الجيش البريطاني في سلب أراضي الأشخاص سيكون خطأً كبيرًا».
وفي العام التالي مباشرة اعترف غاندي بأن الصهيونية «طموح نبيل» من الناحية الروحانبة لكنّه لن يؤيدها أبدًا إذا أدت إلى احتلال اليهود لفلسطين.
وفي خطاباته فرّق غاندي بين تقديره لمعاناة اليهود بشكلٍ عام من ويلات الحرب العالمية الثانية، فوصف الهولوكوست بأنها «أعظم جريمة في عصرنا»، ولم يتردد في إرسال برقية تهنئة لصديقه اليهودي الهندي روش هاشانا، قائلاً فيها «كم أتمنى أن تكون السنة الجديدة حقبة سلام لشعبكم المنكوب»، والتي تزامنت مع يوم غزو هتلر لبولندا.
وبين رفضه التام لحق الصهيونية في ابتلاع أرض فلسطين، وهو النهج الذي استمرّ عليه حتى أيامه الأخيرة التي شهدت مواجهة عنيفة جمعت بينه وبين هونيك رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، طرح عليه قضية هجومه على إسرائيل مجددًا فأجاب بكلماتٍ قاسية:
إلا أنه لم يغفل أن يوجّه في أيامه الأخيرة دعوة إلى العرب لـ«التكرّم» وقبول مشاركة اليهود أرض فلسطين، ودعا الطرفين للتوافق على حلٍّ لا عُنف فيه، وإن لم يُخفِ تشاؤمه من أن المشكلة تبدو «مستحيلة الحل».
الهند لم تسر على خُطى غاندي
على الرغم من المكانة المعنوية الكبرى التي خلّفها غاندي في الهند، فإن آراءه لم تشكّل ركيزة لسياسات الهند الخارجية.
وفقًا لكتاب «سياسية الهند نحو إسرائيل» للباحث الهندي بي آر كوماراسوامي المختص في الشأن الإسرائيلي، فإن أحدًا في الهند لم يعتبر غاندي خبيرًا في الشؤون الدولية، وأن شخصيته وأفكارها لم تكن تلائم أكثر من دور «النضال التحرري»، لذا فإنه بالتأكيد لم يكن ليلعب دورًا كبيرًا في الهند المستقلة إذا طال به العُمر (اغتيل غاندي عام 1948م بعد عامٍ واحد من استقلال الهند عن بريطانيا)، وهو ما يُفسِّر الاعتراف السريع للهند بإسرائيل الذي جرى عام 1950م.
بعدها تسارعت وتيرة العلاقات بين البلدين وسُمح لإسرائيل بإقامة سفارة في نيودلهي، وباتت الهند أكبر مشترٍ للأسلحة الإسرائيلية، وأحد أكبر المدافعين عنها في الأمم المتحدة، وبحسب استطلاع رأي عالمي فاقت نسبة التعاطف مع إسرائيل في الهند نظيرتها في الولايات المتحدة نفسها بفضل الكراهية الجنونية التي تكنّها بعض الطوائف الهندوسية المتطرفة لكل ما يمتُّ للمسلمين بصِلة، وهو ما تجلّى في حرب غزة الأخيرة، وتكالب العشرات من الهنود من الشماتة في الضحايا الفلسطينيين عبر حساباتهم على «تويتر».
هذه العلاقات الجيدة بين البلدين لم تعكرها من حينٍ إلا آخر إلا سيرة غاندي التي لم تكفّ عن الاشتباك مع إسرائيل حتى بعد وفاته؛ في عام 2008م أثار حفيده آرون الجدل بعدما كتب مقالاً اعتبر فيه أن إسرائيل لاعب كبير في نشر «ثقافة العنف» في العالم.
ولأن إسرائيل اليوم باتت أقوى بآلاف المرات منها في عهد الجد، فإن هذه المقالة لم تمر مرور الكرام وأثارت عاصفة من الجدل لم تنتهِ إلا بإعلان الحفيد غاندي اعتذاره واستقالته من منصبه كرئيس لأحد معاهد نشر السلام في الولايات المتحدة.
مسيرة الاشتباك تلك لم تتوقف على هذه الخطوة ولم تتوقف أيضًا عن إثارة الجدل، ففي أواخر عام 2015م، وخلال زيارة للرئيس الهندي السابق براناب موخيرجي، وخلال افتتاحه شارع حمل اسم المهاتما غاندي في العاصمة الأردنية عمان، لم يجد خيرًا من هذا الاقتباس الشهير ليلقيه أمام الجمهور «فلسطين ملك للعرب بنفس المعنى الذي تنتمي فيه إنجلترا إلى الإنجليز..».
ومنذ عامين، أقيم احتفالٌ إسرائيليٌّ بالذكري الـ150 لميلاد غاندي بإعلان تسمية نصب تذكاري داخل مستوطنة «كريات جات» بِاسمه، في حضور عُمدة المدينة والسفير الهندي، وهو ما خلق عدة اعتراضات «قومية» بدعوى عدم وجوب الاحتفال بـ«غاندي، عدو اليهود»!